الأحد، 25 فبراير 2018

الدكتورة مها خيربك ناصر في مقابلة على إذاعة صوت الشعب ضمن برنامج "إشكاليات" - موضوع الحلقة عن "جبران خليل جبران"

الدكتورة مها خيربك ناصر في مقابلة على إذاعة صوت الشعب ضمن برنامج "إشكاليات" - موضوع الحلقة عن "جبران خليل جبران"





 المقاربات المنطقيّة وأثر تغييبها في تدريس النحو العربيّ

الجامعات اللبنانيّة "أنموذجًا"
تشير معظم  الدراسات النحويّة الحديثة ، في معظم الجامعات العربيّة، إلى أنّ طرائق تدريس النحو العربيّ تفتقر إلى منهج علميّ يفسّر نظريّات اللغة في ضوء القوانين النحويّة المنطقيّة، فهذه الدراسات لا تحرّض الفكر على التحليل والتعليل والتقسيم والربط، ولذلك تبدو العمليّة التعليميّة نوعًا من الحفظ والاستذكار، فإذا ما شكّ طالب في قضية ما، أحيل الخطأ على الأولين من الناطقين بالعربيّة، وتسلّح الأستاذ"ة" بسلطة الرواية "هكذا قالت العرب"، أو تكون دعوة إلى التحرّر من التعقيدات النحويّة بحجّة التطوير والتحديث.
يؤكّد واقع تدريس النحو في الجامعات اللبنانيّة أنّ المناهج تحتاج إلى النظام، والترتيب، وإلى إعادة النظر في الآراء الجديدة التي يحرص بعض النحويّين على تثبيتها في أذهان المتلقّين حقائق ثابتة، من دون أن يقدّموا دليلاً علميًّا، أو حجّة منطقيّة، والسبب، في رأيي، يكمن في جهل الأصول النحويّة، أولاً، وفي غياب أدوات المنطق الرياضيّ التي تقوم عليها قوانين النحو العربيّ، وهذا بيّن في معظم الكتب المنشورة في العالم العربيّ.
يسعى بعض أساتذة النحو العربيّ إلى تبسيط النحو، وهذه قضية تستحق المتابعة، ولكنّ عملية التبسيط لا تكون بإلغاء الأسس، أو بالتبعية، لأنّ لكلّ لغة نظام تعالق عناصر مرتبط بمنطق تفكير مبتكري قوانين تشكيل التراكيب التي تمنح اللغة الخصوصيّة والاستمرار، فاللغة الفارسيّة، مثلا، فيها كم كبير من المفردات العربيّة، ومع ذلك لا يستطيع السامع غير المتقن قواعد اللغة الفارسيّة أن يفهم مقاصد المتكلمين.
دعا بعض اللغويين المعاصرين، ومنهم ابراهيم مصطفى، إلى إلغاء مصطلح الفاعل ونائب الفاعل والمبتدأ، وتوظيف مصطلح واحد هو المسند إليه، أو مصطلح الموضوع، وكذلك دعوا إلى توظيف مصطلح المُسند، أو المحمول، وإلغاء مصطلحي الفعل والخبر،  وأهمل هؤلاء الوظيفة الدلاليّة لكلّ مصطلح من المصطلحات التي ابتكرها علماء النحو الأوائل الذين أسّسوا لنظريّة الإسناد. 
 إنّ مناهج  تدريس النحو مُفرغّة من مقومات المنهج الاستنباطيّ /البرهانيّ، فهي تكشّف عن اتساع الهوة بين النظرية والتطبيق، وتظهر تدني الفكر التحليلي، وعجز الطلاّب عن تذكر المعلومات النحويّة، وعن غياب المهارات، وعن تعطيل شبه تام للفكر الاستراتيجي الناقد، لأنّ علوم النحو بالنسبة إلى الطالب قضايا غيبيّة يستدل إلى صعوبتها وتعقيداتها بالسماع والنقل والرواية من دون تمحيص أو محاولة في تقريب المفاهيم النحويّة من الإدراك الواعيّ.، لأنّ علم النحو أقصي عن خصائصه العلميّة وصار قواعد تُعلّم من دون فهم العلاقات المتبادلة والمتكافئة بين قوانين
كشفت عملية إحصاء الأخطاء اللغويّة والنحويّة لطلاّب الإجازة والماستر المنتسبين إلى قسم اللغة العربيّة وآدابها عن ضعف التفكير المنهجي عند الطلاّب، وغياب المحاكمة العقلية، و عن عجزهم عن الشك وطرح الأسئلة، فالطلاب يقدّمون أجوبة تفتقر إلى أبسط مقوّمات المنطق، فلا يميّز عدد كبير منهم بين الاسم والفعل والحرف، ومن هذه الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر:
-إعراب كلمة أيّها في قوله تعالى: يا أيّها الذين آمنوا" اسم استفهام،
-إعراب كلمة "يقولُنّ" اسمًا
إعراب فعل" أكون" مضافًا إليه،
إعراب فعل" حكت" مفعولاً به، أو مضافًا إليه.
-حتى أكون= حتى حرف جر- اكون اسم مجرور وعلامة جره الفتحة
- أكون فعل ماض مبني على ثبوت النون لأنه جمع مذكر سالم
-آمنوا= فاعل مرفوع وعلامة رفعه حذف النون
-أكون = اسم كان
 وهذه الإجابات لا تبشّر بإيجابيّة على مستوى التفكير والتحليل والتعليل والبرهان. فماذا أنتجت مناهج تدريس النحو الحديثة؟
يرتبط تحسين واقع اللغة العربيّة بتفعيل أدوات التفكير المنطقيّ، فيستطيع المعلّم والمتعلّم أن يشعرا بالمشكلة ليكونا قادرين على طرح الأسئلة، وابتكار الفرضيات، وعلى استنباط المعطيات التي تساعد في إنتاج إجابات صحيحة ومنطقيّة.
إنّ مناهج تدريس  النحو الحديثة ما زالت مقصّرة عمّا رسّخه علماء اللغة الأوائل، وعاجزة، في الوقت عينه، عن تفعيل دور المنطق في مقاربة مسائل النحو وقضاياه، وهذا بيّن في محتويات كُتب تؤكّد الإعادة والتكرار والغلو والمبالغة في إنكار البنية المنطقيّة للنحو العربيّ، نتيجة أحكام ومسبقة ومؤثرات خارجيّة تحرّض على إلغاء الأسس المنطقيّة التي بني عليها النحو العربيّ، ولذلك سيكون السعي الدائم من أجل التأسيس لدراسات نحويّة منطقيّة رياضيّة، قوامها البدهيات والمعطيات والثوابت والمتغيرات والمقدمات والتعريفات والقياس  الاستنباط والاستنتاج.
أ.د. مها خيربك ناصر
أستاذة الدراسات العليا- الجامعة اللبنانيّة


























أزرف الدمع حنيني

أزرف الدمع حنيني مفعمًا
                  ما لعيني لم تقاسمك المداما؟
أي جرح ترتضيه سكرةً ؟
        هل بخمر الوعد تسترضي الندامى؟
بوحنا وصلٌ    ، وتوقٌ وعدنا
       هل تسامى الحزن ؟ لا أرضى ملاما
ذكرياتي طِبتِ , وحياً للنهى
          سامريني , الصبر  يقريك السلاما
طيفه ،يا نعم، خلٌّ طيّب
                         أنا روحٌ  تتلقَّاهُ  كلاما
شَجْوُنا همْسٌ ، وأنغامٌ لقانا
                      ذقتُه طِيبًا و أرضاه لمِاما
يا حبيبي إنّ قلبي مسكنٌ
                      أنت ترعاه، فنعماه مقاما
همسات الخطو يا طيب الصدى
                في عيوني سوف تبقين وساما
أُبصرُ الطَّيفَ مدى وعدِ غدٍ
                    تقته لقيا بأنفاس الخزامى
حدثيني يا سويعات مضت
        جوهري الذكرى، ولا تخشي زحاما
يومنا يسبق أمسًا، و غدٌ
                تاق أن يرعاه في الخلد إماما
طبت يا حسان[1] في القلب رؤىً
                       فإلى م أحمل التوقَّ إلام
قدر هذا حبيبي ذقته  
                  وبنور الحق أزدادُ اعتصاما


مها خيربك ناصر



































وجعٌ.... وسؤال


لأنّني...أنّي...
امتطيتك حزني
وفيها وضعت الرحالا
وكنته بردًا سلامًا
ألا قرّي عينًا
....
تكوّر في نقطة الباء اشتياقٌ إليه
مضى والتقينا...وكناه وعدًا
وكان لقاء
....

إليه تتوق العيون
اليدان
إليه تضرّع بعضي وكلّي
إليه أحيل احتراقي ربيعًا ...وأمضي
...
ألا يا مهاة المرايا تنزي صقيعًا  ونارًا
وكونيه هاء
رسمتك أنت  دموع صلاة
وزيتون صبر
...ألايا مهاة المرايا تكسّر حلم
تفجّر في عين ذات مساء
تناهى بك الموت
صار اختيارا
فهل من سلام
وهل من تلاقٍ يبلل نار اشتياقٍ؟؟؟
....
الهي فأنت المعين...
وأنت الرجاء...
وأنت الحبيب
وأنت اشتعال القلوب وعشق الرياح ..
فبارك الهي ينابيع جرحي
....
امتطيت جراحي
ألا من رياح تعانق بعضي وحلمي؟
حنينًا إليك تتوق البرايا
ولا من عبور
ولا باب أمضي  إليه
...تعزي أناي
وكونيني كونا نما في اصطباري
وصار مزارات آه تناجي احتمالي
تنفتش
تبحث
فهل من مسمى
واسماء حسنى وباب ينوء باسمي؟؟؟
....

أنا الاسم؟
وبعضي أسماء سميتموها
وبعضي نار ونور وآهات ورد
فسبحانك أنت... وأنّي
وسبحانه اسمًا مسمى
وسبحانه شوقًا يقول بأنّيَ ...أنيّ
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟









أنثى خلود

عشتا ر، قالوا، و في أقوالهم حاروا   
            مغناج يا زنبقًا، أكمامه الغارُ
حسناءُ ، يا سحرها، والدِّل  خطوتها    
        مضمّخٌ طيبها،و الحسن أنوار
مهفهف قدُّها، مستعذبٌ فمها           
  المبسم الطيب المزهو أزهار
سبِّح لربِّك كم تغلو  مواهبه             
       صاغ الجمال وشعّت منه أنوار
      نعم الأنوثة مرمرٌ تمثال
.......
ترقرق الدمع من أجفانها غِرَدًا
         بوحًا حزينًا، وهمسُ البوح أسرار
أنى استدارت يئن القلب من ظمأ               
  رحماك يا نفسُ هل للحسن أثمار؟
عفوًا إبائي، فما وهمٌ ولا وهنٌ                
   أنا الجمال، و حسن الخُلق مئزار
سأكتب الآية الكبرى على هدبي:               
  عطر الأنوثة عفٌ، و الهوى نارُ
    إنّ الجمال لأقوالٌ و أفعالُ
.....

أمّ المسيح أنا ،الحبّ أرضعه                            
    مهدًا أهدهده ، الثكلَ أختار
أَحميه طِفلاً ، وسرُّ الوعدِ يَحفِزُني                        
أمٌّ أنا، بوركت،الحدب إكبار
أم الحسين أنا، و الطهر شيمتهم                         
   أبناء بيت رسول الله أبرارُ
بالعطف أحضُنهم ، بالدينِ أعصِمهم          
   همُ الفضيلة ، أشرافٌ وأخيارُ
     إنَّ الأنوثة نعمةٌ وكمالُ
........
شكرًا إلهي، فلي من  طُهرِهِن رؤىً          
   البذل في زورق يُغريه إبحار
لطفًا، صديقي، فإنّ الكون صنع يدي          
  ما شئت كان،  و ما أبغيه أقدارُ
حقي أشرِّعه، دوري أمَنِّعه أنثى                     
       خلودٍ أنا ، روحٌ و أفكارُ
الحسن تاجٌ بوشم الخُلق متشحٌ        
  أرضاه شمسًا، إذا ما حُقَّ إقرار
      إنّ الأنوثة رفعةٌ و جلالُ .


















[1] حسّان ابن الشاعرة ولد 22/12/1986 وارتحل 10/11/1998



الفعل الثقافيّ التربويّ
                                         و
فاعلية الثبات والتحوّل

الثقافة فعل خلق وحياة... وهي فضاء مفتوح على اللانهاية حيث تسّاقط الحدود والحواجز، ويتجلّى الكلّ الجوهريّ المنتصرُ على التموضع والتمذهب والإتنية والإقليميّة، الكلّ النابض بإنسانيّة، هدفها الأساس كرامة الإنسان.
 الثقافة فاعلية تأسيس وتجاوز، في اللحظة عينها، كونها تمارس حركة دائمة تنطلق من مركزية أصل تتجاوزه نحو أمام أكثر اتساعًا وجمالاً وحريّة وإبداعًا، أمام يؤسس لمركزيات انطلاق قادرة على تجديد ذاتِها من ذاتها، ولذاتها، فهي، إذًا، فاعلية تحديث للنظم  والعلاقات، وطاقة حذق وفطنة وفهم، وكمون تقويم وظفر وتهذيب وتعليم، وهي، أيضًا، سبيلٌ إلى الحصول على المعرفة الحقيقيّة للعلوم والفنون والحضارات، هذه المعرفة التي يتم قدحُها وتوظيفُها في عمليات الإفصاح عن تطلعات أكثر جدة، وعن رؤى أكثر تعبيرًا عن جوهر الحياة، وطموحات إنسانها.
للفعل الثقافيّ ثوابت معرفيّة وأخلاقيّة وقيميّة قابلة للتوليد والتحديث وفق ما تفرضه حركية الحياة السائرة نحو أمام، غايته الكمال، وقوامه إنسان متسلّح بالشوق إلى إدراك الحقائق، وإلى الظفر بأسرار المجهول، وذلك ضمن معادلة أخلاقيّة، لها حدودُها وثوابتُها التربويّة القابلة للتحديث والتجديد والتطوير، بما يتوافق، أيضًا، وحتمية الصيرورة، والتي بها تحقّق التربيّةُ القيميّة فاعليتَها على مستوى التأسيس والتحديث، وعلى مستوى الأهداف الاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والتعليميّة والحضاريّة والإنسانيّة.
 إنّ العلاقة بين الثقافة والتربيّة علاقة جدليّة، فلا ثقافة من دون تربيّة، ولا تربيّة من دون ثقافة، فالثقافة تصقل أدوات العقل، وتُخرج العمليةَ التربويّة على الجاهز، وتحرّض المتعلمين على الشك والسؤال والبحث والقبول والرفض، وعلى تبنّي معايير علميّة منطقيّة ترفض المحاباة والتضليل والفساد والإفساد والاستنسابيّة والتبعيّة والاستزلام، وكذلك التربيّة السليمة  تحرّض على تنمية المدارك، وعلى تعزيز الطاقات والمهارات، وعلى التعلّم والاكتساب، والإصلاح، والتهذيب، والتقويم، والحذق، وعلى تحصين الإنسان بقيم ثقافيّة تدفع به إلى اعتناق المحبة، والإيمان، و التآخي، و المساواة، لأنّ التربية الأصيلة مؤسسة على ثقافة مرادفة للحياة ذاتها، ولها منهجية تقاس عليها العملية التعليميّة التي ترتبط أهدافها بالإنسان وبالمجتمع.
إنّ العلاقة الجدلية بين الثقافة والتربيّة لا تنحصر في المفاهيم والدلالات، لكونها علاقة جينيّة تكشف عنها بنية الكلمتين المتماثلتين في بنية صوتيّة لفظية كتابيّة تَظهر في تماثل الحروف، فالكلمتان تنتهيان بتاء مربوطة، وتبدآن بحرفين متقاربين في اللفظ قابلين للإبدال والإدغام، وربما أشار هذا التماثل إلى نوع من الإدغام في الإجراءات والأدوات، وإلى تطابق من حيث الناتج الدلاليّ، فالكلمتان تضمران معنىً دلاليًّا يتجلّى في ارتباط المفهومين بقدرة العقل على الاكتساب والتوظيف والتدريب والتقويم والتهذيب والإصلاح.
 تتأسس الثقافة على التربيّة السليمة، وتتقوّى التربيّة بالثقافة، فالمثقف الحقيقيّ تربويّ يكرّس مسيرته مثالاً أعلى لأجيال حاضرة، ولأجيال لم تولد بعد، والتربويّ الحقيقيّ مثقف يترك بصمات التقويم والتهذيب  والخلق والابتكار عنوانًا لمسيرة حياة لا تعرف النهايات، لأنّ البقاء الأكثر جمالاً هو بقاء الفعل الثقافيّ الذي يؤسّس لثوابت قيميّة وتربويّة، ثوابت قابلة للتحديث والتحويل والتوليد، بما تفرضه قيمٌ اجتماعيّة تربط سلوكَ المجموعاتِ البشريّةِ القابلةِ للحياة، بأسلوب الحياة نفسها التي تحرّض على النقاء والشفافيّة والثبات والتحوّل.
يرتبط تكريس قيم الثقافة والتربيّة بوجود أقواس أدبيّة، سهامها نتاج أقلام تخاطب المستقبل بقدر ما تعبّر عن الحاضر وترتبط بالماضي، فهي أقواس تدرك معنى الانحناءة في حضرة الإبداع، وتمارسها طاقة تواضع وخلق، وهي، في الوقت عينه، ترفض ممارسة الانحناء استزلامًا وانتهازية ونفعيّة، لأنّها تُدرك أنّ الانحناء أمام صنم المصالح الشخصيّة يجعل من ممارسيه عبيدًا عاجزين عن النظر إلى ضوء الشمس، فتبقى الجباه معفرة بذل الانبطاح والتبعيّة، مهما حاول الإعلام تلميع صورهم.
 ينتمي المثقف القيميّ إلى فضاء الثقافة الإنسانيّة الفاعلة والممهورة بأصالة المبادئ والأخلاق، ويسير، بإرادة وثقة، على درب جلجلته، محدّقًا إلى أمام لا يُرى، أمام تتأبطه مركزيةَ ولادةٍ وخلق وتجديد، لأنّ المثقف الحقيقيّ لا يُتعبه السعي إلى تجسيد حياته حضورًا مدهشًا وجميلًا، حضورًا موسومًا بالمعرفة والصدق والأمانة والتهذيب والأخلاق والتضحية، حضورًا يشعّ بنور تربيّة  تعيد نبض الضوء إلى حراك ثقافيّ فاعل يجعل من  مسيرة الحياة رحلة وفاء بين ثابت ومتحوّل، ثابت يتأصل في تراثه وبيئته وأرضه ولغته وانتمائه، ومتحوّل يتجاوز الأصل بقدر ما ينغرس فيه، متحوّل يقبض على قيمه لينتصر بها على التموضع والتمذهب والإتنية والعرقيّة، فيبقى هو هو ، ويفرض وجوده نبض فعل إبداعيّ يبقى، وحده، ضوءَ حياة للأجيال والأمم، فهل ستبقى الأقواس المبدعة عاشقة ألم نار تصهر قيم التربيّة والثقافة فتتساقط بها ومعها حواجز الطائفية والإتنية والعرقية والمذهبيّة؟ وهل سيكون غدٌ يبرعم من انحنائها أقواسًا وسهامًا لم تولد بعدُ، فتنتصرَ كرامةُ الإنسان؟

أ.د.مها خيربك ناصر

الأحد، 4 فبراير 2018

البنية الحجاجيّة المنطقية في كتاب "كليلة و دمنة"

