الفعل الثقافيّ التربويّ
و
فاعلية الثبات
والتحوّل
الثقافة فعل خلق وحياة... وهي فضاء مفتوح على اللانهاية
حيث تسّاقط الحدود والحواجز، ويتجلّى الكلّ الجوهريّ المنتصرُ على التموضع
والتمذهب والإتنية والإقليميّة، الكلّ النابض بإنسانيّة، هدفها الأساس كرامة الإنسان.
الثقافة فاعلية
تأسيس وتجاوز، في اللحظة عينها، كونها تمارس حركة دائمة تنطلق من مركزية أصل
تتجاوزه نحو أمام أكثر اتساعًا وجمالاً وحريّة وإبداعًا، أمام يؤسس لمركزيات
انطلاق قادرة على تجديد ذاتِها من ذاتها، ولذاتها، فهي، إذًا، فاعلية تحديث للنظم والعلاقات، وطاقة حذق وفطنة وفهم، وكمون تقويم
وظفر وتهذيب وتعليم، وهي، أيضًا، سبيلٌ إلى الحصول على المعرفة الحقيقيّة للعلوم والفنون
والحضارات، هذه المعرفة التي يتم قدحُها وتوظيفُها في عمليات الإفصاح عن تطلعات أكثر
جدة، وعن رؤى أكثر تعبيرًا عن جوهر الحياة، وطموحات إنسانها.
للفعل الثقافيّ ثوابت معرفيّة وأخلاقيّة وقيميّة قابلة
للتوليد والتحديث وفق ما تفرضه حركية الحياة السائرة نحو أمام، غايته الكمال، وقوامه
إنسان متسلّح بالشوق إلى إدراك الحقائق، وإلى الظفر بأسرار المجهول، وذلك ضمن
معادلة أخلاقيّة، لها حدودُها وثوابتُها التربويّة القابلة للتحديث والتجديد
والتطوير، بما يتوافق، أيضًا، وحتمية الصيرورة، والتي بها تحقّق التربيّةُ
القيميّة فاعليتَها على مستوى التأسيس والتحديث، وعلى مستوى الأهداف الاجتماعيّة
والسياسيّة والأخلاقيّة والتعليميّة والحضاريّة والإنسانيّة.
إنّ العلاقة بين
الثقافة والتربيّة علاقة جدليّة، فلا ثقافة من دون تربيّة، ولا تربيّة من دون
ثقافة، فالثقافة تصقل أدوات العقل، وتُخرج العمليةَ التربويّة على الجاهز، وتحرّض
المتعلمين على الشك والسؤال والبحث والقبول والرفض، وعلى تبنّي معايير علميّة
منطقيّة ترفض المحاباة والتضليل والفساد والإفساد والاستنسابيّة والتبعيّة
والاستزلام، وكذلك التربيّة السليمة تحرّض على تنمية المدارك، وعلى تعزيز الطاقات والمهارات،
وعلى التعلّم والاكتساب، والإصلاح، والتهذيب، والتقويم، والحذق، وعلى تحصين الإنسان
بقيم ثقافيّة تدفع به إلى اعتناق المحبة، والإيمان، و التآخي، و المساواة، لأنّ التربية
الأصيلة مؤسسة على ثقافة مرادفة للحياة ذاتها، ولها منهجية تقاس عليها العملية التعليميّة
التي ترتبط أهدافها بالإنسان وبالمجتمع.
إنّ العلاقة الجدلية بين الثقافة والتربيّة لا تنحصر في
المفاهيم والدلالات، لكونها علاقة جينيّة تكشف عنها بنية الكلمتين المتماثلتين في بنية
صوتيّة لفظية كتابيّة تَظهر في تماثل الحروف، فالكلمتان تنتهيان بتاء مربوطة، وتبدآن
بحرفين متقاربين في اللفظ قابلين للإبدال والإدغام، وربما أشار هذا التماثل إلى
نوع من الإدغام في الإجراءات والأدوات، وإلى تطابق من حيث الناتج الدلاليّ،
فالكلمتان تضمران معنىً دلاليًّا يتجلّى في ارتباط المفهومين بقدرة العقل على الاكتساب
والتوظيف والتدريب والتقويم والتهذيب والإصلاح.
تتأسس الثقافة
على التربيّة السليمة، وتتقوّى التربيّة بالثقافة، فالمثقف الحقيقيّ تربويّ يكرّس
مسيرته مثالاً أعلى لأجيال حاضرة، ولأجيال لم تولد بعد، والتربويّ الحقيقيّ مثقف
يترك بصمات التقويم والتهذيب والخلق والابتكار
عنوانًا لمسيرة حياة لا تعرف النهايات، لأنّ البقاء الأكثر جمالاً هو بقاء الفعل
الثقافيّ الذي يؤسّس لثوابت قيميّة وتربويّة، ثوابت قابلة للتحديث والتحويل والتوليد،
بما تفرضه قيمٌ اجتماعيّة تربط سلوكَ المجموعاتِ البشريّةِ القابلةِ للحياة،
بأسلوب الحياة نفسها التي تحرّض على النقاء والشفافيّة والثبات والتحوّل.
يرتبط تكريس قيم الثقافة والتربيّة بوجود أقواس أدبيّة،
سهامها نتاج أقلام تخاطب المستقبل بقدر ما تعبّر عن الحاضر وترتبط بالماضي، فهي
أقواس تدرك معنى الانحناءة في حضرة الإبداع، وتمارسها طاقة تواضع وخلق، وهي، في
الوقت عينه، ترفض ممارسة الانحناء استزلامًا وانتهازية ونفعيّة، لأنّها تُدرك أنّ
الانحناء أمام صنم المصالح الشخصيّة يجعل من ممارسيه عبيدًا عاجزين عن النظر إلى
ضوء الشمس، فتبقى الجباه معفرة بذل الانبطاح والتبعيّة، مهما حاول الإعلام تلميع
صورهم.
ينتمي المثقف
القيميّ إلى فضاء الثقافة الإنسانيّة الفاعلة والممهورة بأصالة المبادئ والأخلاق،
ويسير، بإرادة وثقة، على درب جلجلته، محدّقًا إلى أمام لا يُرى، أمام تتأبطه
مركزيةَ ولادةٍ وخلق وتجديد، لأنّ المثقف الحقيقيّ لا يُتعبه السعي إلى تجسيد
حياته حضورًا مدهشًا وجميلًا، حضورًا موسومًا بالمعرفة والصدق والأمانة والتهذيب
والأخلاق والتضحية، حضورًا يشعّ بنور تربيّة
تعيد نبض الضوء إلى حراك ثقافيّ فاعل يجعل من مسيرة الحياة رحلة وفاء بين ثابت ومتحوّل، ثابت
يتأصل في تراثه وبيئته وأرضه ولغته وانتمائه، ومتحوّل يتجاوز الأصل بقدر ما ينغرس
فيه، متحوّل يقبض على قيمه لينتصر بها على التموضع والتمذهب والإتنية والعرقيّة،
فيبقى هو هو ، ويفرض وجوده نبض فعل إبداعيّ يبقى، وحده، ضوءَ حياة للأجيال والأمم،
فهل ستبقى الأقواس المبدعة عاشقة ألم نار تصهر قيم التربيّة والثقافة فتتساقط بها
ومعها حواجز الطائفية والإتنية والعرقية والمذهبيّة؟ وهل سيكون غدٌ يبرعم من
انحنائها أقواسًا وسهامًا لم تولد بعدُ، فتنتصرَ كرامةُ الإنسان؟
أ.د.مها خيربك ناصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق