السبت، 14 نوفمبر 2015


إلى حسان في ذكرى ولادة...

ليس من شموع تليق بيوم مولد سيّد الكلمات...
وهل للشموع مقام في حضرة نجوم تتسابق لتستمدّ من معانيه ضوءها، وتفخر بأنّها عدد لمعدود لا يُعدّ...؟
بخٍ... بخٍ لك أيتها النجوم الرافلة بطهر حضوره... ومبارك معنى يستمدّ نوره من سرّ أعوامه ومعانيه...
وهل للمعاني عمر تراكمه السنون؟
ثمانية وعشرون عامًا والنجوم تضيء معموديّة التقوى، وترتّل أنغام اليقين والإيمان...وأنا رقم مهمل أنكره ضوء شمع يجيد الاغتسال في ماء ذاته.
ثمانية وعشرون عامًا ونفسي مثقلة بطيب الذكرى ولا من شمع يراكمني... ولا قناديل تعلن نهاياتها...والعيون ما برحت تسبح في مواقد تعبّدها... .
ثمانية وعشرون عامًا خطّتها روزنامة الحياة وما زال نور عينيك يرشح بسرّ الولادة، ويرسم حروف ضوء تتوضّأ بها معاني الصور...
في ذكرى ولادة...تحوكني الصور، فينجدل الحنين وردة تعيد تشكيل فرحها من أكمام حزنها. فهل الذكرى نور و نار؟ وهل الولادة بداية ونهاية؟ وهل الموت نهاية وبداية؟ وهل أنت أيتها النفس المغتسلة بزيت ألمها يغريك  حرف النون أم الباء أم تستعجلينهما معًا؟
بداية ونهاية ... فمتى كان بدء؟ ومتى كان نهاية؟ وهل يفصلهما إلاّ صفر هو أصل في معنى الأرقام؟ وهل الصفر إلاّ غلة سعي بين يأس ورجاء؟ والرجاء انبلاج الرغبة في رحيل حيث لا بدء  ولا نهاية...؟
نعم يا بني يعود يوم مولدك وعمري مازال يغتسل بلحظات الفرح المعجون بالانتظار، فأركع في محراب الوعد، وأرسم من مناغاتك قوة لا تعرف الهرم، وأكتب من وحي عينيك آيات لطفولة شحنت نفسي بالإيمان والتقى والرضى والطمأنينة؛ فأبصرك شابًا تدفّئ بسمته صقيع شيخوختي..
في ذكرى مولدك يا بني تتأنّق صورة مهد شهد نورًا سماويًّا كان يشعّ صلاة وتقوى  كلّما سمع صوت آذان أو دقّ أجراس...
 فوق ذاك المهد ارتسمت  هالة سلام فاضت إيمانًا ورضى ونعيمًا ومزيدًا من الشكر. ولكن ما الزيادة التي جاء بها الشكر؟ ألم يأتِ في الكتاب العزيز:" ولئن شكرتم لأزيدنكم"؟ فلماذا أثمر الشكر ثكلاً؟  ولماذا يقصف غصن أمومتي؟ ولماذا كانت زيارتك قصيرة؟
 كان لزيارتك بيتنا منذ ثمانية وعشرين عامًا معاني فاضت فرحًا صلاة وشكرًا وخصب يقين؛ فأزهر نور عينيك صلاة وتقى وهناءً وانهلّ ثغرك وعودًا ما حلم بها عقل ولا تخيّلها يقين...
 معك يا حسان كنت أشعر أنّني إنسان يعرف معنى الاكتمال البشريّ. لقد منحني نور حضورك فرحًا عظيمًا  ما زلت أفيء إليه في صحراء عمر أرهقه حدو الحنين..
على أهداب شجني يا بني أشعل تباريحي... وأسرج صلاة الشوق...وعيناك يا حبيبي منارة رجائي...
ثمانية وعشرون عامًا وما انطفأ سرّ يديك.. وما ذبلت ترانيم شفتيك ... فمتى يكون موتي وتكون قيامتك؟
وحدها نجوم السماء تعلن قداسة زمن ما زال طيب بخوره يبلسم جراح الثكل...ويبارك ترانيم عتبات الشوق...فتنجدل شموع رجائي  ضياء وعد..
كانت زيارتك بيتنا وعدًا انتظرته بألق الأمومة، وكان رحيلك قدرًا صلّيت وركعت وسجدت ورجوت ليكون لطيفًا...
ها هما يداي، يا حبيبي، لم يرهقهما انتظار بخورك... وها هما عيناي ما برحتا تقرآن ترانيم الفرح والألم والفقد والثكل والصبر...
إنّه الرجا،  يا حسان، يلّذ له الاشتعال على بيادر أمومتي وحنيني، فيصير القمح قناديل تحتضن أضواء نجوم تحتفي بيوم ولادة.
 في ذكرى مولدك، يا بني، ما زال الشوق يتأجّج إلى حدب يديك، وإلى فيض حكمتك، وإلى عطر هنائك... يراكمنا الانتظار وليس من شمع يغسل احتراق أيامي...وحدك يا بني تبارك معنى الصفر في ذكرى يوم ولادة... فهل الصفر غلة فرحي وحزني؟؟؟
بارك أيّها الملاك الطاهر مجامر صبري وانتظاري... لقد ملّني الصبر والتصبّر،  وليس من فرحٍ أعظم من فرح اللقاء....  فمتى يولد فرحي؟

مها خيربك ناصر
بيروت 22/12/ 2014


  

السبت، 7 نوفمبر 2015

اللغة العربية والهوية القومية

 

1_ فعل اللغة ومركزة الكينونة 

إذا كانت كينونة المكان الجغرافي التي تشكّل العامل الأساس في تكوين مركزية الانتماء القوميّ وجودًا بالقوة، فإن اللغة هي الوجود الفاعل الذي يكسب هذه الكينونة هويتها، ويمنحها خصوصيتها و يحرّضها على إنتاج ثقافة المكان، هذه الثقافة التي تتخذ أنماطًا لا تتناقض وشخصية الكيان، وذلك مهما تنوعت أشكال الثقافة وقضاياها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية والجغرافية والتاريخية وغيرها من القضايا الإنسانية التي تحتاج في تجسيدها إلى لغة تتبنى نقل الفكر من كمون سكوني إلى حضور فاعل.
بهذه الرؤيا تكون الثقافة نتاجا معرفيًا لا تقتصر مهمتها على التقويم بقدر ما تسعى إلى تكريس قيم المجموعات الإنسانيّة ثوابت قابلة لإنتاج عدد لا متناهٍ من المتغيرات الفكرية والمعرفية والحضارية، و تبقى حياة هذه المتغيرات وقيمتها وقدرتها على التوليد مشروطة بوجود لغة حيّة قادرة على احتواء نتاج كل تجربة جديدة تختزل خلاصة الحوار والصراع والتصادم والتفاعل والتواصل، وتحفظ سلامة المنتج، وتضمن فاعلية صلاحيته في الحاضر والمستقبل.
تكلّم علماء اللغة على تعدّد وسائل التواصل اللا ألسنية، وعلى دورها في عملية التواصل، فكان أفضلها، من حيث التواصل الإنسانيّ و التقدم المعرفيّ والتكنولوجيّ، أبجدية Braille Morse))،  و لم يقللوا من شأن الإشارات المنتظمة كإشارات المرور وغيرها، أو الإشارات غير المنتظمة كالملصقات الإعلانيّة أو الإشارة العرفية كإشارة الصليب الأحمر التي حققت تقدّمًا ترميزيًّا بارزًا؛ ولكن يبقى للغة اللسانيّة الدور الأكثر حضورًا وأهميّة على مستوى كينونة الحضور الإنسانيّ ومركزة فاعلية المجموعات وقدرتها على التطوير والتجديد والاستمرار والحوار من دون أن تخسر أيّة مجموعة شخصيتها وهويتها الذاتيّة وما يتولّد عنهما من خصوصية الانتماء القوميّ.
كشفت دراسات علماء الاجتماع عن دور اللغة القومية في تكوين شخصية الأمة، ورأوا أنّها أهم مكون من مكونات هويتها وسيادتها، وأنّها الشرط الأساس في توثيق العلاقات بين أبناء المتحد الاجتماعيّ، وأنّها العامل الأهم في تشكيل نهضتها القومية؛ فهي فعل تواصل طبيعيّ وحتمي، ينتج عنه تفاعل اجتماعيّ وجودي يضاعف من الشعور بالانتماء وبالمصير المشترك، و يحفز، في الوقت عينه، على تقوية نظام دفاعي يحمي الجغرافيا ويصون السيادة ويعزز الكرامة، فإذا خسرت أمة لغتها خسرت أهم مكون لوحدتها وحياتها وتمايزها وفرادة حضارتها، وخصوصية دورها في حركة كونية لا نهاية لها، ولذلك كانت اللغة من أهم عوامل تعزيز الانتماء القومي، وتوطيد دعائم الوحدة وما ينتج عنها من وجود حضاريّ وثقافيّ وعلميّ وسياسيّ ودوليّ بارز.
تتمايز الأمم الحية بتراث فكري وثقافي وحضاري ينقله الخلف عن السلف بلغة قومية تحفظ إرث الأمة ونتاجها وأشكال نهوضها المعرفي والاقتصادي وطبيعة تياراتها السياسية والاجتماعية والفلسفية وغيرها، فإذا انقطع مجتمع ما عن لغته انقطع عن جذوره وانتمائه وكيانه المعنوي،  وتغرّب عن أصالته، وفقد قدرة التواصل مع تراثه وتاريخه؛ ولما كان التاريخ توأم الجغرافيا، فإن جغرافية المكان عينها قابلة للتغيير والتشويه، لأن خسارة اللغة التي تحفظ الحقائق وتصون قيم الجماعة وتعزز الشعور بالانتماء هي خسارة كبرى على مستوى الوجود والكيان والمصير والكرامة. 
إنّ وظيفة اللغة الأساس تكمن في نقل العملية الفكريّة، ضمن المجموعة الواحدة، من رمزية التصور إلى ظاهر الصورة، فيصير المحتجب ظاهرًا خاضعًا للقبول والرفض والتأويل والتفسير والحوار والتفاعل والخلق والتوليد، فتكون اللغة، بذلك، مظهرًا من مظاهر النشاط الذهني، ومختبرًا لكلّ الحركات الفكرية، وحضورًا إنسانيًّا تتمظهر من خلاله الخصوصية القيمية لهذه المجموعة التي تعارفت على التواصل بلغة تضمن بها تأصيل وجودها الفاعل، بالإضافة إلى المحافظة على حركاتها وأنشطتها و صراعا تها وثقافاتها وتاريخها وحضارتها، بما يؤسس لمستقبل سياديّ للأجيال القادمة، وفق ما تفرضه شروط الكينونة ومركزية الانتماء وسمات خصوصيّة الهوية القوميّة.
تأسيسًا على ما تقدّم يمكن القول إنّ اللغة العربيّة لغة قومية حية تمايزت، عبر تاريخها الطويل،  بحضور محوريّ فاعل، إذ استطاعت بما تتمتع به من قدرات على تبني إرهاصات الفكر، وتجسيد تجليات العقل، وتحويل التصور الذهني من كمون سكوني إلى حركات فكرية ما تزال تؤسس لوجود عربيّ له كينونته الجغرافية ومركزيته الحضارية، غير أن الغزو الحضاري الذي يقوده الاستعمار الاقتصادي/ الثقافي الجديد يهدد باغتيال الوجود العربيّ الفاعل، وذلك من خلال محاولات خبيثة تهدف إلى توجيه الاهتمام إلى لغة العولمة، والتسويق لكل وافد غريب على أنّه ترياق الخلاص من أشكال التقوقع والتفتت والتمزق و الركود الاقتصادي والتخلف الاجتماعيّ.
إذا كان الخلاص ، وفق ما تنادي به العولمة، مرهونًا بإتقان لغة الآخر وتبني عاداته وتقاليده ومفاهيمه الغريبة عن بيئتنا وتكويننا وثقافتنا، فما هو موقع اللغة العربيّة قي نفوس أبنائها؟ وما هو مستقبل الثقافة العربيّة في واقع يتسابق فيه المثقفون العرب،عن قصد أو غير قصد، إلى التقليل من شأن اللغة العربيّة، والدعوة إلى الاستعاضة عنها بلغة أجنبية تضمن للإنسان العربي عملية التواصل المعرفيّ والتقنيّ؟  وبماذا يحلم اللاهثون وراء دعوات التقليل من شأن لغتهم؟ وما هي هوية ما ينتجونه من أفكار؟ و هل العجز كامن في اللغة العربيّة أم في إحساس الإنسان العربيّ الضعيف والمتخاذل؟
2_الواقع العربي/ التحدي والتشظي
تكشف عملية رصد دقيقة لحركية المجتمعات العربية خطورة الواقع العربيّ المأزوم، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا، بوصفه واقعًا مشحونًا بالمتناقضات والمنازعات الداخلية والضغوطات الخارجيّة المتعددة المصادر والأهداف، والتي تُندرج تحت عنوان كبير يرمز إليه بكلمة العولمة التي تتمظهر في بعدين اقتصادي وحضاريّ يخفيان مقاصد ثقافية وسياسيّة وإقليمية واجتماعيّة غايتها فرض حالة من التشظي الاجتماعي والوجودي والنفسيّ والكياني، وبخاصة في المجتمعات العربيّة.
تصطدم المجتمعات  العربيّة ،يوميًّا، بصعاب وتحديات  تفرضها عولمة اقتصادية في ظاهرها، وثقافية/حضاريّة في غاياتها وأبعادها، لأنّ هدفها الرئيس إضعاف الانتماء القومي و السيطرة فكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا على مقدرات هذه الشعوب، وتحويل مجتمعاتها إلى أسواق استهلاكية، ومن ثم جعلها حقول تجارب عسكرية وكيمائية، من دون أن تغفل قوى الاقتصاد العالميّة اهتمامها بالأفراد المتمايزين فكريًّا وعقليًّا وترويض قدراتهم من أجل خدمة مصالح الغزو بكلّ أشكاله وأنواعه.
إذا كان تشجيع العناصر المتمايزة على الهحرة مصحوبًا بالاغراءات المعرفيّة والمادية، فهو في الوقت عينه موجه ومبرمج من أجل القضاء على أيّة رغبة في تعزيز  الانتماء القوميّ،وبضعف الانتماء القومي تقلص نسبة  احتمال حدوث نهضة قومية تتبنى توعية المجتمعات وتخليصها من حالة التخلف والتبعية؛ وعندما يصير الإنسان العربيّ محكومًا بفتات العيش وتقبض عليه الحاجة، تدفع به غريزة البقاء إلى قبول الواقع ، فيصير مدافعًا عن  شروط العولمة الاقتصادية/ الثقافية، وخادمًا أمينًا لمصالحها التي تجعل منه رقمًا مهملاً في المعادلة الكونية الجديدة، بعد أن ينقطع عن جذور انتمائه وأصالته. 
إنّ هذا الواقع العربيّ المضطرب، والمرصود على المطامع الاستعماريّة، والخاضع، شاء أم أبى، لعولمة ممنهجة،  ما كان ليهدد   بالتصدع والتمزق، لو استطاع العرب أن يحافظوا،أولاً، على مناعة قيم قادرة على ردع تسلل سلبيات العولمة إلى تكوينهم الثقافي والقيمي،  وأن يتصدوا ، ثانيًا، لمخاطر انتشار أمراضها المعدية، وأن يحرصوا ، ثالثًا، على الاستفادة من إيجابياتها التي لا تتناقض وطبيعة التكوين الجغرافي والجيني والحضاريّ.
يقترن تحقيق الفرضيات السابقة بوجود وعي قوميّ يعزّز الثقة بالنفس، ويحرّض على  خلق حوار حضاريّ مع الآخرقوامه، إلغاء أية دعوة إلى  التبعية الثقافية والتقانية، والإيمان بالتعددية والاختلاف، والإعتراف بخصوصية التنوع الثقافيّ والحضاريّ، واحترام  مقومات الهوية القوميّة المادية والمعنوية للشعوب المتحاورة.
 مما لاشكّ فيه أنّ الوعي القوميّ يكرّس حرية التفكير والمعتقد حقًا طبيعيًّا للشعوب، وينشّط، في الوقت عينه،  عمليات الحراك السياسيّ والتطور الاجتماعيّ والثقافيّ، وبالحراك الثقافيّ تفرض اللغة القومية نفسها عاملاً رئيسًا في إنتاج الحضارة؛ غير أنّ الواقع العربيّ المستلب والقابع تحت تراكمات من القهر والتحديات ومحاولات الإلغاء يشي بغربة المواطن العربيّ، وبتراجع الشعور بالانتماء القوميّ، ووبزعزعة مقام اللغة العربيّة وبإضعاف دورها الحضاريّ،  فهل سيصير المثقف العربي رقمًا تابعًا في معادلات الحركات الثقافية  والعلميّة والحضاريّة الكونيّة؟ وما هو مستقبل اللغة العربيّة في فضاء معولم مشحون  بالتحديات؟
تفرض رغبة البقاء الماديّ والبروز الاعلاميّ على بعض الطامعين والطامحين  أن يتبنوا أفكارًا مستوردة تجعلهم يبالغون في رسم  الواقع العربي المأزوم  والمتوتر على المستوى الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والحضاريّ والإنسانيّ، فيؤكد بعض متصدري الساحات الثقافية العربيّة أنّ اللغة العربيّة عاجزة عن التطور العلميّ والتقنيّ، فكثرت الحملات الدعائية المطالبة بالتخلي عن اللغة العربيّة الفصيحة، وبالدعوة إلى تبسيط النحو العربيّ، وتحريره من صرامة القوانين الصرفيّة والنحويّة.
غالى بعض مدرسي اللغة العربيّة في تصوراتهم وتحليلاتهم فطعنوا بمنطقية القوانين النحوية والصرفية التي استنبطها علماء عرب وغير عرب كان لهم وجود فاعل في ميادين العلوم والفكر ، وبالغ المثقفون في استخدام لهجات عامية، لم ينج منها متلقو علوم اللغة العربيّة في الجامعات والمعاهد، وبخاصة بعد أن استباح  الإعلام العربيّ حرمة القوانين اللغوية، وأوجد نوعًا من الرضى والقبول بالتدهور اللغويّ، وفرض حضورًا لغويّا سالبًا على مستوى التأسيس المعرفيّ.

 حرص الإعلام العربيّ، وكذلك المؤسسات التربويّة، على الإساءة المباشرة إلى اللغة القوميّة، بتغطية سياسيّة  يعمل على فرضها وترويجها بعض العاجزين عن فهم طبيعة اللغة العربيّة، وبعض اللاهثين وراء بورصة المراكز التي تُسعّر أسهمُها بإراقة ماء الوجه أمام ذوي السلطة، وبعض الضعفاء الذين يتخيلون صعلكتهم  وانسحاقهم أمام كلّ أعجميّ كبرًا؛( لا تعني كلمة الأعجميّ الآخر المختلف  بقدر ما تعني الشيء الغريب الغامض )، والسبب كامن في شعور هؤلاء المتزحلقين بالضعة أمام كل جديد ملتبس الفهم، نتيجة انعدام الثقة بالذات وغياب المحاكمة العقلية التي تساعدهم على  إخضاع الوافد للفحص والتحليل، وكذلك  بسبب غياب الوعي القومي الذي يقوّي مناعة المثقفين، ويوقف  تشظي الشعور القوميّ، وحالة التبعية في معظم المجتمعات العربيّة. 

فرضت التبعية واقعًا ثقافيًّا يفتقر إلى عناصر تحرص على التمسك  بمركزية الجاذبية القوميّة، ومن المؤكد أنّ غياب العناصر الفاعلة على مستوى التحريض القوميّ يهدد بخسارة الفعل المقاوم، وبضياع قضية الانتماء، فتتحول فرضيات الغزو الثقافي إلى ثوابت تتقبلها الشعوب من دون ممانعة، فتُحرف  الحقائق، و تُنتهَك الجغرافيا، وتُقزَّم الهوية  وتُلغى المعايير العلميّة، ليحلّ مكانها الشخصانيّة والاستنسابيّة، لأنّ الجودة ليست شرطًا في عملية الإنتاج؛ وإنّما النفعية والخدماتية على المستويات جميعها، وبخاصة على المستوى الأدبيّ الذي غابت عنه القيمة الإبداعية، وحلّ مكانها غوغائية الدلالة المقرونة بالضعف اللغويّ الذي صار عند بعضهم  ميزة العباقرة والمبدعين، وإذا أظهرَ مثقف حقيقي حرصه على اللغة العربية، نُعت بالتخلف والأصولية والجهل، لأنّ التطور اللغويّ، في رأي هؤلاء، مقصور على استباحة حرمة القوانين وتلويث فضاء اللغة، الذي ظهرت نتائجه السلبية في استخدام اللغة العربيّة، وتسلل الضعف إلى مختبراتها وأدواتها، وأنساق نتاجها في شتى أنواع العلوم والمعارف.
من المؤكد أن الفضاء الثقافي العربيّ ما زال نابضًا بفاعلية بعض المثقفين العرب الساعين، دائمًا، إلى  تعزيز دور اللغة العربية، لأنّها تشكّل عامل وحدة بين بنيات المجتمعات العربيّة المتباعدة، وبها تُصان الهوية الثقافية العربيّة من الضياع والتذرية ، وبها تُشحذ الهمم لمواجهة هجمات التحدي والإلغاء، لأنّ اللغة مختبر إنتاج معرفيّ لا يقوم بذاته بل بطاقات العاملين على تطوير أدواته وتفعيل مواده واحترام قوانينه، فاللغة العربيّة، في رأي بعض المبدعين العرب، ما زالت تحتفظ  بفاعلية فكرية حياتية حركية أمامية لا نهاية لها، فإذا توقفّت الحركة فسُدت الأدوات وتعطلّت فاعلية المواد التوليديّة.
تطرح القراءة المنطقية لأنساق الثقافة في الوطن العربيّ وموقفها من اللغة العربية أسئلة كثيرة يمكن اختزالها في سؤال مركزي هو:هل يستطيع الإنسان العربيّ المهزوم من الداخل  أن  يحرص على حماية طاقات اللغة، وهو يعيش حالة استلاب تمنعه من التصدي لهذا الكم الهائل من الصعوبات والتحديات والإغراءات؟ وهل هو راغب في أن يعيد إلى الفضاء الثقافيّ سيادة اللغة العربيّة؟

