أولاً: فاتحة البحث
بعيدًا عن الفعل وردة الفعل، وعن المعجم والتوثيق، وعن
النقل والرواية، والأخذ وقداسة الموروث، وعن صنمية القامات وملكية الكراسيّ، يجوز
القول إنّ الكتابة، قبل كلّ شيء، هي رسالة الذات إلى ذاتها، أولاً، وإلى الآخر،
تاليًا، وهي منطوق عقلٍ يعقل ذاته، ويقيم مصالحة مع الذات
والآخر، بواسطة كلمات تختزل كوامن النفس البشريّة، وتعبّر عن موقعها، وقلقها،
وأحلامها، ورغباتها، وقنوطها، وحلمها في لحظة تتسم بالكشف والتعرّي، وتصبو، في
الوقت عينه، إلى وصال فكريّ، في فضاء معرفيّ متحررٍ من التموضع، والتمذهب،
والتسيس، والقرصنة، والتبعية الفكريّة، فتكون الكتابة، بهذه الرؤية، فعلاً
قيميًّا، هدفه الرئيس تكريس تجليات الفكر محطات ثقافيّة، تؤسس لمسارات تتمايز
مركزياتها، وتتنوّع هويّات سالكيها، وبالتنوّع والتمايز يتحقّق فعل التوليد والتجديد.
استنادًا إلى الفرضية السابق ذكرها، القابلة للقبول أو
الرفض، تفرض الكتابة نفسها فعلاً إبداعيًّا يتمايز بقوة التأسيس لواقع جديد
ومغاير، واقع، قوامه الشك، والسؤال، والبحث، والتجاوز، بوصفه واقعًا حركيًّا يضجّ
بأسرار لا تكشف عن ذاتها، ولا تتعرّى إلاّ أمام قارئ مبدعٍ، سلاحه الحريّة
الفكريّة، والشجاعة، والثقة، والإيمان بالقيم الإنسانيّة، والثوابت القيميّة،
فيرسم علاقته مع الواقع كلماتٍ مشحونة برؤى، وتطلعات، وحقائق تفصح عن ماهية الواقع
الآنيّ بقدر ما تستشرف المستقبل، وتضمر كمونًا نهضويًّا غايته تحقيق إنسانيّة
الإنسان.
ضمن هذه المعطيات،لا نهضة فكريّة/ حضاريّة من دون وجود
كاتب مبدعٍ ومثقفٍ وحرٍّ وشجاع، يسعى إلى خلق عالم إنسانيّ أكثر
حريّة، ويعمل على تحريض سكونية الكمون المجتمعيّ، فيكرّس بحضوره الثقافي ّمفهوم
النهضة معجميًّا ودلاليًّا وتداوليًّا، فتتجلّى النهضة في كتاباته فعل قيامة،
وطاقة خلق، وقوة علو، وفعلاً حركيًّا يتمظهر في كينونة، لها منطلقاتها وأدواتها
ومساراتها وأهدافها، لأن ّللكتابة الملتزمة قضايا الإنسان والحياة
فعلَ خلق وولادة، وبها تتمظهر حقيقة التجليات الوجوديّة،
وروحية المفاهيم الحياتيّة التي يجيد قراءتها كاتبٌ قادرٌ على رصد فاعلية السكون،
وتحويله إلى كمون حركيّ يتجاوز به الراهن والآنيّ والسكونيّ، بوصفه كاتبًا
حداثويًّا رائيًا، يرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع، و لكونه، أيضًا، إنسانًا
حرًا يتعالى على النفعيّة والانتهازيّة، وصادقًا كريم النفس، يزهد بلمعان الفضة
والذهب والمراكز والجوائز، ويعمل على تحقيق أهداف رسالته الأساس، هذه الرسالة
المكتوبة بدم انتمائه إلى فضاء الحريّة الفكريّة، والتي تجعل من أفكاره وآرائه
النسق الأكثر تعبيرًا عن قيامة الفكر الناهض بالإنسان وبالمجتمع.
تفرض البدهيات السابق ذكرها وجود علاقة جدلية بين الكاتب
والنهضة، فلا نهضة من دون كاتب مبدع يفتح الأبواب المغلقة، ويعلن الجهاد ضدّ
التخلف، والقمع، والترهيب، والإغراء، والاستلاب، والنفعيّة، والاستزلام. ولا كاتب
مبدع من دون مناخات نهضويّة وفكريّة تفيض بالإغراءات، وتحرّض على الدعوة إلى الحريّة
بشجاعةٍ، وثقة، وإيمان بقدرة الإنسان على النهوض، والقيامة، والتأسيس، لأنّ النهضة
الحقيقيّة الفاعلة، هي نهضة تحضّ على التغيير والتجاوز، وتؤسّس، في الوقت عينه،
لحركات نهضويّة لا تنتهي.
إذا كانت مركزية الفعل النهضوي للكاتب العربيّ
مشروطة بخاصيتي التغيير والتأسيس، فهل
استطاع الكاتب العربيّ، عبر حضوره الإجتماعيّ، أن يضع مشروعًا نهضويًا حقيقيًّا؟
وما هي سمات الحركات النهضويّة العربيّة؟ وهل حقّقت هذه الحركات الأهداف الفعليّة
للنهضة؟ وهل يستطع الكاتب العربيّ، اليوم، أن يعلن قيامة نهضة فكريّة تؤسّس لمجتمع
عربيّ أكثر حضورًا وفاعليّة؟
إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات وعن غيرها من الأسئلة التي
يفرزها حضور الكاتب العربيّ على مستوى الحضارة الإنسانيّة المعاصرة تقتضي قراءة
سريعة لحركية الفكر العربيّ وعلاقته بالفعل النهضويّ، ومن ثمّ الكشف عن دور الكاتب
العربيّ المعاصر في تكريس فعل الكتابة حدثًا إبداعيًّا غايته التأصيل والتغيير
والتأسيس.
ثانيًا: الكاتب العربيّ
ومسارات الحراك النهضويّ
تشير عملية رصد لحركية الفكر العربيّ إلى وجود محطات
رئيسة، كان له دورٌ في خلق مسارات نهضويّة فاعلة انطلقت من واقع كمونيّ/ ساكن حرّض
على القدح، والتوليد، والتغيير، والتطوير،
فارتبطت التحوّلات بطبيعة البيئة الفكريّة التي تشي بالقبول والرفض، وتضمر، في
اللحظة عينها، كمونًا قابلاً للقدح والإضاءة،
ولذلك يمكن القول إن النهضة العربيّة لم تأتِ من فراغ، بل كان لها ظروف ساعدت على
فهم علامات النهضة، وقبول دلالاتها ونتائجها،
وتوظيفها بما يتوافق و سمات الفكر الجديد.
لم تكن نهضة القرن التاسع عشر العربية وليدة اللاشيء، بل
جاءت الحركات الفكرية الناهضة بالمجتمعات العربية نتاج ظروف وأحداث ومقومات هيّأت للحدث،
وشحنت النفوس برغبة تحرّض على تخطي الواقع
وتجاوزه، ولكنّها لم تهمّش القواعد السليمة لبنية المجتمعات، بل حافظت عليها
خميرةَ تخصيبٍ تحفظ الأصل وتولّد الجديد، فتمايزت الحركة النهضوية بفعل حركيّ يهدف
إلى حماية الجوهر، بقدر ما يسعى إلى تحطيم الأنساق غير القابلة الاستمرار.
أفادت الحركة النهضويّة في القرن التاسع عشر من النهضة
الإسلاميّة التي تأسّست على التغيير من دون أن تلغي الرسالة الإسلامية جوهر تعاليم
اليهودية والمسيحية، فلم تُهمّش العادات والتقاليد غير المناقضة لمبادئ الدعوة، ولم
تنقض القوانين اللغويّة القادرة على حماية التراث الأدبيّ، وتحفيز دور المختبر اللغويّ،
وضمان سلامة المنتج المعرفيّ، بل حرّضت الفكر على تثمير أدواته اللغويّة والمعرفيّة والثقافيّة وفرضها فعلاً حضاريًّا
كونيًّا. فأسّس كتّاب المراحل المضيئة من تاريخ هذه الأمة لقيامة فكريّة تركت
أثرها في الثقافة العالميّة والإنسانيّة، وبقيت أفكار ابن سينا والفارابي والغزالي
وابن رشد وابن خلدون وغيرهم من العلماء العرب منارات يسترشد بها مفكرو العالم،
ولذلك كان لهؤلاء العلماء، أولاً، فضل السبق إلى الانتساب إلى فضاء حضاريّ كونيّ
غير متلوث بالطائفية والمذهبية والعرقيّة، وثانيًا، فضل التأسيس لمركزيّات معرفيّة
أنتجت فضاءات معرفيّة جديدة، ولّدت بدورها مركزيات جديدة.
تفرض الحقائق السابق ذكرها عددًا من الأسئلة، ربما كان
من أهمها ما يرتبط بنتاج النهضة العربيّة، فما الذي قدّمه كُتّاب النهضة الأولى
والثانيّة على مستوى التأسيس؟ هل ابتكروا مركزيات
قادرة على التوليد، ليكون الانطلاق منها نحو مستقبل عربيّ يسعى إلى التطوير
والتحديث بقدر ما يتمسك بالأصل ...؟
إذا كانت النهضة تعقب القعود والسكون وتتمظهر بدعوات إلى
التغيير والتطوير والتحديث، فلقد حقّق الأفغانيّ والكواكبيّ والطهطاويّ وعبده ويكن والبستاني ... وغيرهم حضورًا
نهضويًّا فاعلاً، غير أنّهم لم يؤسسوا لمركزيات انطلاق حركات اجتماعيّة وإنسانيّة
قادرة على التحريض والدعوة إلى التغيير والتجاوز، لأنّ الأفكار والمفاهيم
والطروحات التي فرضتها ظروف، لا تعيد نفسها ولا يُقاس عليها، لم تؤدِ وظيفة خلق
مصحوبة بدعوة إلى التغيير والتطوير، بل كان
التعاطي معها على أنّها تمثّل حالة الامتلاء والاكتمال، وصارت الأنموذج
للثقافة العربيّة الجاهزة والمعلبة.
إنّ الكلام على تقصير الحركات النهضويّة لا يعني التقليل من أهمية النضال الفكريّ والسياسيّ
والاجتماعيّ والوطنيّ لأعلام النهضة الذين قرأوا الواقع العربيّ بعين ناقدة،
ورسموا أمراضه بشجاعة ودقة، ودعوا إلى التحرر من التعصب والتزمت، وإلى إعطاء
المرأة حقّها في التعليم، واختيار الشريك وتحقيق إنسانيتها، غير أنّ هذه الدعوات
ارتبطت بظروف اجتماعيّة، وسياسيّة، ووطنيّة محدّدة، وكانت متأثرة بالفكر الغربيّ،
فاقتصر التغيير على الشكل، وقلّما تناولت الدعوات النهضويّة مأساة العقل العربيّ،
أوقدّمت قراءة نقديّه موضوعيّة ناضجة، لذلك تضاعفت التراكمات السالبة التي أفقدت
العقل العربيّ القدرة على النقد والنقض، وأقصته عن دوره في حركية التطوير والبناء،
وتجلّى التراجع في ظاهرتين تمثّلان نوعي التبعية؛ التبعية لماضٍ تتكرّر أشكاله،
من دون إدراك القيمه الحضاريّة والإنسانيّة التي أسس لها ذاك الزمن وتأسّس عليها،
وتبعية لآخر خارجيّ يشعره بالنقص والضعة، فسعى إلى محاكاته، وإلى نيل الرضى
والتصفيق، من دون معرفة عميقة بقيمة التجارب التي أوصلت الآخر إلى نتائج صحيحة،
ومنطقيّة يمكن البناء عليها.
ليس من الحكمة أن ننكر اللحظات المضئية في تاريخ الفكر العربيّ،
غير أنّ هذه اللحظات، في رأيي، كانت لحظات تدشين وتأمّل ودعوة، ولم تكن لحظات تأسيس،
لأنّ من خصائص التأسيس تشكيل فاعلية بنائيّة قادرة على تدشين محطات لحركات فكرية لا
تنتهي، غير أنّ ما قدّمه مفكرون عرب لم يشكّل مشروعًا متكاملاً قادرًا على تشييد بناء
نهضويّ قابل للترميم والتجديد والتطوير، لأنّ النهضة جاءت ردة فعل، وتعبيرًا عن
هاجس التقدم ومحاكاة الآخر.
سعى النهضوين
الخارجون من ظلمات الانحطاط، وعليها، إلى التحديث، وحرصوا على صون الذات العربيّة
من المخاطر والأطماع الخارجيّة، وانغرسوا في انتمائهم إلى الأرض الممتدة من الخليج
العربيّ إلى المحيط، وآمنو بضرورة الدفاع عن الأرض، وحاولوا خلق نوع من التكامل
الثقافيّ نتيجة خوفهم من اندثار
الهويّة القوميّة، غير أنّ هذه المشاريع
اقتصرت فاعليتها على مرحلة زمنيّة معينة، لتدخل بعد ذلك متحف التغني والإعادة
والتكرار، ومن ثمّ تتصنّم في ذاكرة العربيّ الجمعيّة، وتُحفظ في الوعي
واللاوعي في مقولة "كنا
وكانوا"، من دون أن يكون سؤالٌ: "أين كنّا وأين صاروا؟".
مما لا شكّ فيه أنّ النهضة العربية الأخيرة انبثقت من بذور
معرفيّة، ومن إيمان راسخ بالانتماء إلى فضاء قوميّ، له جذوره وامتداداته الحضارية،
فخلق الوعي القومي نهضة فكريّة تجلت في معظم المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة
والوطنيّة، ولكنّ هذه النهضة ابتليت بهزيمة
الانكفاء والتراجع قبل أن تؤسس لواقع جديد، له معياريته وشروطه وقوانينه، فبقيت
جهود أدباء تلك المرحلة خميرة تجديد وتحديث وتطوير، وبخاصة الجهود الأدبيّة التي عبّرت عن الالتزام بقضايا الإنسان العربيّ
وهمومه، وكشفت عن حجم المآسي، وأضاءت على الأزمات والتحديات، غير أنّ معظم هذه
الجهود، بالرغم من أهميتها ونتائجها الإيجابيّة، لم تؤسس لمركزيات تبشّر بولادة
نهضة فاعلة.
كان جبران خليل جبران، وفق قناعتي، الظاهرة الاستثناء
على مستوى الفرادة الأدبيّة في عصر النهضة؛
لأنّ كتاباته شكّلت ظاهرة تأسيسيّة على مستوى الخطاب الأدبيّ، وكانت فتحًا
للأدباء الحداثيين، ولكنّ هذا الرأي لا يعني التقليل من أهمية الدور الذي قام به
كتّاب أبدعوا على مستوى الكتابة الفنيّة، وعلى مستوى النقل والتصوير، أمثال نعيمة،
والريحانيّ، والمنفلوطيّ وغيرهم، غير أنّهم لم يؤسسوا لحراك فكريّ يتسلل من الحروف
والكلمات والجمل والمواقف الجريئة، من دون محاباة أو خوف، أو تموضع، ولذلك كان
جبران، في رأيي، الظاهرة الأكثر حضورًا وتأثيرًا في حركية الحداثة العربيّة، وكذلك
كان فكر أنطون سعادة أكثر فاعلية على مستوى الفعل النهضويّ الاجتماعيّ والثقافيّ،
فأسس كلٌّ منهما لنهضة، لها مركزية انطلاق لفكر يجدّد ذاته من ذاته، وينبض بقضية
الإنسان والمجتمع. وهذه الفرضية تظهر جلية في عملية رصد سريعة لحركة الحداثة العربيّة التي تكشف عن
عدد من الأدباء القوميين الاجتماعيين الذين شكّلوا ظاهرة جديدة في تاريخ الأدب
العربيّ، ومنهم أدونيس، ومحمد الماغوط، وسعيد عقل، ويوسف الخال، وفؤاد رفقة
وغيرهم.
إنّ الحراك الثقافيّ العربيّ مقموع بحواجز داخليّة
وخارجيّة، أفقدته القدرة على خلق مسارات تُعرف به، ويُعرف بها، وحوّلت إنسانه إلى
رقم تابع في معادلات النظم الاستبداديّة، والتسلطيّة، والاستعماريّة، وأغرقته في
أتون ردات الفعل. والبون شاسع بين واقع إنسانه منفعل، وواقع إنسانه فاعل، فالأوّل،
إنسانه صدى لمؤثر خارجيّ يحرّكه ويستغلّه، والثاني، إنسانه فاعل ومقرّر ومشارك في
صياغة الشكل الأكثر تعبيرًا عن وجوده، وحقوقه، ودوره في صناعة المستقبل، ولذلك لم
يتمكن الكاتب العربيّ أن يكون هو نفسه، ولم يكن قادرًا على التحرّر من ّردّات
الفعل، فعجز عن المشاركة في صياغة نهضة عربيّة حديثة تخفف من سلبيات التصدعات في
البنى الثقافيّة المعاصرة، وعجز، أيضًا، عن قراءة العولمة قراءة علميّة موضوعيّة
تقلل من الأزمات والتوترات وحالات التشظيّ.
ثالثًا: البنى الثقافيّة
والتصدعات
في زمن معولم كان لا بدّ للساحات الثقافيّة العربيّة من أن
تستقبل أشكالاً، لا حصر لها من المفاهيم الثقافيّة العالميّة، التي عجز الفكر النهضوي
عن ابتكارها وإدخالها في نسيج الفكر العربيّ، فجاء التأثير أشبه برقع فضحت هشاشة الأثواب
الفكريّة السائدة، وكشفت عن بنية ثقافيّة مفكّكة غير قابلة للاكتساب والتطويع،
وبرز تراجع المعرفة العقلانيّة أمام الايديولوجيات الوافدة، وهيمنت الكتابة
الوظيفيّة على شكل الثقافة العربيّة، وتحوّلت المعايير الثقافيّة عن القيميّة إلى
الاستهلاكيّة والانبطاحيّة، ولذلك يجد الكاتب الحقيقي ّنفسه كما يقول أدونيس،
"أنّه يكتب في مجتمع يتفكّك في القاعدة. يتفكّك إلى أبعد حدود التناقض، إلى
حدّ أن ينفي بعضه بعضًا. هذا الطراز من التفكك يجعل المقاييس التي تواجه الحياة العربيّة
مقاييس امتلاك واستهلاك، وهي مقاييس تساوي بين الشيء والشخص، بين الكتابة وأيّة سلعة.
والشيء أو الشخص هنا، أولاً، مادة استهلاك، يطيب بقدر ما يفيد. وكل ّمستهلك يحوّل
الشيء أو الشخص إلى أداة أو تابع. وحين يعجز عن تحويله، لا يحاول أن يفهم أسباب
عجزه، وإنّما يسارع إلى الحكم عليه وإدانته ونفيه" [2]،
هذه هي حقيقة واقع المثقف العربيّ في عصر
العولمة والانترنيت والتكنولوجيا والمعرفة، حقيقة تؤكّد تسليع فكر المثقف العربيّ
وتشييئه، وإقصائه عن المشاركة في صنع حاضره.
إنّ الكلام على الواقع المتصدّع لا يعني إنكار وجود
الكاتب العربيّ الحرّ والشجاع والواعي قضاياه، أولاً ،بوصفه إنسانًا، وقضايا
المجتمع والوطن، ثانيًا، بوصفه مكونًا اجتماعيًّا فاعلاً في صياغة أشكال الحاضر
والمستقبل، غير أنّ معظم الكتّاب العرب يرفضون التحرّر من الدوران في فلك الآخر من
دون معرفة حقيقيّة بطبيعة نتاج الفكر الوافد، ومن دون إخضاعه للنقد، فوقع معظم
الكتّاب العرب في أزمة العقلانيّة الغربيّة التي أخضعت الذات الإنسانيّة لمنطق
النفعيّة المدمرة، وتشظّت الرؤى والتطلعات،
وابتعدت عن النظر إلى الذات من داخل، وصار الحَكم مفاهيم وشعارات ومماراسات
لا أخلاقيّة مستوردة وغريبة عن التكوين الجينيّ لمنطق الإنسان العربيّ، ولذلك كثرت
الانتكاسات على مستوى الإنسان والمجتمعات والأوطان.
يعكس الواقع العربي ّ حالة من التشظي التي يشعر معها
الكاتب العربيّ أن ّواقعه يلفظه، ولذلك يمارس حضوره الفكريّ بعيدًا عن واقعٍ يقرأه
مأزومًا ومهزومًا، فيحاول أن يصنع فضاء افتراضيًا يشعره بالامتلاء والاكتفاء، ويختزل
سعيه في تعزيز وضعه الشخصيّ، وتقوية نفوذه المادي في المؤسسات والدوائر والمحافل،
المسماة بالثقافيّة، وهو قلّما يفكر في وضع تصوّر لواقع أكثر جمالاً وحريّة،
ولحياة أكثر قيميّىة، أو يسعى إلى خلق نهضة فكريّة تشارك في إغناء تجربته، لأنّ
معظم ما يُعرض من نماذج إبداعيّة يُضمر حالة مرضية تتجلّى في رغبة المستكتبين في
البروز والإلغاء، وفي نيل رضى السلاطين والملوك وأصحاب الثروات، فمُرّغت كرامة
الكتابة على عتبات تسمع لهاث أحلام الباحثين عن دور والساعين إلى إلغاء ما
يعتقدونه متمايزًا، فاختُزلت طموحاتهم في عبارة
" أنا أو لا أحد" ، ولذلك كثر الطعن بالصديق والزميل والآخر
الأكثر احترامًا لنفسه، وتزاحم المتملقون، والنمّامون والوصوليّون والإلغائيّون
على فضلات الموائد. فكيف يقوم مشروع نهضويّ عناصر صياغته مثقفون غير مثقفين،
مثقفون انبطاحيون متحررون من القيم والمعايير الأخلاقيّة والأدبيّة ولا يعترف
بعضهم ببعض؟
إنّ المشكلة الأكثر استعصاءً على ولادة نهضة عربيّة
حقيقيّة تكمن في النزوع الفرديّ وفي الأنانيّة، عند معظم الكتّاب العرب، وفي
حالة التورم والانتفاخ التي تشوّه سلامة
الواقع الثقافيّ، وتمنع الاعتراف بالآخر، وتظهر النتيجة في أنّ كلّ كاتب عربيّ يرى
في نفسه النموذج الحقيقيّ للتمايز والتفرّد، وينصّب نفسه سلطانًا على مملكة
الكتابة، ويمارس على غيره أساليب متنوعة غايتها
التغييب والإقصاء، ومن ثمّ يسعى إلى تقديم نفسه في المحافل الفكريّة الأنموذج
الأعلى لفنٍ أدبيّ جعل منه مطية وصول
وبروز، وهذا ما تؤكّده مشاهد ، لا حصر لها، تكشف عن صغارة المتملقين، وعن خطورة
التزييف، وعن قذارة الدروب التي تُسلك من أجل الوصول إلى غايات ماديّة، لن تغطي
رائحة نتن الانبطاح والاستزلام.
إنّ الشعور بالإمتلاء، وبالتفوّق، وبنجاح الأساليب
الملتوية يجعل من كتابات المتملقين قوالب جاهزة للعرض والطلب، قوالب أبسط ما يُقال
فيها إنّها تدخل سوق المنافسة الماديّة، حيث تتناطح مصطلحات لا يفقهون منها إلا
أسماءها، ويجدلون من غبار الحروف كلمات مبهمة، لا إبداع فيها، ولا ثقافة تنبئ
بنهضة، وبخاصة ما جاء منها مموهًا بتعمية وتضليل، غايتهما إقناع المتلقي بعظمة ما
ينتجون، وبغرابته، وبفرادته، فيعلن، بجهله، عن الإعجاب بكتابة لا يفهمها، ويُسنَد
الغموض والإبهام إلى بعد فلسفيّ، بلغه هذا الكاتب الذي وظّف التعمية مطية تضليل
ووصولية، تجاوز بها حدود التواصل المباشر إلى صحراء دلاليّة يصعب بلوغ سرابها، وإدراك ماهيتها؛ لأنّ فاقد
الشيء لا يعطيه، وفاقد المعرفة لا يعلّمها، وفاقد المنطق لا يمكنه التواصل الفاعل مع
الآخرين، لذك يتخذ الانتهازيون والوصوليون من فراغهم الثقافيّ هواء يملأون به
كلامهم ليطير إلى نفوس تغريها الأشكال الموحية بالجدة من دن النظر إلى الجوهر،
فكان واقعهم أشبه بواقع مجتمع مريض تكلّم عليه جبران، هذا المجتمع الذي رفض أهلُه
استقبال سفينة يعلوها الغبار ومملوءة بالجواهر، وعندما عادت السفينة عينُها مطلية
لمّاعة من خارج، وفارغة من داخل، هللوا
لها، وأسرعوا إلى استقبالها. فهل سيبقى التضليل والإيهام وسيلة لنيل المراكز
والجوائز وتحقيق الضجيج الإعلاميّ؟ وهل سيبقى الانتهازيون متحكمين في المسارات
الفكريّة والحراك الثقافيّ؟
لقد تحوّلت
الثقافة عن مفهومها التوليدي والتأسيسيّ إلى ثقافة الوظيفة والمراكز والجوائز
والضجيج الإعلاميّ، وسيطرت ثقافة التجارة والمحسوبيّة والاستهلاكيّة على معظم
الساحات العربيّة؛ التربويّة والتعليميّة والتثقيفيّة، وانحدر مستوى الكتابة إلى حالة من النخاسة
القائمة على العرض والبيع والشراء، فلا يجيد التجارة بها إلاّ من امتهن الصغارة
والذل، وطمح إلى بلوغ نشوة إذلال المؤمنين بحرية الكتابة، والرافضين الخضوع لحالة السيولة النفطيّة القابضة على زمام
الترويج والإشهار والشهرة، فصدق في القيمين على هذه الظاهرة النفطيّة قول
نزار" اشربوا النفط حتى آخر نقطة واتركوا لنا الثقافة".
إنّ ما يُفرض
على المتلقيّ العربيّ، في هذه المرحلة من التاريخ، هشٌ ومدجنٌ ومضلِّل، ولا يمكن
أن يؤسس لنهضة حقيقيّة، لأنّ النهضة يسبقها سكون وتأمل وفرز ونقد وإعادة تشكيل،
أما المجتمعات الثقافيّة العربيّة فهي تشكو التخمة الهوائيّة، ويشعر المسيطرون
عليها بالامتلاء والتفوق، وهذا الشعور
يفرض حالة من الرضى تنفي الحاجة إلى قراءة الواقع بوعي وحكمة، ومن ثمّ نقده
ومحاولة تحسينه. فهل يستطيع الكُتّاب المعاصرون الخروج على الأسماء إلى مسمياتها؟
وهل يصير المعنى الهدف والغاية؟ وهل تكون نهضة في مستقبل قريب متحرر من سلطة الذهب
الأسود، ومن عولمة الإقصاء، ومن التبعية إلى الغرائز والشهوات ورنين الجوائز ورضى
السلطة الرابعة؟
مما لاشك فيه أنّ الكاتب العربيّ المعاصر قادرٌ على
التحرُّر من سلطة المادة، ولكنّ المعطيات
تؤكّد أنّه ليس راغبًا في صياغة مشروع نهضويّ جديد، قوامه حركات ثقافيّة وفكريّة،
وطاقات خلق، وإرادات وطنيّة، ومعايير أخلافيّة تتفاعل فيها القدرات والرغبات من
أجل تبني آليات القراءة والتفسير والنقد والخلق والتجديد والمشاركة وتبادل الخبرات
والتجارب، لأنّ معظم الكتاب العرب مستسلمون إلى أنانية تزيّن لهم صغارة النفس،
وتحرّضهم على رفض الآخر، وعلى إلغائه وتغييبه، والنيل منه، ويتمسّكون بحكم
المعايير الاستنسابيّة غير المنطقيّة والعقلانيّة، والخاضعة لاعتبارات شخصيّة
تعزّز دور أيّ انتهازيّ يقدّم نفسه امبراطورًا على مملكة الثقافة العربيّة، هذه
المملكة التي اغتالوا فضاءها، وحوّلوها إلى تراكم نفايات غير ثقافيّة، تمارس عقدها
انتقاداتٍ وترهات وسخافات تمقتها كراسي المقاهي ودخان السجائر المستوردة.
إنّ صياغة مشروع
نهضويّ عربيّ فاعل مشروط تحقّقه برغبة الكاتب العربيّ في التحرر من المغريات، وفي
السعي إلى زعزعة المعوّقات وخلخلة الموانع، وتعرية المحبطات، ومن ثم يكون العمل
على التحرر من الجهوزية السالبة، وعلى إزالة الحواجز المعنويّة التي تعيق الحركة،
وتؤخر فاعلية العقل العربيّ، هذا العقل الذي آن له أن يخرج من قمقم التبعية والتخويف
والقمع، والترهيب، والإغراء، ويحقق حضوره الفاعل الذي يبدأ بالتحرر من سلطة لمعان
الفضة والذهب، ومن السعي وراء المراكز والجوائز، ومن الاتباع، سواء أكان الاتباع
للتراث المُصنَّم والمُقدَّس أم للآخر المتفوق، ويكون الهدف الرئيس مستقبل الثقافة
العربيّة، وتطوير أدوات الفعل الناهض بالمجتمعات والأمم.
استنادًا إلى ما سبق يمكن القول إنّ التحرُّر من القيود
والإغراءات والرغبات الماديّة حاجة تفرضها حركية الحياة، شريطة أن يكون أبناؤها
راغبون في التأسيس لحركة تجدّد ذاتها من ذاتها، وبهذه الرغبة عينها يستطبع الكاتب
العربيّ أن ينتصر على حالة الانبهار
بالعقل الغربيّ، لأنّ الانتصار على حالة الانبهار تحرّره من التبعية، وتحوّل
الإعجاب السالب إلى إعجاب موجب، وتحرّض على الإعجاب الموجب، وعلى الاستفادة من
تجارب الآخر، بما يتوافق وطبيعة الثقافة العربيّة، ويضمن خفض نسبة التعثّر،
وارتفاع نسبة القدرة على التحرّر من القيود الذاتيّة التي تساعد الكاتب العربيّ
المعاصر على التمرد، وعلى السعي إلى إصلاح الذات والواقع، لأنّ الحكمة تقول"
أصلح نفسك يصطلح العالم". فهل من قيامة تنبئ بالاصلاح والتمرد والانتصار على
سكونية القبول وعلى قيود وافدة وموروثة؟
رابعًا: الكاتب العربيّ
المعاصر وتعثر النهضة
يقول أدونيس:" لا قيامة لمن لا يموت". فإذا كنّا حقيقة نؤمن بضرورة
القيامة والنهوض فعلينا أنّ نقرّ بموت التجربة الإبداعية المعاصرة، فربما يلي
الاعتراف بالموت قيامة حقيقيّة، تبشّر بولادة جديدة، لأنّ التجربة الإبداعيّة، في
هذه الحقبة من التاريخ، وفق المعطيات السابق ذكرها، لم تقدّم مشروعًا نهضويًّا
فاعلاً، أو قادرًا على التخفيف من سلبيات العولمة، أو الحدّ من أخطار الحركات
السلفيّة التي تنمو في محاولة تهدف إلى إلغاء الآخر والسيطرة المطلقة، فتتسللت المفاهيم
المعولمة، والمعتقدات غير الأصيلة إلى تفكير الأجيال، وصارت جزءًا من نسيجه
العقليّ، من دون أن يكون للكتّاب العرب دورٌ بارزٌ في الإضاءة على المخاطر والآثار
السلبيّة المتوقعة، أو إنضاج الوعي القوميّ والانتماء إلى الوطن، فكان انقسام،
سماته التبعية إلى سلطة العولمة، أو إلى سلطة السلفية الجديدة.
إنّ عملية رصد للأهداف غير المباشرة للسلفية المعاصرة ، تشير إلى الرغبة في السيطرة
على العالم وإلغاء الآخر المختلف مع توجهاتها ومبادئها وأهدافها، غير أنّ القيمين
على هذه الدعوة لا يقدمّون مشروعًا نهضويًّا أو معرفيًّا يبشّر بتقدّم علميّ أو
تكنولوجيّ أو حضاريّ، ولا يطرحون فكرًا حداثيًا يضمن نجاح تحقيق طموحاتهم، لأنّ
الحركة السلفيّة العالميّة تختزل مشاريعها في العودة إلى سيرة السلف الصالح الذي
يجسد القدوة والمثال، وهذا صحيح، ولكنّ الطروحات والأفكار والممارسات تشي بأنّ
السلفية تطمح إلى تدمير كل ما يعيق أهدافها، وإلى قتل من لا يقتنع بطروحات الدعاة
وفتاواهم، لأنّ أيَّ مختلف، ولوكان في المجموعة نفسها، هو فاسق وكافر، وفق ما
تحمله تصريحات القيادة والجماعات والأفراد الذين يجدون في السلفية قدرًا، فيه خلاص
العالم، ووعدًا لا مفرّ منه.
تبدو العولمة، أيضًا، بالنسبة إلى المنادين بها، قدرًا،
لا يستأذن الأفراد والجماعات والأمم، فهي تتسلّل إلى التفكير والقناعات
والممارسات، من دون سابق إنذار، وصار تبني مفاهيمها مكونًا رئيسًا من مكوّنات الحرك
الثقافيّ /الحضاريّ العالميّ، ويبرّر
المعولمون مواقفهم بأنّ العولمة أحدثت
تطورًا كبيرًا على المستويات التكنولوجيّة جميعها، وبأنّها استطاعت تحقيق أهدافها
على مستوى الاقتصاد العالميّ، من دون أن يتنبّهوا إلى نتائجها السلبيّة في أكثر من
متحدٍ اقتصاديّ، وإلى عجزها عن تحقيق هدفها الرئيس الذي يختزله مصطلح " القرية الكونية"، فهل
ستعجز السلفية عن تحقيق هدفها الرئيس وهو أسلمة العالم وجعله امبراطورية واحدة؟
وإذا كانت الأهداف غير المباشرة واحدة فهل يجوز القول إنّهما وجهان لحقيقة واحدة؟
تبدو المقاربة
غريبة وغير منطقيّة، ولكنّ هذه المقاربة لا تتناول الأدوات والنتائج الحضاريّة
المباشرة التي أنتجتها العولمة، بل تنطلق من الأهداف والغايات والنتائج النهائيّة،
وبخاصة على المثقف العربيّ، فالعولمة فرضت على هذا المثقف تبعية وشعورًا بالصغر والضعة والتراجع أمام عمالقة الفكر العالميّ، فحاول
أن يتبع أثر الخطوات التي رُسّخَت علامات
مرور، غير أنّه سقط في الهوامش من دون أن يفهم، أو يقرأ الأسباب والضوابط
والمحرّضات التي أنتجت الخطوات وعلاماتها، وبقي عنصرًا تابعًا، ومستهلكًا، وخادمًا
لمخططات، من أهدافها تدمير إنسانيّته، وتحويله إلى رقم مهمل في معادلات الاقتصاد
المعولم.
تكشف قراءة
طروحات بعض السلفيين عن تقاطعها مع العولمة
في الأهداف والغايات السالبة، فالسلفية، أيضًا، تدعو إلى تكريس حالة من
التبعية لأنساق ماضٍ يرتبطون به ماديًّا،
وعاطفيًّا، ومذهبيًّا، من دون قراءة معمّقة موضوعيّة للموروث الدينيّ المشحون
بالقيم الإنسانيّة، والحضاريّة، والعلميّة، هذه القيم التي ترفض القتل والذبح
والتكفير والإلغاء، وتدعو إلى التفكير والعقلانيّة، والإيمان بمشيئة الخالق التي
يمكن أن تظهر بعض دلالاتها في قوله تعالى: "إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين"[3]
وفي قوله جلّ وعلا:" يا أيّها الناس
إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله
أتقاكم"[4].
فسقط معظم الساعين إلى تحقيق أهداف السلفية في خطأ التمييز بين الإيمان والإسلام،
وفق ما أكّدته الآية الكريمة:" قالت الآعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم"[5]،
لأنّ الإسلام الحقيقيّ قوامه إيمانٌ يساوي بين أبناء البشر ويعترف بحقهم،
وبحريتهم، وبأحقية تقرير مصيرهم. فكيف تكون حداثة ونهضة في واقع عربيّ خاضع
لتبعيتين، تبعية لماضٍ لا يُقرأ فكرُه
الحضاريّ الإبداعيّ، وتبعية لسلطة كونيّة تتحكّم بالخيارات وتمعن في تقديم
الإغراءات؟
إنّ العودة إلى سيرة السلف الصالح أمرٌ جيّد، إذا ما
اقترنت العودة بوعي دور العقل، وبقدرته على توظيف المفاهيم الأصيلة بما يؤكّد حقّ
الإنسان بحياة حرية وكريمة، حرية اختزلها الخليفة عمر بن الخطّاب" رضي الله
عنه" في قوله: "متى استعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" ، غير أنّ هذه الحريّة ملغاة من قاموس
السلفيين الذين يرفضون حرية الانتماء الديني والعقائدي، والفكريّ والثقافيّ،
ويعلنون الجهاد ضد الآخر المختلف ويفتون بقتله . وكذلك طروحات العولمة تبدو أمرًا
جيدًا، إذا ما استطاع الإنسان العربيّ أن يتحرّر من قيودها وأهدافها غير المباشرة،
ويستفيد من طروحاتها العلميّة، غير أنّ غياب الوعي وارتهانه إلى سلطة الأهداف غير
المعلنة، فرضت حالة تغييب للكاتب المبدع، ليحتلّ موقعَه آخر قادر على تأجير فكره
وضميره وقلمه، ما فرض تسلّط الأقل إبداعًا على المشهد الثقافيّ الذي يشي بالعجز عن
ولادة حركات نهضويّة جديدة وفاعلة.
استنادًا إلى ما سبق يجوز القول إنّ الواقع العربيّ يشي
بعجز الفعل الحداثي العربيّ المعاصر عن خلق مشروع عربيّ حضاريّ يضمن خلق نهضة
تبشّر بالقيامة، وهذا بيّنٌ في تراجع الفعل النهضويّ، على المستويات جميعها،
وبخاصة التربويّة والاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة، لأنّ شكل الثقافة العربيّة
المعاصرة يفتقر إلى هوية ذاتية يُعرف بها وتُعرف به، وذلك على الرغم من تعدُّد
المؤتمرات والندوات والملتقيات والدوريات والصحف والمجلات ووسائل الإعلان والإعلام
والمؤسسات التربويّة والتعليميّة الساعية إلى
تحسين المناهج التعليميّة وتطويرها، وفق ظروف خارجيّة.
تكشف علاقة بعض المثقفين، وبخاصة الأساتذة الجامعيين،
صنمية العلاقة مع الفكر الوافد، وخير عيّنة تجسّد هذه التبعية ما أظهره زميل في
أثناء وضع أسئلة الامتحانات الرسميّة لدور المعلمين والمعلمات، والذي أعلن رفضه
لسؤال كنتُ قد طرحته، وعندما لم يجد جوابًا مُقنعًا، لجأ إلى كتب باللغة
الفرنسيّة، يتأبطها في حله وترحاله، يستعين بها ، من دون أن يصل إلى نتيجة علميّة،
و من دون أن يفهم جوهر ما هو مدوّن في الكتاب، ومن دون أن يمتلك الحجة
المنطقيّة التي يبرهن بها عن جدوى ما يطرحها على المستوى العلميّ. فما قيمة
علم لا يُعلِّم؟ وما قيمة كتب لا تتشابك روحيتها وروح متعلمها؟ وما قيمة معرفة تقوم
على الانتقائية؟
يظهر هذا الموقف وأمثاله أنّ المشكلة تكمن في أدوات
المفكر العربيّ، وبخاصة أدوات القيمين على توجيه الفكر، والراغبين في السلطة
والبروز والربح، أولئك الرافضين أدوات المنطق الرياضي، ويكتفون بالسماع والنقل،
فيكون حكمهم على موضوع علميّ وفق ما وصل إليهم بالرواية والنقل من دون تمحيص أو
تدقيق، وربما كانت حالة التشظي في استخدام المصطلحات خير دليل على المعرفة
السطحية، التي يصرّ أصحابها على آرائهم، لأنهم نصّبوا أنفسهم بطاركة على الفكر
والدراسات العليا، فكيف يجيز أستاذ جامعيّ لنفسه أن يرفض المنهج الاستقرائي،
والمنهج الاستنباطيّ والمنهج الأسلوبيّ؟ وهل الحجة في أنّ أحدهم أفتى بذلك وصارت
الفتوى قضاء وقدرًا؟ لماذا لا يعود هؤلاء إلى دلالة مصطلح المنهج ، لغة وتداولاً،
فيتبيّنوا أنّ كلمة المصطلح تفيد معنى الطريق المؤدية إلى الأهداف؟ ولماذا لا
يستنطقون الكتب التي تناولت مفهوم المناهج وأدواته؟ ولماذا لا يستجدون المواقع
الإلكترونيّة التي تمدّ معظمهم بأبحاث جاهزة للإملاء على الطلاّب؟ إنّ المشكلة
الحقيقيّة تكمن في ممارسة سلطة ثقافيّة ممنوحة من سلطة سياسيّة فرضت أزلامها على
المواقع والمراكز فرسخوا أخطاءهم حقائق علميّة تخولهم تخطيء الصواب.
مما لاشك فيه
أنّ المعطيات والظواهر تؤكد حالة التشظي والعجز والتبعية والضياع التي تمنع صياغة
مشروع عربيّ، وتعيق خلق حركة نهضوية فاعلة، على الرغم من تعدد الآراء وتنوّع الأصوات الناطقة باسم العدالة
الاجتماعيّة والتنمية البشريّة، والديموقراطيّة، والمساواة، والحرية، والتعاون،
والتحديث، والحريّة الفكريّة، لأنّ هذه الأصوات ما هي إلا صدى لطروحات غربيّة وافدة،
أنتجتها صيرورة اجتماعيّة، لم تعرفها المجتمعات العربيّة، أو هي صدى لطروحات قديمة شوّه جوهرها الابتعاد عن
المنبع، فأصابها القحط الروحيّ والتلوث الدلاليّ.
تظهر المعطيات السابق ذكرها أنّ للنسسق الحضاريّ الجديد
الثقافيّ، والمهيمن على المشهد الثقافيّ، سلطةً إلغائيّة، غايتها تفريغ الكتابة من
الأعراف والعادات والتقاليد والأصالة، فتكون النتيجة اتساع الهوة بين الإنسان
العربيّ وموروثه الثقافيّ، من جهة، وبين الواقع العربيّ والهوية الحضاريّة، من جهة
ثانية، فتتداعى المفاهيم الفكريّة الموروثة، وتتشوّه الهوية الثقافيّة والحضاريّة، ويتدنى مستوى الوعي الوطنيّ والقوميّ، ويتلاشى الشعور بالانتماء إلى الموروث الحضاريّ، ليحلّ مكانه تبعية عمياء لمظاهر
داخلية/ خارجية تضمر تشويشًا فكريًّا يهدّد
بتقويض فاعلية الفكرالعربيّ، وإقصاء المبدعين عن ساحات الحراك، فيتحوّلون من فاعلين
في عملية الخلق المعرفيّ/الحضاريّ إلى مستهلكين، ومن المركزية إلى تبعية تحقّق نجاح
مخططات تضمر السيطرة اقتصاديًّا وفكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا.
لقدعرف التاريخ الحضاريّ ثورات معرفية تركت نتائج إيجابية فكريّة وحضاريّة أسهمت في تفعيل حركية التطور، ولكنّها لم تكن لتهدف إلى زعزعة البنيات الاجتماعيّة،وتركها من دون ترميم أو تعويض قيميّ، أمّا الثورة المعرفية المعاصرة، على الرغم من تفرّدها بالتقدّم التكنولوجي، فإنّ نتائجها السلبية، وبخاصة على المجتمعات العربيّة، تهدّد بانهيار اجتماعيّ، لأنّ المثقف العربيّ يشعر بالعجز والضعة والانبهار أمام أي منتج حضاريّ جديد، فيأتي التعويض عن الشعور بالعجز مبالغات في التقليد والاستهلاك، وإسرافًا في رفض الموروث، ومغالاة في تبني المفاهيم التي تسوّقها وسائل الاتصالات الحديثة، أو مبالغة في الدعوة إلى السكن في ماضٍ لا
يعترفون به إلاّ نسقًا سلطويًّا إلغائيًّا.
إن التعثر في صياغة مشروع نهضويّ عربيّ جديد، لايكمن فقط
في النظرة إلى الموروث، ولا في طبيعة العلاقة مع الآخر، بل في تدني مستوى الوعي لطبيعة
المشاكل وتفاقم الأزمات التي أدخلت الكاتب
العربيّ في حالة اغتراب عن الذات وعن الآخر، وقادته إلى تبعية فرضت عليه الاهتمام
بالأشكال، فاغترب عن قضاياه وأهمل قوانين تشكّل لغة تصوغ أفكاره وتطلعاته وأحلامه
ورؤاه. فكيف يبدع من تخلى عن أدوات إبداعه وأهمل مختبر الانتاج؟
تتمسّك شعوب دول العالم باللغة الأم، على الرغم من أنّ بعضها
خضع لتركيبة استعماريّة أو اتحادية، لأنّ اللغة أهم عامل من عوامل تأصيل كينونة الأمة،
وبها يُحفظ التراث وتُدوّن المعارف، غير أنّ اللغة العربيّة، في هذا الزمن العربيّ
الهش، تخسر دورها الحضاري والإنسانيّ لأنّ الناطقين بها فرّغوها من قيمتها العلمية،
وأرهقوها بالنقد، وتخلّى بعض المثقفين عن استخدام اللغة الفصيحة، وأدخلوا في كلامهم
مئات المفردات الأجنبيّة، نتيجة الشعور بالدونية أمام الآخر. فهل يستطيع الكاتب العربيّ أن يستعيد الثقة بلغته وقضاياه
وانتمائه ويصوغ مشروعًا نهضويًّا بلغة عربيّة؟
خامسًا: الكاتب العربيّ
وحتمية النهضة
يفصح التراث العربيّ عن موقفين متناقضين من علاقة النقل
بالعقل، فلقد دعا المعتزلة إلى تقديم فعل العقل على النقل، بقولهم:" إذا
اعترض النقل مع العقل، أوّل النقل لمصلحة العقل" أما الأشاعرة فلقد
قالوا" إذا اعترض النقل مع العقل سُخِّر العقل لمصلحة النقل"، وبين
التأويل والتسخير مقولات لغوية وفلسفية وفقهية لا حصر لها، غير أنّ الإيمان بسلطة
العقل تقود إلى الاعتراف بأنّ العقل الفاعل القادر على التفسير والتأويل يستطيع أن
يعلن تمرده على أي سلطة تتعارض ومعايير المنطق. غير أنّ الكتابة العربيّة، اليوم،
تخضع في معظمها لسلطة النقل، فإذا ما تباين رأيان كانت العودة إلى المنقول
حَكَمًا، من دون إعمال العقل وإخضاع القضية لقراءة تفكيكيّة تحليليّة ناقدة.