البنية الحجاجيّة المنطقيّة والتماسك النص في كليلة ودمنة
                   "مثل الذي يضع الخير في غير موضعه"/أنموذجًا
أولاً: عتبة الدراسة
تأسّس كتاب كليلة ودمنة على مقولات جاءت جوابًا عن أسئلة نطق بها دبشليم الملك، فكشف خطاب بيدبا الفيلسوف عن وجود افتراضات مُسبقة، تجلّت في طرح الأسئلة وفي الإجابة عنها، لأنّ الأسئلة يُدرك جوهرها السائل، ويجيد تفسيرها خطيب استعان بأدوات التحليل وبآليات السرد والإخبار التي تعين على إقناع المتلقي.
نظّم بيدبا أفكاره في بنيات لغويّة غير عربيّة ، ثمّ أعاد ابن المقفع تنظيمها في بنيات لغويّة عربيّة تمايزت بالوحدة الكليّة وبالوضوح والتماسك وقوة السبك والربط والتحليل والتفسير والبرهان، وبقدرات تواصليّة مرتبطة بالفعل الكلاميّ الهادف إلى التأثير والإفادة والإقناع والقبول، وذلك من خلال تعالق عناصر اللغة العربيّة وتعالقها في تراكيب تضمن سلامة البنيات وسعة مروحتها الدلاليّة، وذلك وفق ما تفرضه قوانينُ نحويّة دقيقة ساعدته على إنتاج عدد لا متناهٍ من السياقات المشحونة بالمعاني الحقيقيّة والمجازيّة، فكانت  ذات تأثير مباشر وغير  مباشر في ذهن المتلقي.
  اشتمل كتاب كليلة ودمنة على نماذج خطابيّة ، لها مقاصد وغايات سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة وقانونيّة ووطنيّة واقتصاديّة ونفسيّة وطبقيّة ووجدانيّة، وارتبط كلّ خطاب بالبرهان والحجة والدليل، لذلك تمايزت النصوص الخطابيّة بنظام لغويّ متماسك، يوحي ظاهرُ بنياتها بالإخبار والسرد، وتحجب تراكيبها مقاصد وغايات وأهدافًا ورسائل تعليميّة تحثّ المتلقي على التفكّر والنظر في المعاني الظاهرة والمستبطنة، وعلى تحليل كلّ مثال أورده بيدبا ليكون الدليل والبرهان على ما ذهب إليه.
أسّس بيدبا كلّ خطاب ورد في كتاب كليلة ودمنة على مقدّمة وسرد ونتيجة، ثمّ برهن على صحة مقولاته بمثال مُسند إلى حيوانات تقول حياة الإنسان ومشاعره وأحلامه وصراعاته من خلال حراك هذه الحيوانات وحواراتها ومواقفها التي تفسّر فكرة الخطاب الأساس، فكان المثال دليلا ملموسًا يؤكّد صحة النتائج التي جاءت جوابًا عن سؤال الملك، وهذه النتائج  كانت اختزالاً للمعطيات المتتابعة والمرتبة بربط منطقيّ ساعد في  الوصول إلى نتائج لا تتناقض وجوهر القضية/ المسألة التي يريد بيدبا تفسيرها وتقديم جواب مقنع ومؤثر في الملك أولاً، وفي كلّ متلقٍ يصل إليه خطابه، لأنّه كان يدرك أهميّة كتاب يخاطب مضمونه العامة والخاصة من الناس.
بدأ بيدبا خطاباته  بطرح إشكاليات قرأها الملك في مظاهر الحياة والكون، فاستنبط منها فرضيات تحتاج إلى الإثبات أو النقض، والجواب، بالنسبة إلى بيدبا، لا يكون مباشرًا، لأنّ الجواب المباشر ربّما كان من نتائجه عدم رضى صاحب السلطان، لذلك جعل من كلّ إشكاليّة مسألة يحتاج  حلها إلى قراءة المعطيات وتفسيرها وربطها ومن ثم يكون الوصول إلى الحل المطلوب والصحيح الذي يرضي الملك؛ ومن هذه الإشكاليات التي أراد دبشليم جوابًا عنها ما رآه في الحياة من إنكار الجميل، فطلب من بيدبا أن يخبره: " عن الملك إلى من ينبغي له أن يصنع المعروف ومن يحقّ له أن يثق به ويرجو عونه"[1]، فجاء الجواب خطابًا مؤسّسًا على مقدّمة ومعطيات  ونتيجة مدعّمة بمثال جاء تحت عنوان" السائح والصائغ والببر والحيّة".

ثانيًا: تجليّات البنية الحجاجيّة المنطقيّة في  مثل الذي يضع الخير في غير موضعه
انبنى الخطاب على فرضية أساس، قوامها " ضرورة صنع الخير" فبدأ بيدبا خطابه بمقدمة أضمرت جوابًا أوليًّا عن الإشكاليّة التي طرحها دبشليم، فقال:" إنّ الملك وغيره جدُر أن يؤدوا الخير إلى أهله" ، ثمّ انتقل من المقدمة غير المستقلة عن البنية السرديّة الإخباريّة إلى تحديد معطيات أساس تُستنبط منها النتيجة.
يتضمّن هذا الخطاب معطيات تتسم بالمنطق والموضوعيّة والدقّة وبحسن الربط والسبك، فبدا النص وحدة متماسكة تصعب تجزئته، لأنّ الأفكار تعالقت في كليّة نصيّة متلاحمة، قوامها الترتيب والتنظيم والحبك الذي أنتجته أدوات الربط والوصل وغيرها من آليات الاتساق النصيّ.
تظهر قراءة معمّقة لهذا الخطاب أنّ المعطيات لا يمكن فصلها عن المقدّمة، لأنّ بيدبا ربط المقدمات بالمعطيات والنتيجة، فالمقدمة التي شكّلت جوابًا أوليًّا للإشكاليّة مرتبطة بالمعطى الأوّل، والمعطى الثاني مرتبط بالأوّل، والمعطى الثالث مرتبط بالثاني، والمعطى الرابع مرتبط بالمعطى الثالث، وجاءت النتيجة إجابة مستنبطة من المعطيات التي ساعد على التفسير والتحليل، ولذلك يمكن القول إنّ الخطاب ذو بنية حجاجيّة منطقيّة، تجلّى الحجاج المنطقيّ فيها في كلّ جزء من أجزاء الخطاب، وفي الجسد النصيّ الكليّ المتلاحم.

1-المقدّمة€ إنّ الملك وغيره جدر     أن يؤدوا الخير إلى أهله،
                                أن يؤملوا من كان عنده شكر وحمد+
                                ولا "أن"ينظروا قرابتهم وأهل خاصتهم+ ولا إلى أشراف  
                                      الناس وأغنيائهم وذوي القوة منهم
                                  ولا"أن" يمتنعوا عن أن يصطنعوا إلى أهل الضعف
                                      والجهد والضعة
2- المعطيات:

المعطى الأوّل:
                      إنّ الرأي في ذلك      أن يجربوا
                                                   أصاغر الناس وعظماءهم        
                                         في( شكرهم+ قلة شكرهم+ حفظهم الود+
                                            غدرهم)
                                         و" أن" يختبروا
المعطى الأوّل تجريب+ اختبار
المطلوب= أن يكون عملهم في ذلك على قدر الذي يرون أو يبدو لهم
بالتجربة والاختبار تكون رؤية حقيقة العمل وصحة نتائجه
المعطى الثاني:
                إنّ الطبيب الرفيق      لا يداوي المرضى بالمعاينة
                                             لكنّه
                            ينظر إلى فضول البدن
                              يجس العرق
المعطى الثاني← مداواة نتائج الطلب الأوّل وذلك بـ" المعاينة+ النظر+ الجسّ"
أيّ إعمال الحواسّ بالنظر واللمس
المطلوب= أن يكون العلاج على نحو المعرفة وقدرها
إذًا، لا علاج من دون معرفة، وعلى الملك أن يكون عارفًا أحوال رعيته
المعطى الثالث
           إنّ المرء اللبيبإن وجد قومًا ذوي مهابة←أن يجسن بينه وبينهم
السبب= احتمال الحاجة إليهم
المطلوب=  لا يوجد
المعطى الرابع
                   إنّ العاقل ربّما     حذر الناس ولم يأمن على نفسه أحدًا
                                   أخذ ابن عرس فأدخله كنه والطير فوضعه
                                           على يده
المطلوب= لا يوجد طلب
السبب= احتمال حاجته إليهم يمًا من الدهر فيكافئوه
يمكن تأويل غياب المطلوب في المعطى الثالث والرابع، برغبة بيدبا في الاختصار والاختزال، وربّما استعان بمفاهيم جبريّة فقدّم وأخّر وفق الترتيب المنطقيّ لأفكاره، ولذلك يجوز القول إن الاستدلال يقود إلى أن مطلب المعطى الرابع مُتضمّن في المعطى الثالث أي في قوله:" على المرء اللبيب إن وجد قومًا ذوي مهابة، لهم وفاء وشكر من البهائم ما كان ألوفًا أنيسًا أن يحسن فيما بينه وبينهم "، هو المطلوب من صاحب العقل اللبيب.
3-النتيجة
 حكمة مسندة إلى مجهول= لا ينبغي لذي العقل أن يحتقر كبيرًا ولا صغيرًا من الناس ولا من البهائم ولكنّه جدير بأن يتولاّهم ويكون ما يصنع لهم على قدر الذي يرى منهم.
تتضمّن هذه النتيجة نصيحة غير مصرّح بها، وإنّما يمكن استنباطها، لأنّها نصيحة موجهّة في أصل الوضع إلى ملك ظلم وبغى وعتى وتجبّر، ثمّ رغب في أن يكون عادلاً، وعدله ، وفق رأي بيدبا، مشروط بإعمال العقل، فلا يميز بين أبناء رعيته، فيكون  صنعه الخير لهم مقرونًا برؤية موضوعيّة تعينه على تقدير المكان الذي  يُصنع فيه الخير.  
أظهرت بنية الخطاب الترتيب المنطقيّ أنّ بيدبا وظّف في خطابه آليات  المنطق العقليّ، ليكون جوابه عن الإشكالية التي طرحها الملك مؤثرًا ومقنعًا، فجاء ترتيب الفقرات ليربط مصطلح الملك بألفاظ تمنح صاحب الشأن الرضى والطمأنينة:
الملك    ذو رأي     طبيب رفيق      لبيب      عاقل
 يشير هذا الترتيب إلى أنّ بيدبا يسوق نصائحه  بأفعال كلاميّة تضمر معاني صريحة تدلّ عليها الجمل المكتوبة، ومعاني ضمنيّة يستدلّ عليها من فاعليّة السياق، فأغنى خطابه بدلالات وإشارات يمكن الاستدلال عليها من خلال الربط والمقارنة والموازنة والتأويل، لذلك كان على الملك أن:
 -  يتفكّر ويجرّب ويختبر قبل إصدار الحكم//ذو رأي
- يتفحّص ما يبدو له من علل وأمراض// طبيب
- يحسن معاملة الكائنات الحيّة // لبيب
-ألاّ يحتقر كبيرًا ولا صغيرًا من الناس//عاقل
يكشف ترتيب الأفعال"يتفكّر- يجرّب- يختبر-يتفحّص- يحسن-لا يحتقر" عن فكرٍ براغماتيّ، ظاهره إخبار، وباطنه نصح، غايته تثبيت قيم العدل في المملكة، لأنّ انعدام العدل كان السبب في حمل بيدبا على نصح دبشليم، ولكي يكون الملك عادلاً عليه أن يتفكّر ويجرّب ويختبر، وبعد أن تصدر نتائج التفكير والتجريب والإختبار، يجب أن يتفحّص ما أبدى له التفكير من علل وأمراض، وعندما يكتشف أسباب الأمراض والعلل تمتلئ نفسه رحمة فيحسن معاملة الكائنات الحيّة، ومن يصل إلى هذه الرتبة من الرحمة والحب والتفكير السليم يلغي من قاموس سلطته مفاهيم الاحتقار، لأنّ من يعقل ويتفكّر لا يحتقر صغيرًا أو كبيرًا.
يحدّد بيدبا من خلال ظاهر خطابه صفات الملك العادل، فالملك العادل يجب أن يكون ذا رأي، وطبيبًا حكيمًا ولبيبًا عاقلاً، فيوظّف قدراته الفكريّة في النظر بعين الحكمة إلى رعيته ويتقرّب منهم ويتعرّف إلى مشاكلهم وهمومهم، ويحسن معاملتهم، ويحترمهم، غير أنّ متضمنات القول توحي بأنّ بيدبا أراد اسداء نصيحة غير مُصرّح بها، وهي أن يكون صنع الملك المعروف على قدر ما يرى من من الناس والبهائم، وذلك بعد رؤية عميقة وصحيحة تساعد على الاختبار والتجريب، فيقرن عمله بحسن المعاملة والاحترام، ومعرفة العمل الصالح بعين العقل والمنطق والحكمة، وهذه النصيحة  يمكن استنباطها من خلال حسن الختام الذي مهّد لمثل يوضّح ويفسّر ويبرهن على أهمية نصيحة بيدبا.
 لقد مهّد بيدبا للنتيجة بكلام ترك أثره في فكر المتلقي، فمنح مصطلح الملك اللغويّ مرادفات دلاليّة، فالملك هو صاحب الرأي الذي ينصح ولا يُنصح، وهو الحكيم الذي لا يشغله ما يظهر ويتبدّى بل ينشعل بما استتر و أُضمر، وهو الذكيّ الذي يتقن التعامل مع رعيته، وهو العاقل الحليم العارف، وهذه الخلال كلّها تؤكّد قدرة الملك على معرفة المكان الذي يجب أن يوضع فيه المعروف، فيقرن أساليب معاملته رعاياه بمقدار ما يرى من وفائهم وإخلاصهم وحبّهم، إذًا، فهو لا يحتاج إلى نصيحة بيدبا، ولذلك سيكون رأيه مستمدًا مما يتمايز به الملك من خصال وصفات تؤكّد حقّه في تولي السلطة .
يضمر هذا الترتيب والتسيق والتنظيم اللغويّ/ السياقيّ دلالات لا حصر لها، منها أنّ بيدبا يحترم موقع صاحب السلطة، ويخشاه، فلم تأت النصيحة مباشرة، بل مهّد لها بعبارات، ظاهرها السرد والإخبار، وحقيقتها التأثير في الملك وإقناعه في ما ذهب إليه من رأي، فجاء السرد  مركّزًا واضحًا ومقبولاً ومقنعًا، وممهدًا لقبول الجواب .
استنادًا إلى ما سبق يجوز القول إنّ هذا الخطاب حقّق مقوّمات النصّ الحجاجيّ المنطقيّ، وذلك من خلال ترتيب الأفكار وترابطها وتنظيمها في بنيات لغويّة متماسكة بأدوات الاتساق النصيّة التي يمكن الاستدلال عليها من خلال تفكيك البنيات وقراءة دور العناصر في تمتين البنية الكليّة وتدعيم وحداتها وتكثيف دلالاتها.

ثالثًا: حضور آليات الاتساق النصيّ في الخطاب وقيمها الدلاليّة
يفيد مصطلح الاتساق الضم والجمع والانتظام والتماسك بين عناصر اللغة التي تشكّل جسد الخطاب ذا البنيّة الوظيفيّة المنسجمة والمترابطة الأجزاء في وحدة عضويّة، قوامها الانسجام والترتيب والتتابع المنطقيّ، ما يجعل جمل النصّ الخطابيّ متلاحقة مترابطة متماسكة متمايزة باتساق تركيبيّ ودلاليّ خاضع لقوانين لغويّة ونحويّة.
اتسقت مقدمة خطاب "مثل الذي يضع الخير في غير موضعه" ومعطياته ونتيجته في نظام لغويّ متين ومحبوك ومتماسك، بوصفه خطابًا قائمًا على نظام لغويّ مضبوط بقوانين نحويّة ضمنت سلامة البنيات النصيّة، ومنحتها دقة السبك المشحون بفيض من الدلالات والأهداف والغايات والمقاصد التي تمّ الاستدلال إلى بعضها من خلال دراسة البنية الحجاجيّة المنطقيّة.
 تجلّت البنيّة الحجاجيّة المنطقيّة من خلال الترابط المنطقيّ بين عناصر اللغة التي انتج تعالقها بنيات متماسكة ترشح بالمعاني والدلالات والمقاصد والغايات، وهذا التماسك اللغويّ في الخطاب حقّقته إحالات مقاميّة ونصيّة، وأدوات الاتساق المعجميّ والوصل، وقوانين الاستبدال والحذف التي منحت النصّ كليته المتماسكة المشحونة بالمعاني والدلالات.
1-تمظهرات الإحالات وقيمها الدلاليّة
  الإحالة ركن رئيس من أركان الاتساق النصيّ، وتتجلّى في علاقات تربط عناصر الخطاب بعضها ببعض، أو بما خارج النص،  فهي نوعان؛ إحالة نصيّة/ داخليّة، وظيفتها ربط اجزاء النصّ وإحالة، مقاميّة / خارجيّة، وظيفتها ربط المعاني بالفضاء الخارجيّ للخطاب، فيتمّ تحديد مناسبة الخطاب والظروف التي أنتجته.
  تقوم الإحالة النصيّة على وجود علاقة دلاليّة بين عنصر محيل وعنصر محال عليه، لأنّ بعض عناصر اللغة ليس لها دلالة مستقلة، فتكون دلالتها مرتبطة بعناصر سياقيّة؛ لذلك سميّت بالعناصر المحيلة، ومنها الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، وهذه العناصر يمكن أن ترتبط إحالتها بما قبلها أو بما بعدها لذلك قيل للإحالة النصيّة حضوران، إحالة قبليّة، وإحالة بعديّة.
انبنى خطاب بيدبا على عناصر لغويّة تعالقت وفق قوانين نحويّة منطقيّة، قوامها النواة الإسناديّة وما ينجذب إليها من عناصر لغويّة وظيفتها مروحة الدلالة، وهذه العناصر اكتسب سمة الاتحاد والتماسك والتلاحم من خلال مواقعها السياقيّة، أولاً، ومن خلال طبيعة ارتباطها بغيرها من العناصر، ومن آليات هذا الاتحاد والاتساع الدلاليّ الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة التي اختارها مترجم الكتاب بدقة لتعكس فكر واضع الخطاب ومغزى الرسائل التي سترها ظاهر النصّ.
 يرتبط الخطاب بالظروف التي شجعّت على إنتاج كتاب " كليلة ودمنة" فهو كتاب موجّه في ظاهر الوضع إلى الملك دبشليم الذي طلب من بيدبا أن يضع له كتابًا يبقي ذكرَه، وفي حقيقته، هو كتاب موجّه إلى أبناء الإنسان في كلّ زمان ومكان، لذلك تضمّن إحالات مقاميّة تحيل على مناسبة الخطاب، ومنها ، على سبيل المثال لا الحصر قوله:" قال الفيلسوف..." الذي يحيل القارئ على معرفة الظروف والأسباب التي حملت الفيلسوف على إنشاء خطابه، وكذلك قوله:" إنّ الملك وغيره جدر..." فحرف التوكيد يحيل على سؤال إنكاريّ تأكّد الجواب عنه بأنّ، وهذ السؤال ليس بمستقل عن الظروف التي حملت السائل على طرحه.
تكشف قراءة هذا الخطاب عن عدد من الإحالات النصيّة التي فرض حضورها استخدام الضمائر والأسماء الموصولة وأسماء الإشارة، لأنّ هذه الكلمات لا قيمة نحويّة أو دلاليّة لها من دون ورودها في سياق يمنحها وظائفها، وتمنحه وحدته واتساقه، فجاءت علاقة عناصر الإحالة بالسياق علاقة نحويّة ودلاليّة، ولذلك ارتبط ورودها بالأبعاد الدلاليّة لمتضمنات القول في  سياقات هذه الخطاب، فأفادت الضمائر إحالات نصيّة قبليّة ربطت بين ما بعدها وما قبلها، نحو:"إنّ الملك وغيره جدر أن يؤدوا الخير إلى أهله"، وأفادت الأسماء الموصولة إحالات بعديّة؛ نحو:" ثمّ يكون عملهم في ذلك على قدر الذي يرون أو يبدو لهم".
ارتبطت عناصر الإحالة في هذا السياق بالأبعاد الدلاليّة والقصديّة التي أرادها بيدبا الفيلسوف ونقلها بأمانة وذكاء ابن المقفع الذي أظهر قدرته اللغويّة الإبداعيّة في نقل الكتاب وترجمته، فجاء توظيفه عناصر الإحالة مرتبطًا بالعمق الدلاليّ، فاكتفى باستخدام ضميرين بارزين هما" الهاء" والواو" وباسم إشارة واحد" ذلك" وبثلاثة أسماء موصولة " من-ما الذي"، وأفادت هذه العناصر في إحالاتها قبليّة والبعديّة أبعادًا دلاليّة متضمنة في الأفعال الكلاميّة ، ويمكن تحديد بعض الدلالات بعد معرفة العناصر المحيلة في كلّ معطى:
أ-العناصر المحيلة الواردة في المقدّمة
-الضمائر
