جدلية العلاقة بين التخييل الغيبي ومركزية القصدية
رسالة الغفران أنموذجًا
أولاً: عتبة البحث
يشغل النقد السردي حيزًا رئيسًا في فضاء الكتابة
العربيّة، بوصفه، أولاً، عملاً إبداعيًّا مؤسسًا على حضور إبداعيّ يفرض نفسه على
مستوى الثقافة، وبوصفه، ثانيًا، نشاطًا فكريًّا يستمد منشطاته الأساس من النظريات
العالمية المتنوعة والمتمايزة.
شهدت الساحات الثقافية العربيّة زحمة مؤتمرات تتمحور
عناوينها حول إمكانية تفعيل نقد الرواية العربيّة من منطلقات النقد الغربيّ، فوشمت
معظم الدراسات بكثرة المصطلحات وتعددها، كأنّ العمل النقدي لا يستقيم إلا إذا رُصعِّت
تراكيبه بتعابير ومصطلحات غير عربيّة، علمًا أنّ تموضع بعض المصطلحات في معظم الدراسات لا يتفق والسياق.
مما لاشك فيه أنّ علماء النقد العالميين أسسوا لنظريات غايتها
تكريس علمية النقد، وسعوا إلى تفعيل الفكر النقدي، وحثّه على فض الأسرار المسكوت
عنها، والمحتجبة وراء ظلال الألفاظ، معينهم في ذلك ابتكار إجراءت وأساليب ومناهج و
مصطلحات توسعوا في تحديد مفاهيمها لتكون عونًا للدارسين والباحثين في فهم وظائف
عناصر الخطاب الروائي، ومن ثمّ مقاربتها وتأويلها بما يخدم تكريس العمل السرديّ
منتجًا إبداعيًّا قابلاً للحياة.
حظيت وظيفة
الراوي ودوره في عملية السرد الاخباريّ بالاهتمام ، لأنّ للمتكلم /الراوي دورًا
رئيسًا في التقاط الصور والاشارات، وإعادة تركيب مدلولاتها بما يتوافق ورؤاه
وتطلعاته وأفكاره، فيقيم من الكلّ المبعثر المتمظهر بالفوضى، كلاً متكاملاً نابضًا
بالدلالات والرموز والمعاني، أو يخلق من تخيلاته شخوصًا تتحرك وتنطق وتتكلم وتتحاور
بما ينتقيه ويرغب في إيصاله والكشف عنه راوٍ ، هوفي معظم الأعمال السرديّة المؤلف
نفسه.
اتخذت فنون الحكي والأخبار مسارات تنوعت بتنوع الأحداث
وتباين الطاقات الابداعيّة القادرة على التقاط الصور؛ المرئية منها وغير المرئية، فكانت
الحكاية من أهم قنوات التواصل المعرفية، وصار اللمتكلم /الرواي سلطة تأثير على
المتلقي، لأنّه الوسيط الذي يحوّل المُخبر
عنه/الظاهرة المرئية إلى صور لفظية تنغلق
على صدقية العلاقة القائمة بين ذات الراوي المتكلمة، وجوهر رؤيته للكون والحياة
وما يتداخل في حيثياتها من أحداث تتقاطع في مركزية بوح تكرّسها أنا المتكلم/
الراوي طاقة قبض على المرئي والغيبي في اللحظة عينها.
تتجرد لحظة
القبض من مادية الوجود الملموس، من دون أن تخسر حضورها الهيولي المكثّف، كونه فضاء
زمنيًا يفضي بالخيال إلى معانقة الألفاظ ومكاشفتها، وذلك بما تحصّل عليه من معارف وأسرار، فتقوم اللغة
بدور المتبني الحاضن الرؤى والأفكار، ويصير الجسد النصيّ أحد تجليات الفكر في
أثناء لحظة القبض هذه؛ وبالتالي لا وجود للمؤلف خارج النص، ولا وجود للنص من دون
مؤلف.
استنادًا إلى ما تقدم يمكن القول إن علاقة المتكلم
بخطابه علاقة الكل بالجزء، لأنّ للخطاب السردي، شأن أي خطاب، ذاتًا تنبض بروح خالق
النص، بوصفه، أي الخطاب، ذاتًا من ذوات الخالق المتجلية في لحظة قذوذية ما، ولكنهّا ليست ذاته
المطلقة القادرة على استساخ ذوات تتعدد وتتنوع بتنوع ماهيات الخطاب وذوات المخاطَبين،
وبذلك تكون أنا المتكلم هي عينها ذات المؤلف في لحظة الخلق الابداعيّ، ولكن
العلاقة بينهما ليست علاقة مطابقة في أزمنة التوليد جميعها.
إنّ عملية الخلق هذه ترعى ولادتها طاقة تخييل تحرّض على
خلق علاقة جدلية بين المؤلف والمتكلم، فتتشكل معادلة فلسفية يمكن اختزالها
بالقول" هي هي، وليست هي هي"؛ بمعنى أن ذات المتكلم هي عينها ذات المؤلف
في لحظة الخلق الفذوذية التي فرضتها و أوجدتها عملية التلاقح الابداعيّ، غير أن" الهي" المتكلمة ليس بإمكانها أن تختزل أو تحيط بكلية " الهي"
المبدعة الخالقة التي تفيض من ذات كلية
على ذوات تخلقها بنفسها لتمنحها بعضًا من
حقيقتها ومعرفتها وأسرارها، من دون أن تخسر كليتها ووحدتها، أو تتخلى عن دورها في
القبض على حركية الذوات الخارجة عن الكل، والمنضوية تحت إرادة الكلّ، في اللحظة
عينها، وذلك بفضل التخييل الذي رفعه ابن عربي إلى مرتبة العلم، وربطه القرطاجني
بدقة اختيار المعاني؛ إذ لا إبداع من دون
تخييل قوامه العلم والمعرفة؛ أي العلم بحقلئق المرئيات، والمعرفة اللغوية الضامنة
ولادة أجساد نصية لا تشويه في بنيتها؛ سواء أكانت شعرية أم سردية.
يزخر التراث العربيّ بأقاصيص وأخبار ينقلها راوٍ محوريّ ممسك
بالخيوط جميعها، ومتسلط على الشخصيات الرئيسة التي تتحرك بإرادته، و لا تتكلم إلاّ بما يتخيل أو يرى أو يعتقد. فكانت شهرزاد متكلمة باسم مؤلف أوكل إليها مهمة
ضبط حركات الأبطال وتصرفاتهم وأقوالهم،
وكذلك فعل بيدبا الفيلسوف والجاحظ والهمذاني، فكان للتكلم حضور وسم غياب المؤلف
بالموت، وفق ما ذهب إليه رولان بارت، غير أن حضور المؤلف يبقى هيوليًا قابضًا على
وحدة العمل، بوصفه المونيتور monitorالخفي الذي يحرك الأبطال من وراء ستارة الألفاظ.
بهذه الرؤيا يمكننا قراءة رسالة
الغفران لأبي العلاء المعريّ ، إذ جاءت الرسالة
تأطيرًا للحكي العربي المسكوت عنه، و تجسيدًا صادقًا عن تفاعل الغيب
والحاضر في لحظة فذوذية ربطت الحكايات بسياقاتها الاجتماعية والثقافية والدينية
والفكرية، فجعل أبو العلاء من الألفاظ حجابًا يستتر وراءهه، ونفخ بابن القارح
بعضًا من روحه، لتكون ذاتًا من ذواته الناطقة بأفكاره ، وبما يرغب ويؤمن، وبما
لايرغب ولا يؤمن.
استنادً إلى ما تقدّم كيف يمكن تحديد علاقة أبي العلاء/
المؤلف بابن القارح /المتكلم؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم ماهية الخطاب السردي
في رسالة الغفران ومن ثم كشف طبيعة العلاقة بين الكاتب والرواي.
ثانيًا: ماهية الخطاب السردي في رسالة الغفران
لما كان الخطاب
الأدبي مخلوقًا فيه من روح خالقه، فهو إذًا ، يتقمص بعضًا من شخصية صانعه ومبدعه،
وهكذا هو نص أبي العلاء الذي عاش قناعات دينية حررته من التعصب والتزمت، وأقصته عن
الاعتقاد بالقشور والاهتمام بالظواهر، لأنّ الدين ، في رأيه، جوهر يقوم على حقائق
ثابتة لاتناقض فيها، ولذلك لم يجد حرجًا في الاطلاع على التعاليم الدينية
اليهودية والمسيحية، ولم يتنكر، في الوقت عينه، لموروثه الديني الاسلامي، بل تمتع
بثقافته اسلاميّة شاملة سمحت له أن يحكم على أهل الصفا بالتقدير وعلى الكثير من
رجال الصوفيّة بالكذب، فأنطق نصوصه بما آمن واعتقد.
اتسمت شخصية
أبي العلاء بالتعالي على المصائب والمصاعب، وبرفض سكونية المقدس ، رائده في ذلك فعل
الطموح والتمرد والصدق والوعي والفكر الفلسفيّ الذي أكسبه قوة الحجة والمنطق،
فكذّب بفكره المنطقيّ الظنون، وجعل العقل إمامًا يهدي إلى الشك والسؤال والمعرفة
ويحرّض على تكريس الفعل الايمانيّ المنبثق من وعي تام سلطةً غير قمعية ، كونها
تمارس وجودها قناعات قابلة للشك في معطيلت غير منطقية، فلا تتحرج من طرح عدد من
قضايا تفرض علاقات جدلية بين ظاهر منكشف
وباطن مستتر لا يتبدى إلا أمام نور العقل.
وسمت كتابات أبي
العلاء بشخصيته، فجاء كتابه" رسالة الغفران" تجسيدًا دلاليًّا لحقيقة مواقفه من المعتقدات و من رجال الدين ومن أهل الصوفية،
وأصحاب الفكر و الأدب واللغة والفلسفة ، فجعل من الغيب المحسوس، غير الملموس،حيزًا
زمانيًّا/ مكانيًّا تمنحه الألفاظ وجودًا بالقوة وبالفعل حيث خطّت أفكار أبي
العلاء مسارات لقضايا أدبية ولغوية وفقهية ودينية، منحها صوت الناطق/ ابن القارح هويتها وفضاءها الدلالي
المرمز، فباح المنطوق اللفظيّ بالمصرح به
والمسكوت عنه.
ساق أبو العلاء آراءه في رسالة الغفران بأسلوب
سردي قوامه شخصيات تتحاور في أمكنة وأزمنة مختلفة، تتلاقى في لحظة الخلق الفني في
زمن تسريدي محصور في أحاديتين؛ مكانيّة
وزمانيّة، فجاء زمن الحكي مفردًا في ظاهره" يوم القيامة"، ولكنّه كان
منطويًا على جمع من أزمنة تشكّلت في مركزية لحظة الحكي.وكذلك اتسعت نقطة المكان
الأحادية" المحشر"؛ لتشمل جمعًا من أمكنة توحّدت في حضور الغيب وسلطته،
فصار للشخصيات حضوران، حضور تخييليّ يفرضه الراوي، وحضور سديميّ يفرضه فعل الغياب.
لعب التخييل
دورًا رئيسًا في تشكيل الخطاب السرديّ، إذ أوجد بتمثلات لفظية أحداثًا لا واقعية، استطاع
أبو العلاء بخياله وتخيله أن يجعلها وسطًا مشحونًا بالرموز والدلالات
والايحاءات، التي يقبض على بعضها
بفضل تأويل الصور اللسانيّة المُنتَجة
بواسطة اللغة ، والمكتسبة وجودها وهويتها وأنساقها من شخصية خالقها ومرسلها الناطق بلسان راوٍ جعله
في لحظة الخلق موازيًا له في القيمة المعرفيّة، وهو ابن القارح.
اتسمت شخصية الراوي بقوة التخييل التي أسهمت في تكثيف
وظيفة الخلق الفني المتجسد في ظاهر العمل السردي، وفي عناصره البيولوجية التكوينية
وإشاراته الدلالية، وفي أنساقه اللغوية الملتزمة، في ظاهر السرد، بالأعراف
والتقاليد، فلم تخلُ من دقة الوصف المشحون بشتى أنواع الصور البلاغية، ليكون
لكلامه ظاهر وباطن، ظاهر يجد فيه المتلقي القاصدُ المتعةَ ضالته، ويقبض، أيضًا،
المتلقي الباحث عن الحقائق على بعض ما يسعى إليه.
بدأ الكلام في
رسالة الغفران على الجبر والقوة واعترافًا بعظيم قدرة ابن القارح الفكرية التي
تستحق إجابة تليق بما جاء في رسالته، فكان الجواب على من تمايز بالثقافة والمعرفة
كلامًا موسومًا بخبرة صاحبه وبمقامه الثقافي وبمعرفته الدينية، فكانت مقدمة
التسريد بابًا يلج منه إلى حجرات البنيات السردية التي انفتحت على مقامات سردية كثيرة
منها الجنة و النار، ليأتي الكلام على
أصحاب الجنة وأصحاب النار نتاج معرفة يقينية يقبض عليها المتكلم/ الراوي المتقمص
شخصية المؤلف، هذه الشخصية التي تستخدم التصريح والتلميح من أجل التعريف
بثقافتها اللغوية والدينية والتراثية، لتكون مستحقة رتبة معرفية تساعدها في الاحنكام إلى معطى عقليّ يمنحها صلاحية الفرز
والإلغاء، أي إلغاء قداسة بعض الأعراف السائدة، ووضع بدائل تدعم أحقيتَها الحجةُ المنطقيّة.
ينتقل أبو
العلاء بعد المقدمة إلى الاعلان عن وصول الرسالة
" التي بحرها بالحكم مسجور، ومن قرأها لا شك مأجور" ( رسالة
الغفران ص 60)، فلاقت في نفس أبي العلاء
التقدير والاعجاب" عجبت من اتساق عقودها" ، وهي لأبي القارح عمل
صالح يدخل به الجنة وينجيه من لهب النار،"
لأنّ الكلمة الطيبة تعرّج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكشف سجوف
الظلماء". ودليله على ذلك ما جاء في سورة ابراهيم عليه السلام:" إليه
يصعد الكَلِم الطيّب والعمل الصالح يرفعه" -"ألم تر كيف ضرب الله مثلاً
كلمة طيبة كشجرة طيّبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن
ربها"، فعكست مقدمة الرسالة مقدرة
أبي العلاء اللغوية وثقافته التراثية ونظرته الفلسفية بأسلوب متماسك محكم فيه
الكثير من التمويه والتضليل، والإشارات المرمزة التي بعث بها إلى ابن القارح قبل
أن يعلن وصول الرسالة وإعجابه بها.
يتخذ أبو
العلاء من الآية الكريمة مدخلاً ليسرد روايات تتناول كؤوس العسجد والأباريق، ثم
يقوم بعملية ارتدادية تؤكد على قدراته اللغوية والنحوية ، ومن أمثلة ذلك ورود كلمة
إبريق في سياقات متنوعة، لتكون هذه اللفظة معبرًا إلى الكلام على الأنهار، والطيور
السابحة، والعسل المصفى والنحل، وكلّ ما أورده إشارات إلى الجنة التي وعِد بها
المؤمنون، فانتقل من التلميح إلى التصريح، ليتكلم على النحويين واللغويين وعلى
آرائهم في بعض الألفاظ الدالة على محل الجنة بذكر ما يحل فيها، فكان هذا السرد
عتبة يلج منها إلى الجنة ،ومن ثم إلى النار، ليظهر آراءه ومعتقداته في الأسباب
الموجبة دخول الجنة أو النار، وليستطرد في أحاديث وأخبار تعكس حقيقة مواقفه غير
المُصرَح بها.
خصّ أبو العلاء
في كلامه على أهل الجنةا للغويين بالحديث ، فكانت لهم منزلة مستقلة عن الشعراء
وغيرهم، وهذا التقديم إشارة إلى أمرين؛ أولهما يختص بأبي العلاء ويعكس
موقفه من العقل وأهل المنطق، لأنّ العاملين في الحقل النحوي تمايزوا باستخدام
مقومات المنطق من استقراء واستنباط ووضع فرضيات وبدهيات ومسلمات، ومن استخدم العقل،
في رأي أبي العلاء، فهو يستحق الرتبة العليا لأنّه بالعقل يتوب عن المعاصي، أما
الأمر الثاني فهو منهجيّ، لأنّ الكلام على اللغويين سيؤدي إلى الكلام على
الشعراء إذ لا وجود لموادّ التجربة العلميّة اللغويّة من دون كلام الشعراء، ولذلك تذاكر النحاة الأعشى وهم يتقاذفون الآنية
في أنهار الرحيق، فجعل من تمنياتهم مفتاحًا يلج به ليقوم بنزهة في الجنة على غير
نهج، فيرى الأعشى و"زهير بن أبي سلمى "و"عبيد بن الأبرص" و"عدي
بن زيد" و"أبو ذؤيب الهذلي" و"النابغة الذبيانيّ" و"النابغة
الجعديّ" و"لبيد بن ربيعة "، و"عوران قيس" وغيرهم، ليأتي
كلامه على "حديث الدينونة" ثمرة حوار مع رضوان وزفر وحمزة بن عبد المطلب وأبي علي
الفارسي والامام علي وفاطمة الزهراء والرسول، فيضمن له الحديث شفاعة تدخله الجنة. وربما قدّم أبو العلاء
النزهة على طلب الشفاعة لتكون الجنة خيارًا يسعى إليه ويجهد النفس في طلبه.
لم يتوقف أبو العلاء في سرد الأخبار وابتكار القصص على
أهل الجنة بل تكلّم على أهل الناروعلى أشعار الجن وأهل الأرض وعلى معتقدات في
الحلولية والتناسخ ورجال الصوفية. فأفاض خياله في دقة الوصف وتجسيد الشخصيات
وإنطاقها بالمعلوم والمجهول، والحقائق غير القابلة للنقض وذلك باسلوب براغماتي
قوامه الحجاج البرهاني المدعم بدقة الوصف والتمثيل، في جدلية علائقية تربط بين
المؤلف والمتكلم، غايته أن يتوافق المتكلم الذي أنطقه، والمتلقي الذي يخاطبه عند
قصدية يقينية آمن بها.
جعل أبو العلاء من المتكلم شخصية محوريّة تشارك في تحريك
الأحداث وتوظيف المفاهيم الدينية وكشف خبايا النفس البشرية، وفض أسرارها، بوصفها شخصية
مثقفة واثقة من نفسها،وهذه الشخصية المحورية أكثر ما يميزها تفكيرها الممنهج
المنظم، وصدقها، فهي تسرد الأخبار بدقة العارف العالم تفاصيل الأمور والواقائع،
فلم يختلق الراوي الشحصيات، فهي موجودة في الموروث الديني والثقافي، ولكنّه نسب
إليها أحداثًا ومهمات محسوسة صاغها بتخييل غيبيّ مشحون بالمقاصد والغايات.