3_قرصنة الفضاء الثقافي العربيّ/ الإغراء والإلغاء

حققت اللغة العربيّة، في حقبة مضيئة من التاريخ، وجودًا معرفيًّا فاعلاً، وتمايزت بسيادتها على فضاء ثقافيّ أغنته بأدوات الخلق وأثرته بإرثّ إنسانيّ ّ أنتجته عقول مفكرين وعلماء وأدباء وفلاسفة ومناطقة وغيرهم من رجالات العلم والأدب، فكانت فعل تواصل معرفيّ  حرّض على التفاعل الفكريّ /الحضاريّ، وأنتج  تراثًا عالميًا، كان له دور إيجابي في حركية العلوم وتطورها، فجسّدت هذه اللغة،بالإضافة إلى رمزها القوميّ، رمزًا إنسانيًّا ومعرفيًّا،  سعى إلى الاعتزاز به مثقفون عرب وغير عرب، تنافسوا في كشف أسرار تراكيبها، وعملوا على استنباط قوانينها، وصارت خيارًا واعيًا لابدّ منه لمريدي المعرفة، ولقد روى ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق أنّ:" عبد الملك بن مروان سأل رجلاً دخل عليه: أمن العرب أنت أم من الموالي؟ فأجاب الرجل.. يا أمير المؤمنين... إن تكن العربية أبًا، فلست منها، وإن تكن لسانًا فإني منها. قال عبد الملك ...صدقت".
تشير هذه الرواية إلى أمور كثيرة لعلّ أبرزها رغبة غير العرب في إتقان هذه اللغة، بوصفها الفضاء الفكريّ الحر الذي تلاقت فيه حركات الفكر العالميّ كلّه،ثمّ تفاعلت لتنتج حضارة إنسانيّة ينتمي إليها عرب وغير عرب، مسلمون وغير مسلمين، فكانت، بحق وجدارة، فعل كينونة وفضاء انتماء.
حققت اللغة العربيّة،إذًا،  وجودًا حضاريًّا  ودورًا رياديًّا، فنشرت المعرفة في معظم أصقاع الأرض، وكان لها فضل في حفظ العلوم وتطوير أدوات الخلق الفني، وهي قادرة اليوم على تبني نظريات المعرفة الحديثة إذا استطاع أبناؤها أن يردعوا هجمات الغزو الثقافي المعولمة، ويعملوا على إحياء الخصوصية القومية التي تساعدهم في استعادة ثقتهم بانتمائهم،  و فهم  دورهم الكياني والوجوديّ ، وهذا مشروط بتحررهم من سلطة الآخر ومن وهم الحداثة التي ألبسوها أثوابا ليست لها، فالحداثة قديمة قدم التكوين العقليّ، ولا تعني التخلي عن الموروث بل التأسيس عليه والعمل على تفعيل الجوانب  الحية   بوعي تام للثوابت والمتغيرات المستجدة على مسرح الوجود والفاعلية، فالحداثة تجسّد  استجابة العقل الإنسانيّ المبدع للتطور الطبيعيّ والحتمي،وهذه الاستجابة لا تحقق ذاتها إلاّ في فضاء لغويّ قوميّ معافى من تشويش التحديات ومحاولات الغزو.
 عرفت المجتمعات العربيّة ضغوطات سياسيّة و إغراءات اقتصادية وثقافيّة،غايتها التضليل والإلغاء، وكان للغة العربية النصيب الأوفر من حملات التشويش ، ولكنّ الشعور القوميّ  تصدّى لمعظم هذه الهجمات، ولم يتخل العرب عن لغتهم على الرغم من محاولات استعمارية متنوعة سعت على مدى قرون إلى فرض لغة الدولة المستعمرة، لأنّ المفكرين والمثقفين العرب آمنوا باللغة العربيّة أداة تواصل قومي وتفاعل حضاري، فرسخّوا دورها،  ورفضوا نعتها بالعجز عن مواكبة التمدن، ورأى المعلم  بطرس البستاني أنّ الذين يدّعون بأنه لا يمكن التمدن تحت ظلال اللغة العربية، لا يعرفون مقدار فضل هذه اللغة، و فاتهم أن تمدنها أقرب وأسهل وأفعل من تمدن أبناء العرب تحت تأثير لغات أجنبية متنوعة، ولكن هل يستطيع العرب،اليوم، تعطيل نتائج  الغزو الأكثر إغراء، في واقع عربيّ أقل مناعة ومقاومة؟
تظهر عمليات الرصد والإحصاء أنّ  الغزو المبرمج على فضاء الثقافة العربيةّ أوجد تداعيات وطنية وقومية، تجلت في رضوخ العرب وصمتهم وتبعيتهم، فهم أقل خوفًا على المصير، وغير معنيين بالتراث، وغير مهتمين  بغيابهم عن مسرح الكينونة القومية والإنسانية، وغير مكترثين بانعدام الفعل الحضاريّ العربيّ، و تهميش دور اللغة العربيّة التوليدي/ الحضاريّ، لأنّهم استسلموا إلى إغراءت مفرّغة من كل قيمة، فأسهموا في القضاء  على الشعور القوميّ، وفي فرض ثقافة مستوردة لا علاقة لها بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، ثقافة تزرع التفرقة وتؤجج الخلافات وتغري بانتماءات عرقية ومذهبية وطائفية و مناطقية، غايتها تفتيت  الطاقات وتكريس حالة من الاغتراب بين الإنسان وتراثه.
اتخذت  التداعيات  القوميّة أشكالاً وأنماطًا متنوعة، وكان أخطرها، في رأيي، دعوة  بعض مدرسي اللغة العربية في بعض الجامعات إلى اعتماد اللهجات المحلية في أثناء إلقاء محاضراتهم، وبالغ بعضهم في الدعوة إلى تحرير اللغة العربيّة من قيود الحركات الإعرابية رغبة منهم في تيسير النحو، وعلّلوا ذلك بأن حركات الإعراب لا علاقة لها بفهم موقع الكلمة في السياق، و لا يساعد على إدراك كون الكلمة فاعلاً أو مفعولاً؛ لأنّ الذي يُحدّد ذلك المتحدث.
 تظهر القراءة التأويلية لمطالب هؤلاء المدرسين أنّ العقل العربيّ يعاني حالة من انعدام المنطق في المفهوم،إذ غاب عن إدراكهم أنّ النحو لا يعطي الكلمة موقعها  في السياق وإنّما الفكر، فلو علم المتحدث أن هذه الكلمة وقعت فاعلاّ لما عجز عليه أن يوسم أخر الحرف بعلامة الرفع، فالمشكلة ليست في النحو، بل في العقل العربي الذي يعجز عن إدراك العلاقات التي تتحكم في إنتاج الخطاب؛ لأنّ الإدراك العقلاني لقيمة الكلمة الدلالية في الخطاب  يضمن سلامة أدائها النحويّ ، لذلك ارتبط إنتاج اللغة   بالفكر الذي يحوّل ظاهر المرئيات المنبثقة عن تجليات الفكر  ألفاظًا تشير إلى المعنى الحاصل في العقل أي "الصورة الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان"؛ كما قال القرطاجني.
إن اللغة التي لا يحكمها العقل بل تتحكم بالعقل هي لغة انفعالية لا تنتج ثقافة حياة لذلك يجب أن تستعيد اللغة العربية خصائصها المنطقية وقدراتها على تدوين العلوم والمعارف والحقائق، فتخاطب العقل قبل أن تستجدي العاطفة الجماهيرية، فيكون العمل على تدعيم  مركزية الانتماء وتعزيز دور اللغة النفسي والمعنوي والفكري والاجتماعيّ، بما يضمن معالجة قضايا  اللغة  ويصونها من أهداف الهجمة السياسية والعسكرية والحضارية والثقافية، ويوقف مخططات الإغراء والإلغاء، ويخلّصها من الاغتراب القوميّ.
4_اللغة العربية والاغتراب القومي
إذا كانت حكومات الدول المتقدمة تحرص على تعزيز الدور القومي للغة الأم بعد ما استشعرت خطر التيه الأميركي الهادف إلى فرض حالة من التبعية الفكريّة والثقافيّة، فأمدّت مراكزها الثقافيّة في العالم بدعم ماديّ ومعنويّ لتعليم اللغات، ولذلك شهدت مدن عربية كثيرة دورات لتعليم اللغات كالفارسية، والتركية والصينية والاسبانية والايطالية والفرنسية والروسسية وغيرها من لغات الأمم الحيّة، فما هي الإجراءات التي قدّمتها الحكومات العربية لتصدّ بها هجمات التغريب والإلغاء؟
لقد نصت دساتير الدول العربية على اعتماد اللغة العربيّة لغة رسمية، وهذا يفترض تعزيز دور اللغة العربية بوصفها  لغة قومية تضمن التواصل وتحفظ خصوصية الانتماء القومي، وتختزن التراث  العربيّ، غير أنّ ما تشهده الساحات  الثقافية على امتداد الوطن العربي يعكس  مخاطر أزمة الاغتراب المفروضة على اللغة العربيّة الفصيحة، هذه اللغة  المُبعدة عن فاعلية التداول الثقافيّ، بعد أن تصدّرت اللهجات المحلية أو اللغة الإعلامية البيضاء الخطاب الثقافي والتعليمي في المنتديات الفكريّة و المعاهد والجامعات ووسائل الإعلام، وصار استخدام اللغة السليمة الفصيحة مبعث استهزاء، جعلت من المتخصصين في اللغة العربيّة وآدابها أقلّ شأنًا في معظم الدول العربيّة، وأقل حظًا في الحصول على عمل، بعد أن تخلت المؤسسات التربوية عن دورها القوميّ بتشجيع، أو بغض الطرف من بعض القوى السياسية العربيّة.
لقد استهدفت  الهجمات الثقافية الأصالة والانتماء، وركّزت على اغتيال الفكر العربيّ، وعلى تصدع البنية الثقافية، وعلى خلق اضطراب في شخصية المثقف العربي، بغية تعميق الخلافات وتراكم التداعيات و المعوقات الداخلية، فنتج عن ذلك  فقدان الثقة بالنفس، و التخلي عن الأصالة التراثية، واغتراب حقيقيّ عن اللغة العربية الفصيحة ،  بالإضافة إلى تشوه الشخصية القومية وتفتيت دعائم الوحدة، وتعزيز التفرقة الدينية والتنكر لكلّ ما هو عربيّ، مع كل ما يرافق ذلك من تعظيم  لأيّ وافد، فإذا كانت العولمة الثقافيّة تدعو  إلى تحطيم القيم وتعميق  الأزمات بين الإنسان العربي ولغته، و التعويض عنها بقيم سلبية، فلقد حققت أهدافَها في واقع عربيّ مفكك ومهزوم يجرجر انتكاساته القومية، ويراكم هزائمه المعنوية، ويرسخ تخلفه وتبعيته حداثة وتجديدًا مزيفين.

إنّ التجديد والحداثة من طبيعة الحياة، والحداثة اللغوية العربيّة لا تكون بفهم خاطئ للحداثة، بل بتحقيق ارتباط منطقيّ بالتراث؛ أي ارتباط أصالة لا ارتباط قداسة، وبفرض علاقة واعية مع الوافد، أي علاقة حوار لا علاقة استزلام، لتتم الموازنة بين الموروث والوافد، أي  بفحص الوافد، وفرز الموروث ، وتلقيح ما هو قابل للتطوير بما هو صالح لطبيعتنا وتكويننا ومفاهيمنا، غير أنّ غياب هذه المعايير  ساعدت على تشظية الشعور القوميّ، وأسهمت في تعدد أسباب التقصير في معظم المؤسسات العلميّة والأكاديميّة وبخاصة في أقسام اللغة العربية التي تخلت عن دورها في تعزيز مكانة اللغة العربية وفرض اللغة الفصيحة لغة الخطاب بين الأستاذ وطلابه، من دون  أن نهمل الدور السلبي الذي تؤديه  مجامع اللغة العربيّة التي تقدم رعاية خجولة إلى التراث اللغوي، لأسباب كثيرة منها ما هو معلوم وأكثرها في ذمة غياب المنهج العلمي المنطقي الذي يعيد إلى اللغة العربية علاقتها بالفكر المنطقي والعقل الخلاّق، ويبشر بمستقبل أفضل للغة العربيّة وبالتالي للفكر العربيّ.

5_اللغة العربية والمستقبل العربيّ

فاقت اللغة العربية معظم اللغات التي اقترضت منها، وأقرضتها، فكانت أكثر اللغات السامية جمالاً وتكاملاً في الصورة الصوتية ولقد أورد ابن الأثير قصة تختزل تفوق اللغة العربية، فقال: " حضر عندي في بعض الأيام رجل من اليهود، وكنت في الديار المصرية، وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان كذلك، فجرى ذكر اللغات، وأن العربيّة هي سيدة اللغات، وأنها أشرفهن مكانًا، وأحسنهن وضعًا، فقال ذلك الرجل: كيف لا تكون كذلك وقد جاءت آخر، فنفت القبيح من اللغات قبلها، وأخذت الحسن، ثم إن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة فاختصر ما اختصر، وخفف ما خفف، فمن ذلك اسم الجمل، فهو عندنا في اللسان العبراني( كوميل) ممالاً على وزن فوعيل، فجاء واضع العربية وحذف منها المستبشع، وقال جمل، فصار خفيفًا حسنًا"( ابن الأثير،المثل السائر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد،1/191.).
 إن كلام اليهودي على الرغم مما يحمله من شعور بقدم اللغة العبرية وأسبقيتها،  فإنه إقرار صريح يؤكد  تفوق اللغة العربيّة في صيغها الصرفية والصوتية، ويظهر تمايزها بالتكافؤ والانسجام والمنطق  والجمال ، ويشير في الوقت عينه إلى قدرتها على الاقتراض والاكتساب والتطويع وتحقيق التبادل المعرفي بين العرب وغيرهم، وتظهر حرص العرب على إثراء اللغة مع المحافظة على خصوصية الهوية الثقافيّة القوميّة، فاقترضوا ألفاظًا فرضتها ضروروات التفاعل الفكري بين العرب وغيرهم من الأمم، وصارت هذه الألفاظ من مكونات المعجم اللغويّ العربيّ، وفي نسيج الخطاب العربيّ بعد أن أخضعوها لقوانين  الصرف والنحو. ولم تقف عملية الاقتراض عند الأخذ من الآخر بل كان لهذه اللغة من المرونة والأصالة ما سمح لأمم غير عربية أن تستقرض  عددًا كبيرًا من المفردات التي ما تزال حية في المعاجم والاستخدام.
إن التبادل الثقافي بين العرب وغيرهم، اليوم، غير متكافئ لأنّ العالم العربيّ يكتفي بنقل فكر الآخر وتحويل ساحاته الثقافية إلى ساحات مزاد تستهلك ما يعرض عليها من مواد وافدة لا تعرف قيمتها إلا بالقدر الذي يصل إلى الأذن من التوصيف السطحي للسلع الفكرية المعروضة والتي تسيء ،لا إراديًّا، إلى بنية الثقافة العربيّة،  فانشغل المثقفون العرب بالكلام على أهل الفكر والعلم ونتاجهم الفكري من دون أن يكون لهم رأي أوموقف محدد من أفكارهم وآرائهم، فأوغلوا في التبعية، وتنكروا لتراثهم اللغويّ المشحون بالقدرات والطاقات القابلة للتجديد.
إن الخلاص من حالة التبعية بلوغ حالة الشفاء من الشعور بالضعة وجلد الذات مشروط بإحداث  صدمة ثقافية يسترد بها الإنسان العربي  وعيه القوميّ، فيتخلص من القلق والاضطراب ويخرج على البلادة القاتلة، ويسعى إلى تحسين الواقع، وتقوية المناعة، وتعزيز فعل اللغة العربية المقاوم،ويكون النهوض بتعليم اللغة العربية على أسس منطقية بعيدة عن التلقين والببغاوية  بما يضمن تحريض العقل على الإبداع وتحرير الفكر من جمودية الصياغة اللغويّة، فتستعيد اللغة قدرة نقل الأفكار وتتخلص من إطلاق عبارات ومصطلحات غير واضحة أو مفهومة، وهذا يتطلب تفعيل  دور اللغة باللغة نفسها، لتستعيد قدرتها على الاقتراض والاكتساب والتطويع فتصير المفردات الوافدة جزءًا من القاموس العربيّ بعد إخضاعها لقوانينن الصرف والنحو، وفي هذا المجال لا بد من التنويه  ببعض المؤسسات الثقافية العربيّة التي نجحت  في استخدام المفردات غير العربية ووضعها في  حيز الاستخدام والتداول العلميينن مثل؛ الدبلجة_ _الأتمتة_ الانترنيت، كبتر_ الفاكس_ التلفزة، البرامج المتلفزة_ من دون أن يسيء هذا الاستخدام إلى التكوين اللغويّ.
تشكّل اللغة العربيّة المكوّن الأساس لوجود المجتمع وترسيخ ثقافة الكيان والجغرافيا، وهي العامل الرئيس في تطور الذات العربية من الداخل وتخلصيها من عقدة الدونية، ومن تعظيم كل وافد غريب، وبها يكتسب العقل العربيّ  نشاطًا لا حدود له، وبالنشاط العقلي عينه تكتسب اللغة حياة وخصبًا ونماء، لأنّ العلاقة بين اللغة والعقل علاقة تلازم وتكامل، وبهذه العلاقة تتم عملية تجسيد  إشارات الفكر حركات لا تنتهي، تتواصل وتتقاطع في مركزية تفاعل كيانيّ، غايته التواصل والتفاهم من أجل تكريس واقع حضاريّ مرتبط  بالأصل بقدر ما ينبئ عن حركية الحاضر ويؤسس للمستقبل.
6_ اللغة العربية /هوية انتماء
لما كان  التطور الإنسانيّ مشروط بالاتفاق المسبق على لغة تتبنى تجسيد هيولى الفكر ، فإنّ عملية التطوير التي يسعى إليها قوم ما، في بقعة جغرافية ما، مرتبط بقدرة المجموعات على التواصل الفكريّ الخاضع في إنتاج المتغيرات لمجموعة من المعطيات والعوامل  التي يوازن بينها منطق عقلي تتجلى فاعليته في منطوق لغويّ يفصح عن مرتبة العقل وعن مسارات حركته وعن فاعلية قدرته؛ فلا قيمة لمكان من دون لغة تفصح عن أعجمية السكون وتتبنى نقل شيفرات التجارب الانسانية بوضوح وصدق وشفافيّة، لأن اللغة تحفظ  شخصية المكان المعنوية، وتصون تراثه وتاريخه  من الضياع، فهي، إذًا، ضمانة للكيان من التفتت و التشظي .
إن اللغة العربية لغة إنسانية قادرة على إثبات ذاتها وفرض دورها وموقعها في  امبراطورية اقتصادية جديدة  تسعى إلى عو لمة الثقافة، وذلك إذا استعاد الانسان العربي أصالته وأعاد إلى لغته طاقاتها وقدراتها الاكتسابية التطويعية والتدوينية، وأحيا قوانينها الصرفية والنحوية، بما يضمن سلامة المنتج العقليّ  وجعله، بفعل اللغة ،حضورًا محوريًّا بين حضارات العالم وثقافاتها، فيتمكن الانسان العربيّ أن يطأ  الهزيمة بمنتج لغويّ  يؤسس لثقافة الحياة والجغرافيا والكينونة ويرسخ مركزية  الانتماء القومي، ويرسم مسارات الحركات الفكرية وأشكال التفاعل الحضاري والثقافيّّ. فهل ستستعيد  اللغة العربية دور ها الحضاري المقاوم وتكرّس الهويات العربيّة إنتماءً قوميًا؟
أ.د. مها خيربك ناصر
أستاذة النحو والصرف والنقد الحديث والدراسات العليا
الجامعة اللبنانيّة