وظّف ابن المقفع ضميرين متصلين، أولهما يدلّ على الغائب المذكر من حيث الوضع ، وعلى الجمع من حيث الاستخدام، وهو الهاء التي وقعت في كلّ سياق وردت فيه في محل جرّ، وثانيهما يدلّ على جمع الذكور، وهو "الواو" الذي وقع في كلّ سياق في محل رفع فاعل.
-هاء الغائب الدالة على المذكر المفرد
وردت هاء الغائب الدالة على المفرد المذكر ثلاث مرات" غيره- أهله- عنده "
وردت هاء الغائب الدالة على الجمع  بعد اتصالها بالميم الدالة على جمع الذكور العقلاء أربع مرات" قرابتهم- خاصتهم- أغنيائهم-منهم"
-واو الجماعة
وردت في سياق المقدمة خمس مرّات أن "يؤدوا-يؤمّلوا-ينظروا-يمتنعوا-يصطنعوا"
-الاسم الموصول
-       ورد الاسم الموصول في سياق المقدمة مرة واحد" أن يؤمّلوا من كان ..."
-غابت أسماء الإشارة عن سياق المعطى الأوّل
ب-العناصرالمحيلة الواردة في سياق المعطى الأوّل
- الضمائر
-استخدم المترجم ضمير الغائب المذكر المتصل بالميم في خلال صياغة المعطى الأوّل سبع مرّات" عظماءهم-شكرهم-شكرهم-حفظهم-غدرهم-عملهم-لهم"
-غاب ضمير الغائب الدال على المفرد المذكر
-استخدم المترجم ضمير الواو المتصل في خلال صياغة المعطى الأوّل ثلاث مرّات" أن يجرّبوا- أن يختبروا- يرون"
-الاسم الموصول
ورد الاسم الموصول مرة واحدة" الذي "
- اسم الإشارة
ورد اسم الإشارة " ذلك" مرتين" الرأي في ذلك- عملهم في ذلك"
ج-العناصر المحيلة الواردة في سياق المعطى الثاني
-الضمائر
-ورد ضمير الغائب الدال على المفرد المذكر مرة واحدة" لكنّه"
-وردت الهاء الدالة على الغائبة مرة واحده" قدرها"
غاب ضمير الرفع المتصل الدال على  جمع الذكور
2ً- الأسماء الموصولة
لا يوجد
3ً-أسماء الإشارة
لا يوجد
د-العناصر المحيلة الواردة في سياق المعطى الثالث
- الضمائر
-ورد ضمير الغائب الدال على المفرد ثلاث مرات" بينه- لعله- يكافئوه"
-ورد ضمير الغائب المتصل بالميم الدالة على الجمع مرتين" بينهم- إليهم"
-ورد ضمير الواو مرة واحدة
2ً-الأسماء الموصولة
-ورد في هذا المعطى اسمان موصولان "ما كان ألوفًا-فيما"
-اسماء إشارة
-لا يوجد
ه-العناصر المحيلة الواردة في سياق المعطى الرابع
1ً-الضمائر
-ورد ضمير الغائب الدال على المفرد خمس مرات" نفسه – أدخله- كنه- وضعه- يده"
-ورد ضمير الغائب المتصل بالميم الدالة على الجمع مرة واحدة" منهم"
-لم يرد في سياق هذا الطلب ضمير الواو المتصل الدال على الجمع
-غاب ضمير الرفع المتصل الدال على الجمع
و- العناصر المحيلة الواردة في سياق النتيجة
1ً-الضمائر
-ورد ضمير الغائب الدال على المفرد المذكر مرة واحدة" لكنّه"
- ورد ضمير الغائب المتصل بالميم الدالة على الجمع ثلاث مرّات" يتولاهم- إليهم-منهم "
-غاب ضمير الواو
- الأسماء الموصولة
-ورد في سياق النتيجة اسمان موصولان"ما- الذي"
- أسماء إشارة
لا يوجد
تظهر عملية الإحصاء أنّ ضميري "الغائب" و"واو" الجماعة كانا أكثر ورودًا من الأسماء الموصولة وأسماء الإشارة، فتكرر ورود الضمير الغائب الدال على المفرد في الخطاب كلّه ثلاث عشرة مرة ، والدال على الجمع سبع عشرة مرة، وضمير الواو تسع مرات، أمّا الأسماء الموصولة فلم يكن لها ورود إلا ست مرّات، وأسماء الإشارة انحصر ورودها في حضورين فقط، ولقد ناب عن الأسماء الموصولة حروف الوصل التي منحت التراكيب قوة وتماسكًا، أمّا أسماء الإشارة،  فلقد أفاد حضورها الخجول دلالتين؛ أولهما رفعة المقام الذي يلقي فيه بيدبا خطابه، وثانيهما امتلاء فكر بيدبا  بأفكار ناضجة وجاهزة ومعروفة ولا تحتاج إلى دلالات إشاريّة تنبّه وتوضّح، فكان اتفاق منطقيّ بين الطبيعة الحجاجيّة للبنيّة ودلالاتها.
تشير غلبة  الضمائر الدالة على الجمع إلى رفعة مقام المتلقي، ولذلك جاء توظيف أدوات الإحالة وفق الدلالات المضمرة في خطاب بيدبا، لذلك غيّب ابن المقفع ضميري المخاطب والمتكلم ليؤكّد العلاقة بين مضمون الخطاب والمقام الذي قيل فيه، فالملك أعلى درجة ومقامًا، فلا يضع بيدبا نفسه على مرتبة واحدة ع الملك، وكذلك دلّ  غياب ضميري المتكلّم على تواضع بيدبا، وعلى اقتناعه بأنّ المقام يفرض عليه تغييب أناه في حالتي الإفراد والجمع، فيكون كلامه أكثر قبولاً وإقناعًا.
ب- تمظهرات الوصل وقيمه الدلاليّة
 تتجلّى وظائف الوصل في ترابط عناصر الخطاب وتماسكها في وحدة كليّة محكمة السبك، والوحدة لا تكون من دون أدوات تجمع بين عناصر النصّ وتراكيبه الإسناديّة، وهذه الأدوات كان لها دور بارز في تمتين بنية  الخطاب، فأفادت في السياق دلالات الوصل الإضافيّ والعكسيّ والسببي والزمني، وكان لحرف الوصل" أن" مهمة الربط بين عدد من بنيات الخطاب، ووظيفة تحويل الزمن الحاضر إلى المستقب، لأنّ هذا الحرف يتمتع بدلالة زمنيّة تمنح الفعل الحاضر دلالة مستقبليّة.
1ً- تمظهرات الوصل الإضافيّ وقيمه الدلاليّة