وفق هذه المعطيات تتجلى علاقة المؤلف والمتكلم علاقة
تطابق، فهما ، لحظة الكتابة، وجهان لحقيقة واحدة تضمرها بنيات سردية، قوامها وصف
وحوار وأبطال وأحداث واستطرادات وعقدة وحل وأزمنة وأمكنة تمنح العمل السردي
مصداقية مؤسسة على حقائق يوظفها الخيال في التعبير عن أحاسيس المتكلم ورؤاه، كونه خيالاً
مدعمًا بمقومات الحجاج المنطقيّ، وبمواقف تجّسد آراء أبي العلاء وعلاقته بالفكر
الديني والثقافي والمعتقدي والأدبيّ، فكانت شخصية ابن القارح ذاتًا مستنسخة أنطقها
المؤلف بما ترغب في قوله ذاتٌ كليّة توحّدت
في لحظة من لحظات تجلياتها الإبداعيّة، ، أي لحظة يتلاشى الصراع بين ذاتين؛ ذات
مادية تدرك ظواهر ما حولها وترغب في التماهي به، وأخرى عرفانية تدرك مدلولات ما حولها فتمارس
سلطة توجيه ورقابة، ولكنهما لحظة يتم عقد قران
عرفيّ بينهما يكون اللقاء على غير مثال، و
تكون ثمرته خلقًا جديدًا هوبعض من روح المبدع وليست كليتها، وبالتالي فإنّ الرواي/
المتكلم هو ظل من ظلال الكاتب عينه ولكنّه
ليس أنله الكليه المطلقة.
بهذه الرؤيا يجوز القول إن المؤلف والراوي، في رسالة
الغفران، جاء اتحادهما شبه تام، فابن القارح يتقمص شخصية أبي العلاء في معظم
الأخبار التي ساقها، سواء أكان ذلك في الأسلوب أم الغايات والمقاصد. ومنها:
أ_ تجليات الأسلوب
_عكس محتوى
الرسالة من حيث البنية الظاهرة مقدرة أبي العلاء الأدبية في صياغة نوعي الكلام؛
الشعر والنثر.
_وضع أبو العلاء في كتابه رسالة الغفران استراتيجية
حجاجية برهانية غايتها توظيف الخيال في تثبيت قصديتة التي تبنت الإفصاح عن مقصد
محسوس بكلام محدد، فقرنها بأفعال يتجه فيها العقل نحو الموضوع ليدركه، وذلك بنقله
من حيز الواقع التخييلي إلى حيز التفكير والاحتكام، معينه في ذلك استخدام الفرضيات
والمعطيات ومبدأ الثالث المرفوع والأدلة البرهانيّة الدينية واليقينية المستمدة من
القرآن الكريم.
-استخدم أبو العلاء في الحوار السرديّ منهجًا براغماتيًا يعينه على الاقناع، فكان يضع
الفرضية ويبرهن على صحتها، أو ينقضها،ومن القضايا التي أضفى عليها قناعاته قضية شغلت،
ولما تزل، أذهان المسلمين وهي قضية حكم من عصى قبل أن يهتدي قلبه بالاسلام، فيرى
أبو العلاء أن للعقل منزلة ترحم صاحبه المتنور من النار وبخاصة الشعراء الذين
نطقوا بالحساب قبل معرفة الإسلام، وهؤلاء لم يحرموا من لذة خمر الجنة إذ لا حجة
عليهم، وبهذه الحجة كان زهير من أهل الجنة وممن حظوا بلذة خمر الجنة، على عكس الأعشى الذي دخل الجنة بشفاعة من الإمام علي
لأنّه مدح الرسول في الدنيا وشهد بنبوته،
ولكن صدته الخمر عن اتباع مبادئ الاسلام " فأدخل الجنة وحرمت عليه الخمر
لأن" من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة ، لم يُسقها في الآخرة" (77)
. ولم يكتفِ بنقل تصوراته، بل دعّمها بالبرهان والحجة الفلسفية على لسان زهير إذ
يقول: " إن أخا بكر أدرك محمدًا فوجبت عليه الحجة، لأنّه بُعث بتحريم الخمر،
وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء،
فلا حجة عليّ" ( 79).
_سخّر أبو
العلاء فكره المنطقيّ ليكرس أفكاره حكمًا غير قابلة للنقض، فساق من خلال الشعر حكمًا
رغب في الاضاءة على مدلولاتها، نحو" من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب"،
ليؤكد أنّ الكرامة توجب على الإنسان عدم إراقة ماء وجهه إلا أمام الخالق، وهذه من
المسلمات التي تمسّك بها أبو العلاء وعاشها ومارسها في حياتها.
_وضع شروطًا
للكتابة الإبداعيّة، لتكون معيارًا تقاس عليه قيمة الشعر، وكانت الشروط لغويةً
ونحويةً وصرفية وبلاغية وعروضية دعّم بها آراءه النقدية كقوله" لا يمكن أن
يكون روي هذا البيت ألفًا؛ لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الروي ههنا ساكن،
فلا يجوز ذلك"( ص66) فوضع بأسلوب سردي محكم معايير لجودة الشعر، وهذا المثال
يظهر ثقافة أبي العلاء الشعرية وقدرته على توظيفها في الوصول إلى المقاصد بالتلميح
من دون تصريح، ولقد أوردت كتب الأدب ما
قاله لمنتقدي المتنبي؛ يكفي المتنبي فخرًا أنّه قال:" لك يا منازل في القلوب
منازل" ،وكانت غايته الوصول إلى بيت من القصيدة يقول:
وإذا أتتك
مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي
بأني كامل.
_ توظيف الوصف
في إبراز علمية التخييل ليكون حكمه على ما يقول غير محصور في أفكار ومفاهيم داخل
عقله، بل مستمدة من ظواهر ومعطيات حدّدت
كينونة الأشياء وماهياتها، فكان وصفه للجنة دعوة
إلى العمل الصالح، وذلك بأسلوب
قائم على التشويق ودقة التصوير، فرسمها بالكلمات كما تخيلها وبدت له في حضرة الشطح
الصوفي الداخليّ، فألغت قصديته التقسيم التقليدي ما بين الواقع الخارجيّ المستمد
من موروثه الدينيّ، والشعور الذاتي، مؤكدًا
أنّ الشعور هو الذي يقصد الأشياء
دائمًا، ويعطيها ويمنح ماهياتها صفات يقبلها العقل، ويستدل بها عليها، فالأباريق
موجودة على أنهار الجنة" وفي تلك الجنة أوان على هيئة الطير السابحة ،
والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صورة الكراكي، وأُخر تشاكل المكاكي،
وعلى خلق طواويس وبط، فبعض في الجارية وبعض في الشط، ينبع من أفواهها شراب، كأنه
من الرقة سراب ..." (64) فأظهر
الأشياء كما رسمها شعور داخلي ألغى المسافة بين عالم الأرض وعالم الغيب، معينه في
كل ما رسمه معارف وحقائق استمدها من القرآن الكريم، فجاء وصفه مطرزًا
بأبدع ما ينسجه الخيال من صور.