الاثنين، 26 أكتوبر 2015

جدلية العلاقة بين التخييل الغيبي ومركزية القصدية[1]
رسالة الغفران أنموذجًا
أولاً:  عتبة البحث
يشغل النقد السردي حيزًا رئيسًا في فضاء الكتابة العربيّة، بوصفه، أولاً، عملاً إبداعيًّا مؤسسًا على حضور إبداعيّ يفرض نفسه على مستوى الثقافة، وبوصفه، ثانيًا، نشاطًا فكريًّا يستمد منشطاته الأساس من النظريات العالمية المتنوعة والمتمايزة.
شهدت الساحات الثقافية العربيّة زحمة مؤتمرات تتمحور عناوينها حول إمكانية تفعيل نقد الرواية العربيّة من منطلقات النقد الغربيّ، فوشمت معظم الدراسات بكثرة المصطلحات وتعددها، كأنّ العمل النقدي لا يستقيم إلا إذا رُصعِّت تراكيبه بتعابير ومصطلحات غير عربيّة، علمًا أنّ تموضع بعض المصطلحات  في معظم الدراسات لا يتفق والسياق.
مما لاشك فيه أنّ علماء النقد العالميين أسسوا لنظريات غايتها تكريس علمية النقد، وسعوا إلى تفعيل الفكر النقدي، وحثّه على فض الأسرار المسكوت عنها، والمحتجبة وراء ظلال الألفاظ، معينهم في ذلك ابتكار إجراءت وأساليب ومناهج و  مصطلحات توسعوا في تحديد مفاهيمها  لتكون عونًا للدارسين والباحثين في فهم وظائف عناصر الخطاب الروائي، ومن ثمّ مقاربتها وتأويلها بما يخدم تكريس العمل السرديّ منتجًا إبداعيًّا قابلاً للحياة.
 حظيت وظيفة الراوي ودوره في عملية السرد الاخباريّ بالاهتمام ، لأنّ للمتكلم /الراوي دورًا رئيسًا في التقاط الصور والاشارات، وإعادة تركيب مدلولاتها بما يتوافق ورؤاه وتطلعاته وأفكاره، فيقيم من الكلّ المبعثر المتمظهر بالفوضى، كلاً متكاملاً نابضًا بالدلالات والرموز والمعاني، أو يخلق من تخيلاته شخوصًا تتحرك وتنطق وتتكلم وتتحاور بما ينتقيه ويرغب في إيصاله والكشف عنه راوٍ ، هوفي معظم الأعمال السرديّة المؤلف نفسه.
اتخذت فنون الحكي والأخبار مسارات تنوعت بتنوع الأحداث وتباين الطاقات الابداعيّة القادرة على التقاط الصور؛ المرئية منها وغير المرئية، فكانت الحكاية من أهم قنوات التواصل المعرفية، وصار اللمتكلم /الرواي سلطة تأثير على المتلقي، لأنّه الوسيط الذي يحوّل  المُخبر عنه/الظاهرة المرئية  إلى صور لفظية تنغلق على صدقية العلاقة القائمة بين ذات الراوي المتكلمة، وجوهر رؤيته للكون والحياة وما يتداخل في حيثياتها من أحداث تتقاطع في مركزية بوح تكرّسها أنا المتكلم/ الراوي طاقة قبض على المرئي والغيبي في اللحظة عينها.
 تتجرد لحظة القبض من مادية الوجود الملموس، من دون أن تخسر حضورها الهيولي المكثّف، كونه فضاء زمنيًا يفضي بالخيال إلى معانقة الألفاظ ومكاشفتها، وذلك  بما تحصّل عليه من معارف وأسرار، فتقوم اللغة بدور المتبني الحاضن الرؤى والأفكار، ويصير الجسد النصيّ أحد تجليات الفكر في أثناء لحظة القبض هذه؛ وبالتالي لا وجود للمؤلف خارج النص، ولا وجود للنص من دون مؤلف.
استنادًا إلى ما تقدم يمكن القول إن علاقة المتكلم بخطابه علاقة الكل بالجزء، لأنّ للخطاب السردي، شأن أي خطاب، ذاتًا تنبض بروح خالق النص، بوصفه، أي الخطاب، ذاتًا من ذوات الخالق  المتجلية في لحظة قذوذية ما، ولكنهّا ليست ذاته المطلقة القادرة على استساخ ذوات تتعدد وتتنوع بتنوع ماهيات الخطاب وذوات المخاطَبين، وبذلك تكون أنا المتكلم هي عينها ذات المؤلف في لحظة الخلق الابداعيّ، ولكن العلاقة بينهما ليست علاقة مطابقة في أزمنة التوليد جميعها.
إنّ عملية الخلق هذه ترعى ولادتها طاقة تخييل تحرّض على خلق علاقة جدلية بين المؤلف والمتكلم، فتتشكل معادلة فلسفية يمكن اختزالها بالقول" هي هي، وليست هي هي"؛ بمعنى أن ذات المتكلم هي عينها ذات المؤلف في لحظة الخلق الفذوذية التي فرضتها و أوجدتها عملية التلاقح الابداعيّ،  غير أن" الهي" المتكلمة  ليس بإمكانها أن تختزل أو تحيط بكلية " الهي" المبدعة  الخالقة التي تفيض من ذات كلية على ذوات  تخلقها بنفسها لتمنحها بعضًا من حقيقتها ومعرفتها وأسرارها، من دون أن تخسر كليتها ووحدتها، أو تتخلى عن دورها في القبض على حركية الذوات الخارجة عن الكل، والمنضوية تحت إرادة الكلّ، في اللحظة عينها، وذلك بفضل التخييل الذي رفعه ابن عربي إلى مرتبة العلم، وربطه القرطاجني بدقة اختيار المعاني؛ إذ لا  إبداع من دون تخييل قوامه العلم والمعرفة؛ أي العلم بحقلئق المرئيات، والمعرفة اللغوية الضامنة ولادة أجساد نصية لا تشويه في بنيتها؛ سواء أكانت شعرية أم سردية.
يزخر التراث العربيّ بأقاصيص وأخبار ينقلها راوٍ محوريّ ممسك بالخيوط جميعها، ومتسلط على الشخصيات الرئيسة التي تتحرك بإرادته، و لا تتكلم  إلاّ بما يتخيل أو يرى أو يعتقد.  فكانت شهرزاد متكلمة باسم مؤلف أوكل إليها مهمة  ضبط حركات الأبطال وتصرفاتهم وأقوالهم، وكذلك فعل بيدبا الفيلسوف والجاحظ والهمذاني، فكان للتكلم حضور وسم غياب المؤلف بالموت، وفق ما ذهب إليه رولان بارت، غير أن حضور المؤلف يبقى هيوليًا قابضًا على وحدة العمل،  بوصفه المونيتور monitorالخفي الذي يحرك الأبطال من وراء ستارة الألفاظ.
 بهذه الرؤيا يمكننا قراءة رسالة الغفران لأبي العلاء المعريّ ، إذ جاءت الرسالة  تأطيرًا للحكي العربي المسكوت عنه، و تجسيدًا صادقًا عن تفاعل الغيب والحاضر في لحظة فذوذية ربطت الحكايات بسياقاتها الاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية، فجعل أبو العلاء من الألفاظ حجابًا يستتر وراءهه، ونفخ بابن القارح بعضًا من روحه، لتكون ذاتًا من ذواته الناطقة بأفكاره ، وبما يرغب ويؤمن، وبما لايرغب ولا يؤمن.
استنادً إلى ما تقدّم كيف يمكن تحديد علاقة أبي العلاء/ المؤلف بابن القارح /المتكلم؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم ماهية الخطاب السردي في رسالة الغفران ومن ثم كشف طبيعة العلاقة بين الكاتب والرواي.
ثانيًا: ماهية الخطاب السردي في رسالة الغفران
لما كان الخطاب الأدبي مخلوقًا فيه من روح خالقه، فهو إذًا ، يتقمص بعضًا من شخصية صانعه ومبدعه، وهكذا هو نص أبي العلاء الذي عاش قناعات دينية حررته من التعصب والتزمت، وأقصته عن الاعتقاد بالقشور والاهتمام بالظواهر، لأنّ الدين ، في رأيه، جوهر يقوم على حقائق ثابتة  لاتناقض فيها، ولذلك لم يجد  حرجًا في الاطلاع على التعاليم الدينية اليهودية والمسيحية، ولم يتنكر، في الوقت عينه، لموروثه الديني الاسلامي، بل تمتع بثقافته اسلاميّة شاملة سمحت له أن يحكم على أهل الصفا بالتقدير وعلى الكثير من رجال الصوفيّة بالكذب، فأنطق نصوصه بما آمن واعتقد.
اتسمت شخصية أبي العلاء بالتعالي على المصائب والمصاعب، وبرفض سكونية المقدس ، رائده في ذلك فعل الطموح والتمرد والصدق والوعي والفكر الفلسفيّ الذي أكسبه قوة الحجة والمنطق، فكذّب بفكره المنطقيّ الظنون، وجعل العقل إمامًا يهدي إلى الشك والسؤال والمعرفة ويحرّض على تكريس الفعل الايمانيّ المنبثق من وعي تام سلطةً غير قمعية ، كونها تمارس وجودها قناعات قابلة للشك في معطيلت غير منطقية، فلا تتحرج من طرح عدد من قضايا تفرض علاقات جدلية  بين ظاهر منكشف وباطن مستتر لا يتبدى إلا أمام نور العقل.
وسمت كتابات أبي العلاء بشخصيته، فجاء كتابه" رسالة الغفران" تجسيدًا دلاليًّا  لحقيقة مواقفه من  المعتقدات و من رجال الدين ومن أهل الصوفية، وأصحاب الفكر و الأدب واللغة والفلسفة ، فجعل من الغيب المحسوس، غير الملموس،حيزًا زمانيًّا/ مكانيًّا تمنحه الألفاظ وجودًا بالقوة وبالفعل حيث خطّت أفكار أبي العلاء مسارات لقضايا أدبية ولغوية وفقهية ودينية، منحها  صوت الناطق/ ابن القارح هويتها وفضاءها الدلالي المرمز، فباح المنطوق اللفظيّ  بالمصرح به والمسكوت عنه.
 ساق أبو العلاء آراءه في رسالة الغفران بأسلوب سردي قوامه شخصيات تتحاور في أمكنة وأزمنة مختلفة، تتلاقى في لحظة الخلق الفني في زمن تسريدي  محصور في أحاديتين؛ مكانيّة وزمانيّة، فجاء زمن الحكي مفردًا في ظاهره" يوم القيامة"، ولكنّه كان منطويًا على جمع من أزمنة تشكّلت في مركزية لحظة الحكي.وكذلك اتسعت نقطة المكان الأحادية" المحشر"؛ لتشمل جمعًا من أمكنة توحّدت في حضور الغيب وسلطته، فصار للشخصيات حضوران، حضور تخييليّ يفرضه الراوي، وحضور سديميّ يفرضه فعل الغياب.
لعب التخييل دورًا رئيسًا في تشكيل الخطاب السرديّ، إذ أوجد بتمثلات لفظية أحداثًا لا واقعية، استطاع أبو العلاء بخياله وتخيله أن يجعلها وسطًا مشحونًا بالرموز والدلالات والايحاءات،  التي يقبض على بعضها بفضل  تأويل الصور اللسانيّة المُنتَجة بواسطة اللغة ، والمكتسبة وجودها وهويتها وأنساقها  من شخصية خالقها ومرسلها الناطق بلسان راوٍ جعله في لحظة الخلق موازيًا له في القيمة المعرفيّة، وهو ابن القارح.
اتسمت شخصية الراوي بقوة التخييل التي أسهمت في تكثيف وظيفة الخلق الفني المتجسد في ظاهر العمل السردي، وفي عناصره البيولوجية التكوينية وإشاراته الدلالية، وفي أنساقه اللغوية الملتزمة، في ظاهر السرد، بالأعراف والتقاليد، فلم تخلُ من دقة الوصف المشحون بشتى أنواع الصور البلاغية، ليكون لكلامه ظاهر وباطن، ظاهر يجد فيه المتلقي القاصدُ المتعةَ ضالته، ويقبض، أيضًا، المتلقي الباحث عن الحقائق على بعض ما يسعى إليه.
بدأ الكلام في رسالة الغفران على الجبر والقوة واعترافًا بعظيم قدرة ابن القارح الفكرية التي تستحق إجابة تليق بما جاء في رسالته، فكان الجواب على من تمايز بالثقافة والمعرفة كلامًا موسومًا بخبرة صاحبه وبمقامه الثقافي وبمعرفته الدينية، فكانت مقدمة التسريد بابًا يلج منه إلى حجرات البنيات السردية التي انفتحت على مقامات سردية كثيرة منها  الجنة و النار، ليأتي الكلام على أصحاب الجنة وأصحاب النار نتاج معرفة يقينية يقبض عليها المتكلم/ الراوي المتقمص شخصية المؤلف، هذه الشخصية التي تستخدم التصريح والتلميح من أجل  التعريف  بثقافتها اللغوية والدينية والتراثية، لتكون مستحقة رتبة معرفية تساعدها في  الاحنكام إلى معطى عقليّ يمنحها صلاحية الفرز والإلغاء، أي إلغاء قداسة بعض الأعراف السائدة، ووضع بدائل تدعم أحقيتَها الحجةُ المنطقيّة.
ينتقل أبو العلاء بعد المقدمة إلى الاعلان عن وصول الرسالة  " التي بحرها بالحكم مسجور، ومن قرأها لا شك مأجور" ( رسالة الغفران ص 60)، فلاقت في نفس أبي العلاء  التقدير والاعجاب" عجبت من اتساق عقودها" ، وهي لأبي القارح عمل صالح يدخل به الجنة  وينجيه من لهب النار،" لأنّ الكلمة الطيبة تعرّج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكشف سجوف الظلماء". ودليله على ذلك ما جاء في سورة ابراهيم عليه السلام:" إليه يصعد الكَلِم الطيّب والعمل الصالح يرفعه" -"ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيّبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها"، فعكست مقدمة الرسالة  مقدرة أبي العلاء اللغوية وثقافته التراثية ونظرته الفلسفية بأسلوب متماسك محكم فيه الكثير من التمويه والتضليل، والإشارات المرمزة التي بعث بها إلى ابن القارح قبل أن يعلن وصول الرسالة وإعجابه بها.
يتخذ أبو العلاء من الآية الكريمة مدخلاً ليسرد روايات تتناول كؤوس العسجد والأباريق، ثم يقوم بعملية ارتدادية تؤكد على قدراته اللغوية والنحوية ، ومن أمثلة ذلك ورود كلمة إبريق في سياقات متنوعة، لتكون هذه اللفظة معبرًا إلى الكلام على الأنهار، والطيور السابحة، والعسل المصفى والنحل، وكلّ ما أورده إشارات إلى الجنة التي وعِد بها المؤمنون، فانتقل من التلميح إلى التصريح، ليتكلم على النحويين واللغويين وعلى آرائهم في بعض الألفاظ الدالة على محل الجنة بذكر ما يحل فيها، فكان هذا السرد عتبة يلج منها إلى الجنة ،ومن ثم إلى النار، ليظهر آراءه ومعتقداته في الأسباب الموجبة دخول الجنة أو النار، وليستطرد في أحاديث وأخبار تعكس حقيقة مواقفه غير المُصرَح بها.
خصّ أبو العلاء في كلامه على أهل الجنةا للغويين بالحديث ، فكانت لهم منزلة مستقلة عن الشعراء وغيرهم، وهذا التقديم إشارة إلى أمرين؛ أولهما يختص بأبي العلاء ويعكس موقفه من العقل وأهل المنطق، لأنّ العاملين في الحقل النحوي تمايزوا باستخدام مقومات المنطق من استقراء واستنباط ووضع فرضيات وبدهيات ومسلمات، ومن استخدم العقل، في رأي أبي العلاء، فهو يستحق الرتبة العليا لأنّه بالعقل يتوب عن المعاصي، أما الأمر الثاني فهو منهجيّ، لأنّ الكلام على اللغويين سيؤدي إلى الكلام على الشعراء إذ لا وجود لموادّ التجربة العلميّة اللغويّة من دون كلام الشعراء،  ولذلك تذاكر النحاة الأعشى وهم يتقاذفون الآنية في أنهار الرحيق، فجعل من تمنياتهم مفتاحًا يلج به ليقوم بنزهة في الجنة على غير نهج، فيرى الأعشى و"زهير بن أبي سلمى "و"عبيد بن الأبرص" و"عدي بن زيد" و"أبو ذؤيب الهذلي" و"النابغة الذبيانيّ" و"النابغة الجعديّ" و"لبيد بن ربيعة "، و"عوران قيس" وغيرهم، ليأتي كلامه على "حديث الدينونة" ثمرة حوار  مع رضوان وزفر وحمزة بن عبد المطلب وأبي علي الفارسي والامام علي وفاطمة الزهراء والرسول، فيضمن له الحديث  شفاعة تدخله الجنة. وربما قدّم أبو العلاء النزهة على طلب الشفاعة لتكون الجنة خيارًا يسعى إليه ويجهد النفس في طلبه.
لم يتوقف أبو العلاء في سرد الأخبار وابتكار القصص على أهل الجنة بل تكلّم على أهل الناروعلى أشعار الجن وأهل الأرض وعلى معتقدات في الحلولية والتناسخ ورجال الصوفية. فأفاض خياله في دقة الوصف وتجسيد الشخصيات وإنطاقها بالمعلوم والمجهول، والحقائق غير القابلة للنقض وذلك باسلوب براغماتي قوامه الحجاج البرهاني المدعم بدقة الوصف والتمثيل، في جدلية علائقية تربط بين المؤلف والمتكلم، غايته أن يتوافق المتكلم الذي أنطقه، والمتلقي الذي يخاطبه عند قصدية يقينية آمن بها.
جعل أبو العلاء من المتكلم شخصية محوريّة تشارك في تحريك الأحداث وتوظيف المفاهيم الدينية وكشف خبايا النفس البشرية، وفض أسرارها، بوصفها شخصية مثقفة واثقة من نفسها،وهذه الشخصية المحورية أكثر ما يميزها تفكيرها الممنهج المنظم، وصدقها، فهي تسرد الأخبار بدقة العارف العالم تفاصيل الأمور والواقائع، فلم يختلق الراوي الشحصيات، فهي موجودة في الموروث الديني والثقافي، ولكنّه نسب إليها أحداثًا ومهمات محسوسة صاغها بتخييل غيبيّ مشحون بالمقاصد والغايات.
وفق هذه المعطيات تتجلى علاقة المؤلف والمتكلم علاقة تطابق، فهما ، لحظة الكتابة، وجهان لحقيقة واحدة تضمرها بنيات سردية، قوامها وصف وحوار وأبطال وأحداث واستطرادات وعقدة وحل وأزمنة وأمكنة تمنح العمل السردي مصداقية مؤسسة على حقائق يوظفها الخيال في التعبير عن أحاسيس المتكلم ورؤاه، كونه خيالاً مدعمًا بمقومات الحجاج المنطقيّ، وبمواقف تجّسد آراء أبي العلاء وعلاقته بالفكر الديني والثقافي والمعتقدي والأدبيّ، فكانت شخصية ابن القارح ذاتًا مستنسخة أنطقها  المؤلف بما ترغب في قوله ذاتٌ كليّة توحّدت في لحظة من لحظات تجلياتها الإبداعيّة، ، أي لحظة يتلاشى الصراع بين ذاتين؛ ذات مادية تدرك ظواهر ما حولها وترغب في التماهي به،  وأخرى عرفانية تدرك مدلولات ما حولها فتمارس سلطة توجيه ورقابة، ولكنهما لحظة يتم  عقد قران عرفيّ  بينهما يكون اللقاء على غير مثال، و تكون ثمرته خلقًا جديدًا هوبعض من روح المبدع وليست كليتها، وبالتالي فإنّ الرواي/ المتكلم هو  ظل من ظلال الكاتب عينه ولكنّه ليس أنله الكليه المطلقة.
بهذه الرؤيا يجوز القول إن المؤلف والراوي، في رسالة الغفران، جاء اتحادهما شبه تام، فابن القارح يتقمص شخصية أبي العلاء في معظم الأخبار التي ساقها، سواء أكان ذلك في الأسلوب أم الغايات والمقاصد. ومنها:
أ_ تجليات الأسلوب
_عكس محتوى الرسالة من حيث البنية الظاهرة مقدرة أبي العلاء الأدبية في صياغة نوعي الكلام؛ الشعر والنثر.
_وضع أبو العلاء في كتابه رسالة الغفران استراتيجية حجاجية برهانية غايتها توظيف الخيال في تثبيت قصديتة التي تبنت الإفصاح عن مقصد محسوس بكلام محدد، فقرنها بأفعال يتجه فيها العقل نحو الموضوع ليدركه، وذلك بنقله من حيز الواقع التخييلي إلى حيز التفكير والاحتكام، معينه في ذلك استخدام الفرضيات والمعطيات ومبدأ الثالث المرفوع والأدلة البرهانيّة الدينية واليقينية  المستمدة من القرآن الكريم.
-استخدم أبو العلاء في الحوار السرديّ  منهجًا براغماتيًا يعينه على الاقناع، فكان يضع الفرضية ويبرهن على صحتها، أو ينقضها،ومن القضايا التي أضفى عليها قناعاته قضية شغلت، ولما تزل، أذهان المسلمين وهي قضية حكم من عصى قبل أن يهتدي قلبه بالاسلام، فيرى أبو العلاء أن للعقل منزلة ترحم صاحبه المتنور من النار وبخاصة الشعراء الذين نطقوا بالحساب قبل معرفة الإسلام، وهؤلاء لم يحرموا من لذة خمر الجنة إذ لا حجة عليهم، وبهذه الحجة كان زهير من أهل الجنة وممن حظوا بلذة خمر الجنة، على عكس  الأعشى الذي دخل الجنة بشفاعة من الإمام علي لأنّه مدح الرسول في الدنيا  وشهد بنبوته، ولكن صدته الخمر عن اتباع مبادئ الاسلام " فأدخل الجنة وحرمت عليه الخمر لأن" من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة ، لم يُسقها في الآخرة" (77) . ولم يكتفِ بنقل تصوراته، بل دعّمها بالبرهان والحجة الفلسفية على لسان زهير إذ يقول: " إن أخا بكر أدرك محمدًا فوجبت عليه الحجة، لأنّه بُعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجة عليّ" ( 79).
_سخّر أبو العلاء فكره المنطقيّ ليكرس أفكاره حكمًا غير قابلة للنقض، فساق من خلال الشعر حكمًا رغب في الاضاءة على مدلولاتها، نحو" من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب"، ليؤكد أنّ الكرامة توجب على الإنسان عدم إراقة ماء وجهه إلا أمام الخالق، وهذه من المسلمات التي تمسّك بها أبو العلاء وعاشها ومارسها في حياتها.
_وضع شروطًا للكتابة الإبداعيّة، لتكون معيارًا تقاس عليه قيمة الشعر، وكانت الشروط لغويةً ونحويةً وصرفية وبلاغية وعروضية دعّم بها آراءه النقدية كقوله" لا يمكن أن يكون روي هذا البيت ألفًا؛ لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الروي ههنا ساكن، فلا يجوز ذلك"( ص66) فوضع بأسلوب سردي محكم معايير لجودة الشعر، وهذا المثال يظهر ثقافة أبي العلاء الشعرية وقدرته على توظيفها في الوصول إلى المقاصد بالتلميح من دون تصريح، ولقد أوردت كتب الأدب  ما قاله لمنتقدي المتنبي؛ يكفي المتنبي فخرًا أنّه قال:" لك يا منازل في القلوب منازل" ،وكانت غايته الوصول إلى بيت من القصيدة يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص          فهي الشهادة لي بأني كامل.
_ توظيف الوصف في إبراز علمية التخييل ليكون حكمه على ما يقول غير محصور في أفكار ومفاهيم داخل عقله، بل مستمدة من ظواهر ومعطيات  حدّدت كينونة الأشياء وماهياتها، فكان وصفه للجنة دعوة  إلى العمل الصالح، وذلك  بأسلوب قائم على التشويق ودقة التصوير، فرسمها بالكلمات كما تخيلها وبدت له في حضرة الشطح الصوفي الداخليّ، فألغت قصديته التقسيم التقليدي ما بين الواقع الخارجيّ المستمد من موروثه الدينيّ، والشعور الذاتي، مؤكدًا   أنّ الشعور هو الذي يقصد الأشياء دائمًا، ويعطيها ويمنح ماهياتها صفات يقبلها العقل، ويستدل بها عليها، فالأباريق موجودة على أنهار الجنة" وفي تلك الجنة أوان على هيئة الطير السابحة ، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صورة الكراكي، وأُخر تشاكل المكاكي، وعلى خلق طواويس وبط، فبعض في الجارية وبعض في الشط، ينبع من أفواهها شراب، كأنه من الرقة سراب ..." (64)  فأظهر الأشياء كما رسمها شعور داخلي ألغى المسافة بين عالم الأرض وعالم الغيب، معينه في كل ما رسمه  معارف وحقائق  استمدها من القرآن الكريم، فجاء وصفه مطرزًا بأبدع ما ينسجه الخيال من صور.
ب- تجليات المقاصد والغايات
للمتكلم حضور بارز في حكايا رسالة الغفران، فهو ينقل ما يراه أبو العلاء بعين اليقين التخييلية،  وما يسمعه من أفكار جريئة غايتها تكريس الإيمان فعلاً إبداعيًّا يحرّر صاحبه من سكونية التلقي، ويحرّضه على الشك والسؤال والمعرفة التي تجلت في مواقف كثيرة منها:
- يرفض المؤلف/ الراوي حصر الخلاص بالمسلم فعدي بن زيد مسيحي وهو من أهل الجنة، لأنّه كان " على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه"
-يؤمن المتكلم / الراوي بأن الانسان مخير وليس مسيّرًا، شريطة أن يستعين المرء بإرادته، " أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء. فيقتصر ذلك على الارادة" ( 137)، وهذا مبدأ من مبادئ المعتزلة التي أعجب بها أبو العلاء.
_ التحريض على الإبداع؛ كونه طريقًا إلى الجنة، فوضع معيارًا لتصنيف الشعر والشعراء، ورأى أنّ للكلمة المبدعة دورًا في الدنيا والآخرة، ومن سماتها الأصلُ الثابت المؤسس لفروع تعلو بالثمار. والإبداع، في رأيه، إضافة معرفيةوخاصية نجاة، شريطة ألا يتناقض والقيم الدينية، التي نقضها بشار، فكان نصيبه النار في بيتين قالهما:
أبليس أفضل من أبيكم آدم       فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة          والطين لا يسمو سمو النار( 150)
-  رفض التقليد، والتمسك بالصدق والأمانة،والدعوة إلىالتجديد؛ فالحطيئة شفع له قول الصدق  ولم يشفع له بيت تردده الأجيال:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه                لا يذهب العرف بين الله والناس
لأنّ هذا القول كان قد  سبقه إلى  معناه الصالحون، فنظمه ولم يعمل به،وبالتالي لم يكن هذا البيت ليشير إلى قدرته على الخلق والإبداع. ( الرسالة 148).
- التركيز على طبائع أبناء البشر الذين ينهون عن المعاصي ويرتكبونها، فانتصر عليهم ابليس بضعف إرادتهم، فكانت حجته عليهم أقوى من معتقداتهم التي تقول بلعن ابليس، فيجيبهم ردًا على ما سمعه من شتم ولعن" ألم تنهوا عن الشمات يا بني آدم؟ ولكنكم بحمد الله، ما زجرتم عن شيء إلا وركبتموه" ( 174)، وهذا الاحساس عاشه أبو العلاء وعبّر عنه في مواضع كثيرة.