استخدم ابن المقفع عددًا كبيرًا من أدوات الوصل التي أفادت الجمع بين عنصرين لغويين أو تركيبين إسناديين، نحو قوله: " إنّ الملك وغيره جدرُ أن...." فأكّدت الواو الجامعة إسناد الخبر إلى كلّ من" الملك وغيره"، وفي قوله:" إنّ الرأي في ذلك أن يجرّبوا ويختبروا" جمعت "الواو" العاطفة بين جملتين أسندت كلّ منهما إلى فاعلٍ واحد من حيث المعنى والدلالة، وهو الواو الدالة على الجمع.
وظّف ابن المقفع، أيضًا، أداة وصل تفيد التخيير في أصل الوضع، ولكنّها أفادت في السياق معنى الوصل الإضافيّ الدال على التوازي والمساواة، فجاءت " أو" في قوله:" ...في شكرهم أو قلة شكرهم وفي حفظهم الودّ أو غدرهم....على قدر الذي يرون أو يبدو لهم" تتضمّن معنى سواء، فالاختبار واقع على من يشكر ومن لا يشكر، وعلى من يحفظ الود أو يغدر، فأفاد الوصل في هذه الجمل تماثلا دلاليّاً حقّقه الربط بين الجمل
- تمظهرات الوصل العكسيّ وقيمه الدلاليّة
 وظّف ابن المقفع أداة الوصل" لكنّ" في موقعين، أولهما في قوله: " إنّ الطبيب لا يداوي المرضى بالمعاينة... ولكنّه ينظر إلى فضول البدن.." وثانيهما في قوله: " لا ينبغي لذي العقل أن يحتقر ..ولكنّه جديرٌ أن يتولاهم..." فحمل المتلقي على انتظار دلالات تعاكس ما سبقه من كلام، غير أنّ الألفاظ التي ساقها تحمل إشارات لا تتناقض وما قبلها، فلم تفد الخروج على ما سبق وروده، بل حملت المتلقي على النظر في أمور تنضاف إلى ما تقدّم من كلام، معناه بدء يؤسس عليه من أجل مُستدرَك لا حق.
3ً-  تمظهرات الوصل السببيّ وقيمها الدلاليّة
أظهرت القراءة أنّ هذا الخطاب ذو بنيّة حجاجيّة منطقيّة، ولذلك هو خطاب مشحون  بأدوات الوصل السببي التي تنضاف إلى أدوات تأكيد أسهمت في تمكين البنية الحجاجيّة المنطقيّة، فربط ابن المقفع بأدوات الشرط بين الفعل والجواب بعلاقة منطقيّة" يحقّ على المرء اللبيب إن وجد قومًا....أن يحسن فيما بيته وبينهم، وربط بين الأسباب وعللها بأدوات التعليل نحو" لعلّه يحتاج إليهم...فيكافئوه"، فكان للوصل السببي وظيفة اتساقيّة ساعدت على إدراك العلاقة المنطقّة بين جملتين أو أكثر.
- تمظهرات الوصل الزمنيّ وقيمها الدلاليّة
 استخدم ابن المقفع عددًا كبيرًا من الأفعال الدالة على الزمن الماضي" وجد- كان- حذر- أخذ- أدخل- وضع" وعلى الزمن الحاضر أو المستقبل وهذه الأفعال كان لها التواجد الأكثر بروزًا في الخطاب" يؤدوا- يؤملوا – ينظروا....."، وهذا دليل على أنّ بيدبا رغب في توجيه خطابه إلى أجيال حاضرة وأجيال لم تولد بعد، بوصفه خطابًا حداثويًّا صالحًا لكلّ زمان ومكان.
ج-تمظهرات الاتساق المعجميّ وقيمه الدلاليّة
تجلّى الاتساق المعجميّ في بنية الخطاب كلّها، ولقد وظّف ابن المقفع التكرار بالألفاظ وبالمعاني، فجاء التكرار تامًا من خلال تكرار اللفظ والمعنى، فكلمة " إنّ" أفادت في كلّ سياق وردت فيه دلالة التأكيد، وكذلك الحرف الناصب" أن" الذي أفاد الوصل، وكلمة شكر" لم تخرج على المعنى الوضعي، وكذلك كلمتا" جدر وجدير" فكان لورود العنصر اللغويّ في سياق الخطاب دور في ربط البنيات والمعاني والدلالات.
د- تمظهرات الاستبدال وقيمه الدلاليّة
 أثرى الاستبدال هذا الخطاب، ومنحه قوّة واتساقًا وتلاحمًا وغنىً لغويًّا وعمقًا دلاليًّا، وذلك من خلال استبدال "اللبيب بالعاقل"، و"ينظر بيرى"،  و"يجرّبوا بيختبروا"
هـ- مواقع الحذف وقيمه الدلاليّة
وظّف ابن المقفع في نظم هذا الخطاب الحذف الجائز لأغراض بلاغيّة،  فحذف المطلوب في المعطى الثالث والرابع، وهذا الحذف ساعد المتلقي على تفعيل قدراته التأويليّة، وكذلك وظّف حذف الحروف العاملة، ومنها على سبيل المثال حرف النصب" أن" في قوله: " ولا يمتنعوا.." والأصل "أن لا يمتنعوا" وكذلك حذف حرف الجرّ في قوله:" في شكرهم أو قلة شكرهم وفي حفظهم الودّ أو غدرهم" والتقدير"  وفي قلة شكرهم... وفي غدرهم" فكان للحذف دور بارز في ترابط العناصر وتمتين علاقاتها من دون تكرار قد يثقل الخطاب بالألفاظ المتمماثلة في اللفظ والوظيفة.
رابعًا: نقطة على السطر
تظهر الدراسة انّ  بنية مثل" الذي يضع الخير في غير موضعه"  بنية حجاجيّة منطقيّة، قوامها مقدمة ومعطيات ونتيجة، والمقدمة تضمّنت إشارات إلى استنباط الإشكالية وابتكار الفرضية، والمعطيات تضمّنت مقولات وقضايا ساعدت على التحليل  والربط والاستنتاج والوصول إلى نتيجة أجابت عن سؤال الملك دبشليم.
تمايزت هذه البنيّة الخطابيّة الحجاجيّة المنطقيّة بقوة الربط والسبك والححبك والتمكين والتلاحم نتيجة تعالق العناصر اللغويّة التي منحها السياق  وظائفها النحويّة والدلاليّة، ومنحت السياق طاقات تأويلية تفيض بالدلالات والمعاني والمقاصد والغايات والأهداف، فكان خطابًا فاعلاً ومؤثرًا وقابلاً للحياة في كلّ زمان ومكان.
أ.د. مها خيربك
أستاذة النحو العربيّ المنطقيّ  والأسنيّة العربيّة والنقد الأدبي الحديث



-كتاب كليلة ودمنة، دار المشرق، الطبعة الثالثة عشرة، ص235[1]