ب- تجليات
المقاصد والغايات
للمتكلم حضور
بارز في حكايا رسالة الغفران، فهو ينقل ما يراه أبو العلاء بعين اليقين
التخييلية، وما يسمعه من أفكار جريئة
غايتها تكريس الإيمان فعلاً إبداعيًّا يحرّر صاحبه من سكونية التلقي، ويحرّضه على
الشك والسؤال والمعرفة التي تجلت في مواقف كثيرة منها:
- يرفض المؤلف/
الراوي حصر الخلاص بالمسلم فعدي بن زيد مسيحي وهو من أهل الجنة، لأنّه كان "
على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه"
-يؤمن المتكلم
/ الراوي بأن الانسان مخير وليس مسيّرًا، شريطة أن يستعين المرء بإرادته، "
أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء. فيقتصر ذلك على الارادة" ( 137)، وهذا
مبدأ من مبادئ المعتزلة التي أعجب بها أبو العلاء.
_ التحريض على
الإبداع؛ كونه طريقًا إلى الجنة، فوضع معيارًا لتصنيف الشعر والشعراء، ورأى أنّ
للكلمة المبدعة دورًا في الدنيا والآخرة، ومن سماتها الأصلُ الثابت المؤسس لفروع
تعلو بالثمار. والإبداع، في رأيه، إضافة معرفيةوخاصية نجاة، شريطة ألا يتناقض
والقيم الدينية، التي نقضها بشار، فكان نصيبه النار في بيتين قالهما:
أبليس أفضل من أبيكم آدم فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة والطين لا يسمو سمو النار( 150)
- رفض التقليد، والتمسك بالصدق والأمانة،والدعوة إلىالتجديد؛
فالحطيئة شفع له قول الصدق ولم يشفع له
بيت تردده الأجيال:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
لأنّ هذا القول كان قد
سبقه إلى معناه الصالحون، فنظمه
ولم يعمل به،وبالتالي لم يكن هذا البيت ليشير إلى قدرته على الخلق والإبداع. (
الرسالة 148).
- التركيز على
طبائع أبناء البشر الذين ينهون عن المعاصي ويرتكبونها، فانتصر عليهم ابليس بضعف
إرادتهم، فكانت حجته عليهم أقوى من معتقداتهم التي تقول بلعن ابليس، فيجيبهم ردًا
على ما سمعه من شتم ولعن" ألم تنهوا عن الشمات يا بني آدم؟ ولكنكم بحمد الله،
ما زجرتم عن شيء إلا وركبتموه" ( 174)، وهذا الاحساس عاشه أبو العلاء وعبّر
عنه في مواضع كثيرة.
-الإصرار على
نعت البشر بالكذب والمرواغة، والتقرب من أهل الشأن بالمديح، وذلك في أكثر من موقف،
منها ما جاء على لسان آدم عندما نسب إليه
ابن القارح شعرًا ليس له، إذ قال: " أبيتم إلا عقوقًا وأذية، إنما كنت أتكلم
بالعربية و أنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض نقل لساني إلى السريانية، فلم أنطق
بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردّني الله، سبحانه وتعالى، إلى الجنة، عادت علي
العربيّة، فأي حين نظمت الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ ...أعزز علي بكم معشر أُبينيّ!
إنكم في الضلالة متهوّكون! آليت ما نطقت هذا النظم، ولا نطق في عصري، وإنما نظمه
بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله ! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم
أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك إلى الأرض"(
181_ 182)
-رفض البدع
الدينية، والخرافات التي تتناقلها العامة وتؤثر على عقول الأجيال" أفلا يرى
مولاي الشيخ إلى ما رمى به هذا البشر من سوء التمييز، وتحيزهم إلى ما يمتنع من
التخيير؟" ( ص 236)
-دخول الجنة
غير مشروط بأصحاب الأعمال المحمودة. ومن صفات أهل الجنة الذكاء، لا يخالطهم
الأغبياء، فهم لماحون يفهمون الإشارات من دون بوح، ولذلك لم ينتظر عبيد الله
الأبرص سؤال ابن القارح بل كان هو المبادر" لعلك تريد أن تسألني بم غُفر
لي". وكان دخوله الجنة في بيت واحد حكمي " من يسأل الناس يحرموه وسائل
الله لا يخيب". فأراد أبو العلاء أن يكرّس أفكاره حقائق يقبلها العقل، فرب حسنة
واحدة تمحو السيئات، ولكن هل يُعقل أن يغفر الله ويرحم عباده نتيجة عمل واحد أو
قول واحد؟ هذه إحدى الاشكاليات التي رغب في طرحها، منطلقه في ذلك القرآن الكريم.
- احتفاظ أهل
الجنة بطائعهم الانسانيّة، فهم متمسكون بعاداتهم وتقايدهم التي تجلت في خطابه "
مأدبة في الجنة، إذ جمع فيها" من أمكن من شعراء الخضرمة والاسلام ، والذين
أصّلوا كلام العرب، وجعلوه محفوظًا في الكتب، وغيرهم ممن يتأنس بقليل من الأدب.
فيخطر له أن تكون كمآدب الدار العاجلة، إذ كان البارئ، جلّت عظمته، لا يعجزه أن
يأتيهم بجميع الأغراض، من غير كلفة ولا إبطاء، فتنشأ أرحاء على الكوثر، تجعجع لطحن
بر من بر الجنة" ( ص ا26)
- احترام
التراتبية والنظام الوظيفيّ، فحمزة بن عبد
المطلب لم يطلب الشفاعة من الرسول بل أرسل ابن القارح إلى علي ليشفع له، ورضوان يحصر
مهمته بما أوكل إليه.
تعكس هذه
التجليات القصدية وغيرها أفكار أبي العلاء وحقيقة أحاسيسه بالنسبة إلى المعتقدات
والسلوكيات وعلاقة الانسان بنفسه والآخر وبالكون والخالق، فكان ابن القارح إحدى
ذوات أبي العلاء التي توافقت معها في معظم المواقف، ولكن لم يكن التوافق تامًا، إذ
تمايزا من خلال عملية السرد، وذلك من حيث الحضور، فكان لأبي العلاء حضور محسوس يمارسه
من خلال الغياب، وكان لابن القارح حضور
مكثف مجسد في وظيفة المتكلم القابض على تنشيط الأحداث وتحريك الشخصيات، فأنطق أبو
العلاء ظله / ابن القارح بما يرغب في قوله، وبما تأمر به النفس البشرية التي يقمع
رغباتها أبو العلاء، فكان صوت ابن القارح ، في بعض المواقف، صدى لذات مكبوتة
مبرمجة بإرادة إبي العلاء.
تشير القراءة التأويلية لفاتحتي الرسالتين،
رسالة ابن القارح، ورسالة أبي العلاء، إلى أن الذات المستنسخة التي بدأت خطابها بعبارة : "استفتاحًا باسمه،
واستنتاجًا ببركته" كانت تنطق بما ترغب فيه
ذات كلية أجازت لنفسها حذف العامل لعلمها به، ولكنها أخضعت نفسها لحظة الإجابة
لحذف واجب فرضه أسلوب النداء الذي أضمر دعوة تقرب بها المتكلم/ المؤلف إلى الخالق ليكون
الكلام اللاحق المشحون بالترميز مشفوعًا
بتيسير الله وعونه، أللهم يسر وأعن" ؛ فكان لذات الراوي / المتكلم وجود متكامل في كلا الرسالتين، لأن فاتحتيهما
انطوتا على الأسلوب عينه، ولكن تمايز الحذف بين الجواز والوجوب، وهذا ما يقوم عليه
الفكر الاسلامي، من جائز وواجب وتحريم أراد أبو العلاء توضيح الأسباب الموجبة
والحجج التي بها ينقاد المرء إلى مصيره يوم الدينونة. فلم تبدأ الرسالتان ببسملة
أو بحمدلة بل بفاتحتين تمايزتا بقدر ما تكاملتا.
تقمص أبو
العلاء شخصية الراوي ابن القارح فصارا شخصًا واحدًا، وتجلت الصورة المرئية مفردة،
لأنّ المفرد أسبق على المثنى والجمع، وبالواحد تسهل عملية التخييل والتسلل إلى
بواطن الحقائق وكشفها، فكان الرواي الفرد/ المثنى ينقل الصور ويخبر عن أمكنة لا
تحصى احتضنتها ظروف زمنية غير محدودة وغير
منتهية، منحت الأمكنة هوية وجود ومن ثم أكسبتها الحضور في بيئة لها خصائصها
المعرفية والثقافية والدينية والاجتماعية، فكان الراوي (المفرد/ المثنى) صامتًا
ناطقًا؛ هو الصامت في أثواب شخصية أبي العلاء المراقب والقابض على الحقائق، وهو
الناطق في شخصية ابن القارح المفصح عن وجوده بالقوة وبالفعل فنطقت ذات أبي العلاء
المتكلمة بآراء دينية ونقدية واجتماعية، ورسمت معالم نفسية وحضارية، فكان ابن
القارح الشخصية المحورية التي تحرك وتستقطب الشخصيات الرئيسة وتحثها على الكلام
واتخاذ المواقف، فهو الموازي والمساوي والمطابق لأبي العلاء في زمن الخلق الفني .
ثالثًا:
فيزيائية المسارات السردية بين التخييل الغيبي والتنميط القصدي
استنادًا إلى ما تقدّم نستطيع أن نقرأ فيزيائية المسارات السردية التي منحت رسالة الغفران
حركية دائمة لا تنتهي، لأنها مسارات مشحونة بدلالات وإشارات قوامها لغة سردية تهدف
إلى إظهار الأشياء على حقيقتها، فالظواهر هي مقياس كينونة الأشياء و ماهيتها، وبالسعي
إلى كشفها يصير الشك محرّضًا على استجلاء الحقائق.
وظّف أبو العلاء
الشك والسؤال من أجل الوصول إلى معارف تجعل من الفعل الشعوري مدركًا حسيًّا، ولما
كانت علاقة المرء بالغيب علاقة ثابتة، يخضع معها شعور المؤمن لسلطة المقدس، فلقد
حاول أبو العلاء زعزعة سكونية الفكر الصنمي، وقام بتوظيف المعرفة العقلية الذاتية من
أجل بلوع مقاصد وغايات تبدت لعقله، فاخترق بإحساسه ومعارفه فضاء الغيب وقدسيته وطرح
إشكاليات فلسفية ودينية واجتماعية وأدبية، ربما كان القصد منها تكريس
آرائه حقائق في فكر المتلقي، وبخاصة أن الرسالة تقوم على منهج حجاجي منطقي
يفضي إلى الاقناع والتبني.
حاول أبو العلاء تعزيز الرأي في أن الشعور هو الذي يقصد
الأشياء، بفضل عقل غير منغلق، عقل يلغي الذاتية ويوحّد بين عالمي الداخل والخارج،
ليصير العقل والعالم متلازمين، غير متناقضين، وبهذا التلازم صار للغيب المحسوس
وجود يقينيّ في رسالة الغفران، غايته تصويب العلاقة بين الإنسان ونفسه ، من جهة،
وبين الإنسان وخالقه من جهة ثانية، فتتحول العلاقة من الخوف والتخويف، ومن الجهل
والتجهيل إلى علاقة معرفية يكون العقل فيها هو الحكم، وإليه يرجع الاحتكام.
توحي رسالة الغفران من حيث ظاهر البنية بأنها
بنية تفكيكية كونها تجمع بين الحضور والغياب، وبين أهل الأرض وأهل الجنة والنار،
وبين مشارب متنوعة، ولكنّها في باطن قصديتها تتسم بالانتظام كونها تمثل فعل الراوي
المتوسل بالفن التأثير في المتلقي وتكريس قناعاته حقائق لا تقبل النقض، وذلك من خلال
ما توحي به البنية العميقة للنصوص جميعها.
تقوم البنية
السطحية على عدد لا متناه من المسارات السردية، حيث تتنوع القضايا والشخصيات
والأحداث والأزمنة والأمكنة، فتتعدد الأصوات والموضوعات من اجتماعية وأدبية ودينية
ولغوية وصوفية وتاريخية وصوفية ووهميّة، وغيرها من الموضوعات التي رسمتها البنية
السردية الظاهرة حيث تحّركت الشخوص في مسارات
خضعت في تشكلاتها لسلطة ابن القارح الذي وزّع االأدوار ومسرحها وفق مستويات فرضتها قناعات المؤلف/ المتكلم.
جاءت علاقة
الراوي بمعظم الشخصيات علاقة حوارية لا تنازع فيها على المواقع، لأنّ الحضور
المكاني والزماني لبعض الشخصيات ثابت من حيث وجودها التاريخي والديني، بالاضافة
إلى وجود شخصيات وهمية تتبنى الفكر الشعبي الخرافي المتداول، فأطّر استحضار
الشخصيات في ثلاثة مستويات هي:
أ-مستوى
الشخصيلت الحقيقية التي تتمتع بوجود ثابت
من حيث القيمة الدينية؛ نحو: آدم _ الرسول_ علي بن أبي طالب_ فاطمة الزهراء_ رضوان.
ب- مستوى
الشخصيات الحقيقية التي لها وجود ثابت من
حيث القيمة التأريخية للفكر واللغة والأدب والفقه، نحو؛ الأعشى_ بشلر_ المتنبي_
الحجاج.