تتجلّى أزمة
الكتابة العربيّة في تمسّك معظم الدارسين بأساليب قديمة، أو بأدوات وافدة، وفي رفض
أيّة دراسة مغايرة يقدّمها كاتب عربيّ معاصر، وفي محاصرة الطاقات الحقيقيّة التي
تُطوَّق، ويُمارس على كتاباتها إقصاءً يفرضه رؤساء تحرير صحفٍ ودوريّات، ومحكمّون
لمجلات أدبيّة يخضع النشر فيها لعلاقات شخصية أو لمصالح متبادلة تؤكّدها أبحاث
منشورة مشحونة بالأخطاء النحويّة والمنهجيّة، فتأتي الأعمال الأدبيّة نسخًا
متماثلة في الشكل والمضمون، ومفرّغة من الإضافات العلميّة، أو الأدبيّة. فكيف
يبتكر كاتب ما زال مسجونًا في أضاليل الرواية؟ وهل يجوز أن يتسلّح مثقف بمقولات
سلفيّة من دون إخضاعها للتمحيض والنقد؟ وهل يستطيع فكر يحيا في أغلال الماضي، أو
يستعير أدوات لا يجيد استخدامها، وأن يبتكر أنساقًا جديدة تساعد على خلق نهضة
ومغايرة؟
يؤكد الحراك السياسيّ العربيّ، في هذه المرحلة الدقيقة
من التاريخ، أنّ الكاتب العربيّ منفعل وغير فاعل، وأنّ مواقفه لا تنمّ عن قراءة
موضوعيّة للأحداث، فهو يتعاطى مع الظواهر من حيث المحرضات الخارجيّة، من دون
ابتكار فروض، أو عرض معطيات قديمة وحديثة، عربيّة وغير عربيّة، سياسيّة أو
اجتماعيّة أو اقتصاديّة، بل يتموضع في شعارات صُنّعت في خارج، له مخططاته وأهدافه،
ويتبع غوغائيّة مبرمجة، يروّج لها مستفيدون يقولون بما لا يؤمنون، ويحرّضون المرء
على إلغاء وجوده الإنسانيّ، وعلى اغتيال ما تبقّى له من حريّة، لأنّهم ليسوا
بأحرار.
إنّ الفعل النهضوي يضمر كمونًا عقليًا، لا يحقق ذاته إلا
بحريّة فكريّة، غايتها الإنسان، وآفاقها المستقبل، فإذا غاب دور العقل تراجع الوعي
النهضويّ، وتشوّه الفكر العقلانيّ، واغتيل الفكر التنويريّ القادر على تفعيل الفكر
النقديّ، وعلى الشك وطرح الأسئلة، ومساءلة الحداثة العربيّة مساءلة فكريّة مقرونة بقراءة
جريئة للواقع والتراث، بغية إقامة منظومة ثقافيّة جديدة قادرة على استيعاب
المتغيرات، والقضاء على مخاطر الاستلاب الثقافيّ، واستعادة حريّة الفكر، وحمايته
من التضليل والتبعية والنفعية، وتحريضه على ابتكار آليات جديدة قادرة على تفعيل
الوعي النهضوي.
استنادًا إلى ما سبق يمكن القول إنّ حدوث نهضة عربيّة
مرهون بوعي الكاتب العربيّ لدوره الاجتماعيّ والفكريّ والوطنيّ والقوميّ
والحضاريّ، فيتحرر أولاً، من الاستلاب، وتاليًا من الآليات المكتسبة التي تعيق
التفكير، فيعمل على تعزيز دور العقل الفاعل في توجيه حركية الفعل الإنسانيّ،
ويُخضع خطابه النهضويّ لقراءة نقديّة متعالية على القمع والترهيب، قراءة ترتبط
بالأصل بقدر ما تكون قادرة على نقض ما لا يقبله الفكر الحداثي الطامح إلى غدٍ أكثر
شفافيّة وبهاءً وتعبيرًا عن قضايا الإنسان العربيّ، ولكن كيف يكون مشروع نهضويّ في
واقع عربيّ إلغائي؟
إنّ النهضة قدرٌ حتميّ لشعوب تؤمن بالقيامة ، ولا نهضة
من دون أصل يكون منطلقًا لحركات فاعلة
ومتحررة من ردة الفعل، فإذا كان قدر المجتمعات العربيّة أن تنهض من كبوتها
وتعلن تمردها على سلطات القمع والترهيب والإلغاء، الداخلية والخارجيّة، فهي تحتاج
إلى التحرّر من ردة الفعل ، وإلى أن تمارس حضورها انبثاقًا إيجابيًّا من
تراث يفتح أمام النُخب مسارات فاعلة في حاضر مؤسس على أصل قابل للمساءلة والنقد
والتحليل والتفكيك والتأسيس، فتولد كتابة جديدة ممهورة بالعمق والثراء والصدق
والكشف، كتابة قادرة على تبني مشروع نهضويّ يبشّر بالخروج على الراهن وعلى التبعية
والاستلاب.
ضمن هذا المعطى يستطيع
الكاتب العربيّ الحداثي المنذور للثورات والتغيير والتحديث أن يكتب القيم
التي توجّه سلوكه بحرية وشجاعة فيرسم عالمًا من القيم الهادفة إلى تشكيل مشروع
نهضويّ، قوامه وعي تام بالواقع العربيّ، ودعوة صريحة إلى الحريّة، وإلى تكريس
المبادئ التي تحدّد سلوك الأفراد والجماعات، فيجسّد في كتاباته إنسانيّة تؤكّد صدق
رسالة تقول الأشياء، وتقرأ العالم بأمانة، فتثري نتائجها ثقافة إنسانيّة شموليّة،
ورؤيا نهضويّة موسومة بالخلق والإبداع، فيكون الكاتب العربيّ مؤثرًا وفاعلاً في
تحديد المسارات كلّها، ويكون له حضور على مستوى السياسة الداخلية والخارجيّة من
دون تزييف، أو انبطاح، أو كذب، أو تلفيق؛ لأنّ سياسة لا يضيئها الفكر، كما قال
أدونيس:"، ليست إلاّ خبطًا وارتجالاً، وإنّ فكرًا لا يُعنى بالسياسة، أي بخلق
حياة جديدة، ليس إلاّ لعبًا وعبثًا. السياسة إذ تعزل الفكر ترتاح، تستسلم
لأهوائها، ويخمد المفكرون وراء أوراقهم، وبدل أن يكون هذا العزل دافعًا للتعمق
والنظر والبحث عن طُرق للنهوض أكثر فاعلية، يكون أنزواءٌ وعزلة. إنّ السياسة
تتحدّاه فتشله، بدلاً من أن تزيده يقظة"[6].
إنّ للكاتب العربيّ
النهضويّ دورًا رئيسًا في إصلاح المجتمعات، وفي تصويب الخلل الاجتماعي والسياسيّ،
فهو الناصح الأمين وليس المحابي المضلل، وهو الحرّ الشجاع ، وليس التابع الجبان
اللاهث وراء المراكز والجوائز والربح الماديّ، وهو الأستاذ المشارك في تشكيل الفكر
الحر، وليس الأستاذ القامع أسئلة الشك، إنّه قبل كل شيء المنارة التي يهتدي به جيل
من الشباب السائر نحو مستقبله بحماس يغتاله كُتّاب يجيدون التدريب على سرقة فتات
الموائد، سواءٌ أكان ذلك في المؤسسات التربويّة أم الثقافيّة والاجتماعيّة.
مما لاشك فيه أنّ المؤسسات الجامعية العالمية تؤدي دورًا
حضاريًّا كونيًّا بوصفها ملتقًى فكريًّا يضمن التواصل المعرفيّ بين الشعوب، وهذا الدور
الثقافي/ الحضاري تستطيع الجامعات العربيّة تكريسه فعلاً وطنيًّا وإنسانيًّا، إذا تمكّنت
القلة القابضة على جمر القيم والمعرفة من أن تشعل
شمعة على طريق النهوض بالمجتمعات العربيّة، لأنّ الجامعات، بشكل عام، هي
المختبر الأكثر قدرة على تعزيز دور الإنسان في صياغة مشروع حضاريّ نهضوي، ولكن كيف
تستطيع الجامعات العربيّة أن تؤدي دورها في ظل غياب أي خطة غايتها التحسين
والتطوير من الداخل بعيدًا عن المخططات الجاهزة والوافدة؟
أعتذر إذا كانت الحقيقة جارحة، لأنّ ما نشاهده على مستوى
الثقافة العربيّة يشي بالتشويش والتضليل،
ولكنّه ليس واقعًا ميؤسًا منه، وعلى الجامعات مسؤولية في صناعة الكاتب الحر
والشجاع، لأنّها قادرة على تعزيز دور الشباب في صناعة المستقبل، وضمان فاعلية ثقافية
عربيّة أصيلة تحرّض على تخطي الصعوبات وتجاوز الأخطار، ومناقشة القضايا القومية والإنسانية
والحضارية، والتحضيض على ترك السلبيات وما
يشوبها من تقليد وانسحاق وغياب لدور الأنا العربيّة المبدعة، وضياع القيم الثقافيّة،
فيتسلح كاتب المستقبل القريب بأدوات سليمة قادرة على صياغة مشاريع الحريّة، والعدل
الاجتماعي، والسياسة العادلة النابعة من صيرورة اجتماعيّة عربيّة، وليست اسقاطًا مشوهًا
لنظريات وافدة، أو أفكار موروثة سالبة عكس تبنيها المغلوط العجز عن الإبداع وعن النقد
البنّاء، وكشف عن ضحالة الفكر العربيّ، وعن هشاشة الهياكل الثقافيّة، وعن تصدع
بنياتها.
إنّ الدعوة إلى حركة نهضويّة لا تقلّل من شأن الباحثين
عن المراكز والسلطة، إذا استطاعوا تحويل الواقع السكوني المنذور لقبول الجاهز واحتضان
نماذجه، إلى واقع متحرك غير معزول عن الأصول التي تحفظ جوهر الهوية، لأنّ الانقطاع
عن الجذر ينذر بالضياع أو الإلغاء، لذلك بقدر ما تحفظ المجتمعات العربيّة شخصيتها الذاتية
والمعنوية تستطيع أن تستمر في الآتي وتنتصر على معوقات الحاضر، فتكون الكتابة
فعلاً إبداعيّا يتمايز بقوة التأسيس لمشروع نهضوي، يصوغه كُتّاب عرب متسلحون
بالحريّة الفكريّة وبالشجاعة وبالإيمان وبالثوابت القيميّة ومتعالون على النفعية، ومنتصرون على الاستلاب
والانهزامية والإنانيّة، فيكتبون العلاقة مع الواقع رؤى وتطلعات مفعّلة بنبض
المعرفة، وبكمون نهضويّ غايته تحقيق إنسانيّة الإنسان العربيّ، وتحريره من التخلف
والقمع والترغيب والترهيب والتبعية ، فتفرض الكتابة نفسها حدثًا إبداعيًّا
نهضويًّا، يكرّس حضوره الفاعل كاتب عربيّ مؤمن بالتغيير والتأسيس لمشروع عربيّ حضاريّ جديد.
ممّا لاشك فيه أنّ بعض الباحثين العرب يعتقدون أنّ
مسؤولية التغيير لا تقع على عاتق الكاتب، كونه عاجزًا عن تغيير سياسة السلطة،
ومغيّبًا عن مسرح القرار، ولا حول ولا قوة له، غير أنّ قراءة منطقيّة للفعل
الثقافيّ العالميّ الفاعل يؤكّد قدرة الكاتب المبدع على التغيير والتطوير، وعلى دوره
في خلق النهضة الحقيقيّة، ونشر العدل والحريّة والمساواة والأمن والسلام
والطمأنينة، شريطة أن يؤمن الكاتب بنفسه، أولاً، وبدوره الإنسانيّ القياديّ،
ثانيًا، هذا الإيمان الذي منح، منذ القدم، بيدبا الفيلسوف القوة والعزم والتصميم
والجرأة والحجة ليدخل على دبشليم الملك، غير آبه بالنتائج المباشرة، فاستطاع
بحكمته وثبات موقفه، وإيمانه برسالته أنّ يحوّل دبشليم الملك عن الغي والظلم إلى
العدل والاستقامة والنزاهة بفضل كتاب" كليلة ودمنة"، الذي كان وما يزال،
النموذج الأعلى للحكم والسياسة والتعامل الاجتماعيّ، وتوصيفًا دقيقًا للعلاقات
الإيجابيّة والسلبيّة.
كشف عصر التنوير عن دور الكاتب في تكريس النُظم الاجتماعيّة
والسياسيّة والثقافيّة والحضاريّة، فكان لأفكار جان جاك روسو، وفولتير، وديديروه،
وغيرهم نتائج عظيمة على مستوى التربيّة والعدل الاجتماعيّين، وتغيير شكل السلطات،
وهذا الدور عينه يمكن أن يقوم به كاتب عربيّ واعٍ ومثقف وحرّ ونزيه، وشفاف، و مؤمن
بنفسه، وبمجتمعه، وبوطنه، وبإنسانيته، فيعمل على تحرير فضاء الكتابة من المستزلمين
والنفعيين والإنبطاحيين، ويقول كلمته الفاعلة بجرأة وصدق وتصميم على تغيير الواقع،
ومن ثمّ يكون العمل على ابتكار منظومات ثقافيّة تحرّض على الشك والسؤال والبحث،
وعلى رفض الأنساق الجاهزة، والمفاهيم غير القابلة للتطوير، فيكون العقل هو القائد
والمرشد والهادي إلى التحرر من الجهوزية، وإلى تكريس الحقّ والخير والحريّة، وإلى
خلق واقع نهضويّ جديد، يحثّ مبدعيه على الكتابة الفاعلة، وعلى المشاركة في فعل الصيرورة
الحتميّ الناهض بالإنسان، وبالمجتمع، فهل سيخرج الكاتب العربيّ من قمقم التبعية
ويخلّص العقل من مآسيه المتوارثة والمتراكمة؟
وهل سيكون لنا نهضة حقيقيّة فاعلة؟ ربما. من يدري؟
أ.د.مها خيربك ناصر
أستاذة الدراسات العليا- المعهد العالي للدكتوراه- الجامعة
اللبنانيّة