-الإصرار على نعت البشر بالكذب والمرواغة، والتقرب من أهل الشأن بالمديح، وذلك في أكثر من موقف، منها ما جاء على لسان  آدم عندما نسب إليه ابن القارح شعرًا ليس له، إذ قال: " أبيتم إلا عقوقًا وأذية، إنما كنت أتكلم بالعربية و أنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض نقل لساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردّني الله، سبحانه وتعالى، إلى الجنة، عادت علي العربيّة، فأي حين نظمت الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ ...أعزز علي بكم معشر أُبينيّ! إنكم في الضلالة متهوّكون! آليت ما نطقت هذا النظم، ولا نطق في عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله ! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك إلى الأرض"( 181_ 182)
-رفض البدع الدينية، والخرافات التي تتناقلها العامة وتؤثر على عقول الأجيال" أفلا يرى مولاي الشيخ إلى ما رمى به هذا البشر من سوء التمييز، وتحيزهم إلى ما يمتنع من التخيير؟" ( ص 236)
-دخول الجنة غير مشروط بأصحاب الأعمال  المحمودة.  ومن صفات أهل الجنة الذكاء، لا يخالطهم الأغبياء، فهم لماحون يفهمون الإشارات من دون بوح، ولذلك لم ينتظر عبيد الله الأبرص سؤال ابن القارح بل كان هو المبادر" لعلك تريد أن تسألني بم غُفر لي". وكان دخوله الجنة في بيت واحد حكمي " من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب". فأراد أبو العلاء أن يكرّس أفكاره حقائق يقبلها العقل، فرب حسنة واحدة تمحو السيئات، ولكن هل يُعقل أن يغفر الله ويرحم عباده نتيجة عمل واحد أو قول واحد؟ هذه إحدى الاشكاليات التي رغب في طرحها، منطلقه في ذلك القرآن الكريم.
- احتفاظ أهل الجنة بطائعهم الانسانيّة، فهم متمسكون بعاداتهم وتقايدهم التي تجلت في خطابه " مأدبة في الجنة، إذ جمع فيها" من أمكن من شعراء الخضرمة والاسلام ، والذين أصّلوا كلام العرب، وجعلوه محفوظًا في الكتب، وغيرهم ممن يتأنس بقليل من الأدب. فيخطر له أن تكون كمآدب الدار العاجلة، إذ كان البارئ، جلّت عظمته، لا يعجزه أن يأتيهم بجميع الأغراض، من غير كلفة ولا إبطاء، فتنشأ أرحاء على الكوثر، تجعجع لطحن بر من بر الجنة" ( ص ا26)
- احترام التراتبية  والنظام الوظيفيّ، فحمزة بن عبد المطلب لم يطلب الشفاعة من الرسول بل أرسل ابن القارح إلى علي ليشفع له، ورضوان يحصر مهمته بما أوكل إليه.
تعكس هذه التجليات القصدية وغيرها أفكار أبي العلاء وحقيقة أحاسيسه بالنسبة إلى المعتقدات والسلوكيات وعلاقة الانسان بنفسه والآخر وبالكون والخالق، فكان ابن القارح إحدى ذوات أبي العلاء التي توافقت معها في معظم المواقف، ولكن لم يكن التوافق تامًا، إذ تمايزا من خلال عملية السرد، وذلك من حيث الحضور، فكان لأبي العلاء حضور محسوس يمارسه من خلال  الغياب، وكان لابن القارح حضور مكثف مجسد في وظيفة المتكلم القابض على تنشيط الأحداث وتحريك الشخصيات، فأنطق أبو العلاء ظله / ابن القارح بما يرغب في قوله، وبما تأمر به النفس البشرية التي يقمع رغباتها أبو العلاء، فكان صوت ابن القارح ، في بعض المواقف، صدى لذات مكبوتة مبرمجة بإرادة إبي العلاء.
 تشير القراءة التأويلية لفاتحتي الرسالتين، رسالة ابن القارح، ورسالة أبي العلاء، إلى أن الذات المستنسخة التي  بدأت خطابها بعبارة : "استفتاحًا باسمه، واستنتاجًا ببركته" كانت تنطق بما ترغب فيه  ذات كلية أجازت لنفسها حذف العامل لعلمها به، ولكنها أخضعت نفسها لحظة الإجابة لحذف واجب فرضه أسلوب النداء الذي أضمر دعوة تقرب بها المتكلم/ المؤلف إلى الخالق ليكون الكلام اللاحق  المشحون بالترميز مشفوعًا بتيسير الله وعونه، أللهم يسر وأعن" ؛ فكان لذات الراوي / المتكلم  وجود متكامل في كلا الرسالتين، لأن فاتحتيهما انطوتا على الأسلوب عينه، ولكن تمايز الحذف بين الجواز والوجوب، وهذا ما يقوم عليه الفكر الاسلامي، من جائز وواجب وتحريم أراد أبو العلاء توضيح الأسباب الموجبة والحجج التي بها ينقاد المرء إلى مصيره يوم الدينونة. فلم تبدأ الرسالتان ببسملة أو بحمدلة بل بفاتحتين تمايزتا بقدر ما تكاملتا.
تقمص أبو العلاء شخصية الراوي ابن القارح فصارا شخصًا واحدًا، وتجلت الصورة المرئية مفردة، لأنّ المفرد أسبق على المثنى والجمع، وبالواحد تسهل عملية التخييل والتسلل إلى بواطن الحقائق وكشفها، فكان الرواي الفرد/ المثنى ينقل الصور ويخبر عن أمكنة لا تحصى  احتضنتها ظروف زمنية غير محدودة وغير منتهية، منحت الأمكنة هوية وجود ومن ثم أكسبتها الحضور في بيئة لها خصائصها المعرفية والثقافية والدينية والاجتماعية، فكان الراوي (المفرد/ المثنى) صامتًا ناطقًا؛ هو الصامت في أثواب شخصية أبي العلاء المراقب والقابض على الحقائق، وهو الناطق في شخصية ابن القارح المفصح عن وجوده بالقوة وبالفعل فنطقت ذات أبي العلاء المتكلمة بآراء دينية ونقدية واجتماعية، ورسمت معالم نفسية وحضارية، فكان ابن القارح الشخصية المحورية التي تحرك وتستقطب الشخصيات الرئيسة وتحثها على الكلام واتخاذ المواقف، فهو الموازي والمساوي والمطابق لأبي العلاء في زمن الخلق الفني .
ثالثًا: فيزيائية المسارات السردية بين التخييل الغيبي والتنميط القصدي
استنادًا إلى ما تقدّم نستطيع أن نقرأ فيزيائية  المسارات السردية التي منحت رسالة الغفران حركية دائمة لا تنتهي، لأنها مسارات مشحونة بدلالات وإشارات قوامها لغة سردية تهدف إلى إظهار الأشياء على حقيقتها، فالظواهر هي مقياس كينونة الأشياء و ماهيتها، وبالسعي إلى كشفها يصير الشك محرّضًا على استجلاء الحقائق.
 وظّف أبو العلاء الشك والسؤال من أجل الوصول إلى معارف تجعل من الفعل الشعوري مدركًا حسيًّا، ولما كانت علاقة المرء بالغيب علاقة ثابتة، يخضع معها شعور المؤمن لسلطة المقدس، فلقد حاول أبو العلاء زعزعة سكونية الفكر الصنمي، وقام بتوظيف المعرفة العقلية الذاتية من أجل بلوع مقاصد وغايات تبدت لعقله، فاخترق بإحساسه ومعارفه فضاء الغيب وقدسيته وطرح إشكاليات فلسفية ودينية واجتماعية وأدبية، ربما كان القصد منها  تكريس  آرائه حقائق في فكر المتلقي، وبخاصة أن الرسالة تقوم على منهج حجاجي منطقي يفضي إلى الاقناع والتبني.
حاول أبو العلاء تعزيز الرأي في أن الشعور هو الذي يقصد الأشياء، بفضل عقل غير منغلق، عقل يلغي الذاتية ويوحّد بين عالمي الداخل والخارج، ليصير العقل والعالم متلازمين، غير متناقضين، وبهذا التلازم صار للغيب المحسوس وجود يقينيّ في رسالة الغفران، غايته تصويب العلاقة بين الإنسان ونفسه ، من جهة، وبين الإنسان وخالقه من جهة ثانية، فتتحول العلاقة من الخوف والتخويف، ومن الجهل والتجهيل إلى علاقة معرفية يكون العقل فيها هو الحكم، وإليه يرجع الاحتكام.
 توحي رسالة الغفران من حيث ظاهر البنية بأنها بنية تفكيكية كونها تجمع بين الحضور والغياب، وبين أهل الأرض وأهل الجنة والنار، وبين مشارب متنوعة، ولكنّها في باطن قصديتها تتسم بالانتظام كونها تمثل فعل الراوي المتوسل بالفن التأثير في المتلقي وتكريس قناعاته حقائق لا تقبل النقض، وذلك من خلال ما توحي به البنية العميقة للنصوص جميعها.
تقوم البنية السطحية على عدد لا متناه من المسارات السردية، حيث تتنوع القضايا والشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، فتتعدد الأصوات والموضوعات من اجتماعية وأدبية ودينية ولغوية وصوفية وتاريخية وصوفية ووهميّة، وغيرها من الموضوعات التي رسمتها البنية السردية الظاهرة حيث تحّركت الشخوص في مسارات  خضعت في تشكلاتها لسلطة ابن القارح الذي وزّع االأدوار ومسرحها  وفق مستويات فرضتها قناعات المؤلف/ المتكلم.
جاءت علاقة الراوي بمعظم الشخصيات علاقة حوارية لا تنازع فيها على المواقع، لأنّ الحضور المكاني والزماني لبعض الشخصيات ثابت من حيث وجودها التاريخي والديني، بالاضافة إلى وجود شخصيات وهمية تتبنى الفكر الشعبي الخرافي المتداول، فأطّر استحضار الشخصيات في ثلاثة مستويات هي:
أ-مستوى الشخصيلت الحقيقية  التي تتمتع بوجود ثابت من حيث القيمة الدينية؛ نحو: آدم _ الرسول_ علي بن أبي طالب_ فاطمة الزهراء_ رضوان.
ب- مستوى الشخصيات الحقيقية التي لها وجود ثابت  من حيث القيمة التأريخية للفكر واللغة والأدب والفقه، نحو؛ الأعشى_ بشلر_ المتنبي_ الحجاج.
ج- مستوى الأشخاص الهامشيي الحضور، لأنّ وجودهم محصور في حيز التداول الشعبي، وليس نتاج معطيات عقلية تؤكد حقيقة الوجود، فأشار إلى وجودهم من خلال الكلام على معتقداتهم.
تظهر هذه المستويات أنّ المؤلف حاول، في كل ما رسم من مسارات لأبطاله، أن يوفق بين الثوابت الدينية ودور العقل في تحديد طبقات المجتمعات الإنسانية التي ستحافظ على مواقعها في عالم الغيب، فقسّم أبناء البشر من حيث علاقتهم بالعقل إلى:
أ-فئة تتبنى العقل إمامًا، وبه تنجو من المعصية.
ب-فئة غبية لا علاقة لها  بالعقل ، لأنّها استغنت عن دورها في فهم  الظواهر والمرئيات، ولم تدرك جوهر العلاقة بين الخالق والمخلوق، لأنها أبطلت فاعلية العقل في نقض الحقائق المرئية ، فالحلاج له مريدون والتناسخ له أصحابه، وفي كلا الأمرين لا حقائق يقينية يقيلها العقل، على الرغم  تواتر أخبار عن مشاهد ينقلها الرواة.
تطورت استراتيجية الحركة في سرديات أبي العلاء من التلميح إلى التصريح، وذلك من خلال تأثير الأصوات المبثوثة داخل النص، فاتسع الحوار الشكلي والتمثيلي، وعكست حركية الأبطال مسوّغات التواصل الإنسانيّ والترابط المنطقي بين الأحداث ونتائجها،  من دون أن تسعى الشخصية إلى تغيير واقعها الذي تخيله الراوي ، فألغى دور البطل في خلق النظام الاجتماعيّ، وتحديد سمات كينونته المستقلية، لأنّ الراوي يقبض على آلية تحديد هوية المسارات وفق ما تبناه من منظورات نفسية واجتماعية وإيديولوجية.
ابتكر أبو العلاء وظائف دلالية لأزمنة و أمكنة تتصف بالثيات فمنح الثبات طاقة حركية حررته من قيد الموروث ، فأخبر ووصف ونظم الأحداث  التي بدت مبعثرة فجعل النظام تاليًا الفوضى، وهذا قانون رياضي!ّ علميّ منطقيّ، فجاء الخطاب السردي مشحونًا بـ:
أولاً: على مستوى الدلالة
-تنوع الأخبار والمقاصد.
-تأكيد التباين والتفاوت بين المخلوقات في الأرض والسماء، و تعدد لغاتهم.
- الإيمان بوجود الجن في الأرض والسماء واتصافهم بالذكاء والتمايز؛" إنا أهل ذكاء وفطن، ولا بد لأحدنا أن يكون عارفًا بجميع الألسن الاإنسية، ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنيس" ( 142)
-التركيز على دور الإبداع.
-تحريض العقل على طرح الإشكاليات، وربما كان كلامه على لسان ابليس هادفًا إلى  طرح إشكالية شرب الخمر في الجنة فقال" إن الخمر حُرمت عليكم في الدنيا وأحلت في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالوالدان المخلدين فعل أهل القريات؟ فكان الجواب لعنًا" عليك البهلة"(ص150)، ولم يقدم أبو العلاء رأيًا يوضح موقفه، وترك القضية مفتوحة على عدد من التأويلات.
-التركيز على  قيم سلوكية ومعرفية وخلقية ودينية وأضمرت طقوسًا  وعقائد ومفاهيم  أخضعها للقبول والشك والرفض.
بهذه المعطيات نستطيع القول إنّ رسالة الغفران جسدت ، على مستوى الدلالة، الرؤيا الفلسفية و الدينية والعقائدية والمنطقية التي تمايز بها أبو العلاء المعري.


ثانيًا: على مستوى الخلق الفنيّ
        أ_-تضمنت رسالة الغفران عناصر السرد وفق  ماهو متعارف عليه في فضاء النقد السرديّ، فإذا تناولنا على سبيل المثال خطابه "حديث الدينونة، لعثرنا على عناصر العمل السردي كلّها، وهي:
1-الشخصيات: لم يتدخل الراوي في إلباس الشخصيات الرئيسة أقنعة ليست لها لأنّها شخصيات معروفة، فلم يبتكرها، فهي تمثل ثوابت دينية أو ثقافية أو تاريخية، وهذه الشخصيات هي:
-ابن القارح =البطل والشخصية المحورية
-الخازن رضوان=شخصية ثابتة
-الخازن زفر=شخصية ثابتة
-الامام علي =شخصية فاعلة في تحريك الأحداث
-فاطمة الزهراء=شخصية أساس ضاعف وجودها في تحويل المحسوس إلى فعل قصدي يعبر عنه بالكلام، فالزهراء لها حضور متمايز مؤسس على عرف أخلاقي وديني، وزيارتها لوالدها تتم في أوقات معينة، وهذه الزيارة لها طقسها الذي يفرض على أهل الجنة احترامه والتعامل معه وفق أعراف محددة.
-النبي محمد=شخصية ثابتة، ولها وحدها حق الشفاعة.
2-المكان=أرض المحشر
3= الزمان=يوم القيامة
4-العقدة=رجاء ابن القارح أن يدخل الجنة وفقدان
5-الحل= شفاعة الرسول
6       تطور الأحداث
ينقل أبو العلاء تخيلاته في رحلة خرافية جعل بطلها ابن القارح بعد أن يبعث من الموت ويصعد للحساب، وعندما يعطى كتاب أعماله يجد أن حسناته قليلة، ولكن في آخر الكتاب يجد صك التوبة، وفي أثناء انشغاله بحضرة أبي علي الفارسي اللغويّ، يغفل عن صك التوبة، فأضاعه، و تدفع به الرغبة في دخول الجنة إلى البحث عن شفيع، فيلتقي الملائكة ويتقرب منهم عن طريق الشعر،الذي كان أسلوب المداحين في الأرض لينالوا العطايا والهبات، ولما كان مجتع أهل الجنة مترفعًا عن جشع النفس البشرية، فلم ينل مبتغاه بالتقرب من رضوان وزفر، وعندما وصل به المقام إلى حضرة الرسول الموكل إليه قراءة كتاب الحسنات والسيئات، يجد أن أعماله قد ختمت بالتوبة فيشفع له.
ب-تنوّع الأصوات ووظائفها.
ج-تثبيت سلطة المتكلم في تحريك الأحداث ومسرحتها، كونها خطابًا موجهًا من مبدع تمايز بطاقة تخييلية هادفة .
د-إيهام المتلقي بغياب سلطة المؤلف.
ه-حضور مكثف للثقافة الاسلامية والفعل الثقافيّ العربيّ.
و-تطريز السرد بالوصف الدقيق المتسم بخصائص جماليّة وبلاغيّة.
ز-توظيف الاستطراد في تثبيت الحجج والمقاصد.
تظهر البنى السطحية بأنساقها  النحويّة  والأسلوبيّة و التقنيّة ، والبنى العميقة  بتجلياتها الدلالية وجود  ترابط بين الأحداث والراوي/ المتكلم، فيخلق هذا الترابط مسارات سردية حققت وظائف الراوي السرديّة التي حددها جينيت  وهي؛ الوظيفة السردية، والوظيفة المباشرة، والوظيفة التواصلية، والوظيفة التعبيرية والوظيفة الايديولوجية، فأضمرت المسارات عددًا لا متناهيًا من الآراء والأفكار التي آمن بها أبو العلاء والتي لم يؤمن بها، كموقفه من الجن والملائكة والبعث والنفس والأفلاك والجبرية والزمان والمكان والاجتماع والقضاء والأخلاق و التناسخ وأهل الصوفية، وغيرها من القضايا التي  ترك الاحتكام فيها لسلطة  العقل.
انبنت رسالة الغفران على  أحداث تخييلية، قوامها حقائق دينية ومعرفية، فارتسمت في صور لفظية باحت بمكنونات الشخوص ورسمت إطارًا عامًا لها، فلم تكن  علاقة الراوي بشخوصه من وجهة نظر عليا، ولم يكن هو خالقها، فهي موجودة بالقوة والفعل في الموروث الديني والتاريخي والثقافيّ، ولكن الراوي استطاع استحضارها ومحاورتها وإبراز طاقاتها فلم يكن الخالق الوهمي بل كان المتخيِّل المبدع الخارج على المقدس الديني ليحرره من صنمية الثبات ويمنحه قيمة  وجود  تحددها حركية  تنبض بالقبول والرفض، فترسم  مسارات متباينة ممهورة بتفكير الراوي المفرد/ المثنى.
اتسم الخطاب السردي في كتاب أبي العلاء بتحولات دلالية تشي بالتناقض بين مواقف أبي العلاء الحياتية والراوي الناطق بلسانه، غير أنّ هذا التناقض لم يكن إلا نتاج الجانب المسكوت عنه في أحاسيس ومشاعر أبي العلاء التي لم يبح بها ، فهو الشاعر، وينتقد مهنة الشعر على لسان ابليس، فيقول:" بئس الصناعة! إنها تهب غُفة من العيش، لا يتسع به العيال، وإنها لمزلة بالقدم وكم أهلكت من أمثالك(149)، فهل كان أبو العلاء غير راضٍ عن الشعر إذا اتخذه الشعراء مهنة تكسب؟ وهل تقنع بوجه ابن القارح ليطرح مواضيع لم يكن ليبوح بها؟
أغنى أبو العلاء المعريّ كتابه" رسالة الغفران" بإشارات دينية وأدبية واجتماعية ونفسيّة ومعرفيّة، مافتئت تغري الناقد العربي، وتدعوه إلى الكشف عما انغلقت عليه الأخبار والقصص من قيم معرفية وإنسانيّة كرّسها أبو العلاء في منطوق لغوي سردي أجراه على ألسنة أبطال تنازعتهم رغبات وأهواء وطموحات متباينة، فجاءت لغته اختزالاً لعدد لا متناه من حركية مشحونة بالدلالات والسيمائيات التي تتبنى قصدية أبي العلاء ورؤاه ومعتقداته، وتكشف، في الوقت عينه، عن القيمة الفنية التخييلية لخطابه السرديّ.
خامسًا: بيان البحث
لما كان الخطاب السردي الإبداعيّ موسومًا بخصوصية فنية توحّد بين المرسل والمتلقي في طقس افتراضي رسم كينونته المرسل/ السارد، فإنّ تحقق هذه الخصوصية الفنية،  مشروط بوجود طاقة خلق  قادرة على تحويل التصورات الذهنيّة إلى  واقع ملموس، له إحداثيات تؤكد على وجود زماني ومكاني يحدد إطارهما شخصيات تمنح هذا الوجود الحياة والخصب والامتلاء، وبهما تتم عملية تحويل التصور الذهني من حيّز التخيل والافتراض إلى كينونة لها مزكزيتها وهويتها.
تجسّد رسالة الغفران لأبي العلاء المعري إحدى تجليات الفكر الرافض المتمرد على سكونية العقل العربي، فهي نتاج فعل تخييلي اقترن بشطح فكريّ ، توّحد به أبو  العلاء مع ذاته الأخرى الموازية له معرفيًّا وثقافيًّا، فكان الصامت المحتجب وراء سارد ناطق يبوح بمقاصد وآراء الذات الواعيّة تراثَها وثقافتها وواقعها. فقبض أبو العلاء، في اللحظة عينها، على الغيب والغياب، ليجعل من الغيب واقعًا ملموسًا، ومن الغياب حضورًا ناطقًا فاعلاً، وليمنح خطابه السردي ماهية فنية متمايزة.
استنادا إلى ما تقدم يمكن القول إن أبا العلاء لم يسقط هيولى التصور في مادية تسريد الراوي، بل رفع مادية التسريد إلى هيولى التصور وصاغ أنساقًا لغويّة سرديّة تشي بالتهكم، وتوحي بالحقيقة، وتضمر الرفض،  وتتمظهر بالإيمان، في لوحات فنية متنوعة ومتباينة الدلالة، فجاءت عملية السرد في كتابه " رسالة الغفران" فعلاً توليديًّا تمخض عن مزاوجة ثقافة الميتافيزيقيا، وثقافة الموروث اللغويّ والأدبيّ، والرؤى الفلسفية في مختبر الخلق الفني الخاضع لسلطة العقل المبدع، فكان الخطاب السردي المثال المتمايز بالفرادة الإبداعيّة، وبالعمق الفلسفي، وبالشمولية المعرفيّة، وبفيض من الإشارات والدلالات التي ألبسها أبو العلاء ثمرة صراع عقليّ قوامه جدال ديني/ غيبي وفكري / فلسفيّ.
أ.د.مها خيربك ناصر
أستاذة النحو والصرف والنقد الحديث
أستاذة الدراسات العليا_ الجامعة اللبنانية_ جامعة البلمند




[1] _قُدمت هذه الدراسة في "ملتقى المتكلم في السرد العربي القديم "الذي نظمته وحدة السرديات بكلية الآداب والفنون الانسانية بمنوبة/ تونس يومي 19_20 فيفري.