ج- مستوى
الأشخاص الهامشيي الحضور، لأنّ وجودهم محصور في حيز التداول الشعبي، وليس نتاج معطيات
عقلية تؤكد حقيقة الوجود، فأشار إلى وجودهم من خلال الكلام على معتقداتهم.
تظهر هذه
المستويات أنّ المؤلف حاول، في كل ما رسم من مسارات لأبطاله، أن يوفق بين الثوابت
الدينية ودور العقل في تحديد طبقات المجتمعات الإنسانية التي ستحافظ على مواقعها
في عالم الغيب، فقسّم أبناء البشر من حيث علاقتهم بالعقل إلى:
أ-فئة تتبنى
العقل إمامًا، وبه تنجو من المعصية.
ب-فئة غبية لا
علاقة لها بالعقل ، لأنّها استغنت عن دورها
في فهم الظواهر والمرئيات، ولم تدرك جوهر
العلاقة بين الخالق والمخلوق، لأنها أبطلت فاعلية العقل في نقض الحقائق المرئية ،
فالحلاج له مريدون والتناسخ له أصحابه، وفي كلا الأمرين لا حقائق يقينية يقيلها
العقل، على الرغم تواتر أخبار عن مشاهد
ينقلها الرواة.
تطورت
استراتيجية الحركة في سرديات أبي العلاء من التلميح إلى التصريح، وذلك من خلال تأثير
الأصوات المبثوثة داخل النص، فاتسع الحوار الشكلي والتمثيلي، وعكست حركية الأبطال
مسوّغات التواصل الإنسانيّ والترابط المنطقي بين الأحداث ونتائجها، من دون أن تسعى الشخصية إلى تغيير واقعها الذي
تخيله الراوي ، فألغى دور البطل في خلق النظام الاجتماعيّ، وتحديد سمات كينونته
المستقلية، لأنّ الراوي يقبض على آلية تحديد هوية المسارات وفق ما تبناه من
منظورات نفسية واجتماعية وإيديولوجية.
ابتكر أبو
العلاء وظائف دلالية لأزمنة و أمكنة تتصف بالثيات فمنح الثبات طاقة حركية حررته من
قيد الموروث ، فأخبر ووصف ونظم الأحداث
التي بدت مبعثرة فجعل النظام تاليًا الفوضى، وهذا قانون رياضي!ّ علميّ
منطقيّ، فجاء الخطاب السردي مشحونًا بـ:
أولاً: على مستوى الدلالة
-تنوع الأخبار
والمقاصد.
-تأكيد التباين والتفاوت بين المخلوقات في الأرض والسماء، و تعدد
لغاتهم.
- الإيمان بوجود الجن في الأرض والسماء واتصافهم بالذكاء
والتمايز؛" إنا أهل ذكاء وفطن، ولا بد لأحدنا أن يكون عارفًا بجميع الألسن
الاإنسية، ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنيس" ( 142)
-التركيز على دور الإبداع.
-تحريض العقل على طرح الإشكاليات، وربما كان كلامه على
لسان ابليس هادفًا إلى طرح إشكالية شرب الخمر في الجنة
فقال" إن الخمر حُرمت عليكم في الدنيا وأحلت في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة
بالوالدان المخلدين فعل أهل القريات؟ فكان الجواب لعنًا" عليك البهلة"(ص150)،
ولم يقدم أبو العلاء رأيًا يوضح موقفه، وترك القضية مفتوحة على عدد من التأويلات.
-التركيز على
قيم سلوكية ومعرفية وخلقية ودينية وأضمرت طقوسًا وعقائد ومفاهيم
أخضعها للقبول والشك والرفض.
بهذه المعطيات نستطيع القول إنّ رسالة الغفران جسدت ،
على مستوى الدلالة، الرؤيا الفلسفية و الدينية والعقائدية والمنطقية التي تمايز
بها أبو العلاء المعري.
ثانيًا: على مستوى الخلق الفنيّ
أ_-تضمنت رسالة الغفران عناصر السرد وفق ماهو متعارف عليه في فضاء النقد السرديّ، فإذا
تناولنا على سبيل المثال خطابه "حديث الدينونة، لعثرنا على عناصر العمل
السردي كلّها، وهي:
1-الشخصيات: لم يتدخل الراوي في إلباس الشخصيات الرئيسة
أقنعة ليست لها لأنّها شخصيات معروفة، فلم يبتكرها، فهي تمثل ثوابت دينية أو
ثقافية أو تاريخية، وهذه الشخصيات هي:
-ابن القارح =البطل والشخصية المحورية
-الخازن رضوان=شخصية ثابتة
-الخازن زفر=شخصية ثابتة
-الامام علي =شخصية فاعلة في تحريك الأحداث
-فاطمة الزهراء=شخصية أساس ضاعف وجودها في تحويل المحسوس
إلى فعل قصدي يعبر عنه بالكلام، فالزهراء لها حضور متمايز مؤسس على عرف أخلاقي
وديني، وزيارتها لوالدها تتم في أوقات معينة، وهذه الزيارة لها طقسها الذي يفرض
على أهل الجنة احترامه والتعامل معه وفق أعراف محددة.
-النبي محمد=شخصية ثابتة، ولها وحدها حق الشفاعة.
2-المكان=أرض المحشر
3= الزمان=يوم القيامة
4-العقدة=رجاء ابن القارح أن يدخل الجنة وفقدان
5-الحل= شفاعة الرسول
6 تطور الأحداث
ينقل أبو العلاء تخيلاته في رحلة خرافية جعل بطلها ابن
القارح بعد أن يبعث من الموت ويصعد للحساب، وعندما يعطى كتاب أعماله يجد أن حسناته
قليلة، ولكن في آخر الكتاب يجد صك التوبة، وفي أثناء انشغاله بحضرة أبي علي
الفارسي اللغويّ، يغفل عن صك التوبة، فأضاعه، و تدفع به الرغبة في دخول الجنة إلى
البحث عن شفيع، فيلتقي الملائكة ويتقرب منهم عن طريق الشعر،الذي كان أسلوب
المداحين في الأرض لينالوا العطايا والهبات، ولما كان مجتع أهل الجنة مترفعًا عن
جشع النفس البشرية، فلم ينل مبتغاه بالتقرب من رضوان وزفر، وعندما وصل به المقام إلى
حضرة الرسول الموكل إليه قراءة كتاب الحسنات والسيئات، يجد أن أعماله قد ختمت بالتوبة
فيشفع له.
ب-تنوّع الأصوات ووظائفها.
ج-تثبيت سلطة المتكلم في تحريك الأحداث ومسرحتها، كونها
خطابًا موجهًا من مبدع تمايز بطاقة تخييلية هادفة .
د-إيهام المتلقي بغياب سلطة المؤلف.
ه-حضور مكثف للثقافة الاسلامية والفعل الثقافيّ العربيّ.
و-تطريز السرد بالوصف الدقيق المتسم بخصائص جماليّة
وبلاغيّة.
ز-توظيف الاستطراد في تثبيت الحجج والمقاصد.
تظهر البنى السطحية بأنساقها النحويّة
والأسلوبيّة و التقنيّة ، والبنى العميقة
بتجلياتها الدلالية وجود ترابط بين
الأحداث والراوي/ المتكلم، فيخلق هذا الترابط مسارات سردية حققت وظائف الراوي
السرديّة التي حددها جينيت وهي؛ الوظيفة
السردية، والوظيفة المباشرة، والوظيفة التواصلية، والوظيفة التعبيرية والوظيفة
الايديولوجية، فأضمرت المسارات عددًا لا متناهيًا من الآراء والأفكار التي آمن بها
أبو العلاء والتي لم يؤمن بها، كموقفه من الجن والملائكة والبعث والنفس والأفلاك
والجبرية والزمان والمكان والاجتماع والقضاء والأخلاق و التناسخ وأهل الصوفية،
وغيرها من القضايا التي ترك الاحتكام فيها
لسلطة العقل.
انبنت رسالة الغفران على أحداث تخييلية، قوامها حقائق دينية ومعرفية، فارتسمت
في صور لفظية باحت بمكنونات الشخوص ورسمت إطارًا عامًا لها، فلم تكن علاقة الراوي بشخوصه من وجهة نظر عليا، ولم يكن
هو خالقها، فهي موجودة بالقوة والفعل في الموروث الديني والتاريخي والثقافيّ، ولكن
الراوي استطاع استحضارها ومحاورتها وإبراز طاقاتها فلم يكن الخالق الوهمي بل كان
المتخيِّل المبدع الخارج على المقدس الديني ليحرره من صنمية الثبات ويمنحه قيمة وجود
تحددها حركية تنبض بالقبول والرفض،
فترسم مسارات متباينة ممهورة بتفكير
الراوي المفرد/ المثنى.
اتسم الخطاب السردي في كتاب أبي العلاء بتحولات دلالية
تشي بالتناقض بين مواقف أبي العلاء الحياتية والراوي الناطق بلسانه، غير أنّ هذا
التناقض لم يكن إلا نتاج الجانب المسكوت عنه في أحاسيس ومشاعر أبي العلاء التي لم
يبح بها ، فهو الشاعر، وينتقد مهنة الشعر على لسان ابليس، فيقول:" بئس
الصناعة! إنها تهب غُفة من العيش، لا يتسع به العيال، وإنها لمزلة بالقدم وكم
أهلكت من أمثالك(149)، فهل كان أبو العلاء غير راضٍ عن الشعر إذا اتخذه الشعراء
مهنة تكسب؟ وهل تقنع بوجه ابن القارح ليطرح مواضيع لم يكن ليبوح بها؟
أغنى أبو العلاء المعريّ كتابه" رسالة
الغفران" بإشارات دينية وأدبية واجتماعية ونفسيّة ومعرفيّة، مافتئت تغري
الناقد العربي، وتدعوه إلى الكشف عما انغلقت عليه الأخبار والقصص من قيم معرفية
وإنسانيّة كرّسها أبو العلاء في منطوق لغوي سردي أجراه على ألسنة أبطال تنازعتهم
رغبات وأهواء وطموحات متباينة، فجاءت لغته اختزالاً لعدد لا متناه من حركية مشحونة
بالدلالات والسيمائيات التي تتبنى قصدية أبي العلاء ورؤاه ومعتقداته، وتكشف، في
الوقت عينه، عن القيمة الفنية التخييلية لخطابه السرديّ.
خامسًا: بيان البحث
لما كان الخطاب السردي الإبداعيّ موسومًا بخصوصية فنية
توحّد بين المرسل والمتلقي في طقس افتراضي رسم كينونته المرسل/ السارد، فإنّ تحقق
هذه الخصوصية الفنية، مشروط بوجود طاقة
خلق قادرة على تحويل التصورات الذهنيّة
إلى واقع ملموس، له إحداثيات تؤكد على
وجود زماني ومكاني يحدد إطارهما شخصيات تمنح هذا الوجود الحياة والخصب والامتلاء،
وبهما تتم عملية تحويل التصور الذهني من حيّز التخيل والافتراض إلى كينونة لها
مزكزيتها وهويتها.
تجسّد رسالة الغفران لأبي العلاء المعري إحدى تجليات
الفكر الرافض المتمرد على سكونية العقل العربي، فهي نتاج فعل تخييلي اقترن بشطح
فكريّ ، توّحد به أبو العلاء مع ذاته
الأخرى الموازية له معرفيًّا وثقافيًّا، فكان الصامت المحتجب وراء سارد ناطق يبوح
بمقاصد وآراء الذات الواعيّة تراثَها وثقافتها وواقعها. فقبض أبو العلاء، في
اللحظة عينها، على الغيب والغياب، ليجعل من الغيب واقعًا ملموسًا، ومن الغياب
حضورًا ناطقًا فاعلاً، وليمنح خطابه السردي ماهية فنية متمايزة.
استنادا إلى ما تقدم يمكن القول إن أبا العلاء لم يسقط
هيولى التصور في مادية تسريد الراوي، بل رفع مادية التسريد إلى هيولى التصور وصاغ
أنساقًا لغويّة سرديّة تشي بالتهكم، وتوحي بالحقيقة، وتضمر الرفض، وتتمظهر بالإيمان، في لوحات فنية متنوعة
ومتباينة الدلالة، فجاءت عملية السرد في كتابه " رسالة الغفران" فعلاً
توليديًّا تمخض عن مزاوجة ثقافة الميتافيزيقيا، وثقافة الموروث اللغويّ والأدبيّ،
والرؤى الفلسفية في مختبر الخلق الفني الخاضع لسلطة العقل المبدع، فكان الخطاب
السردي المثال المتمايز بالفرادة الإبداعيّة، وبالعمق الفلسفي، وبالشمولية
المعرفيّة، وبفيض من الإشارات والدلالات التي ألبسها أبو العلاء ثمرة صراع عقليّ
قوامه جدال ديني/ غيبي وفكري / فلسفيّ.
أ.د.مها خيربك ناصر
أستاذة النحو والصرف والنقد الحديث
أستاذة الدراسات العليا_ الجامعة اللبنانية_ جامعة البلمند