الاثنين، 15 أغسطس 2016

النصر الآتي من أسطورة حدبهن
أولاً:فاتحة
باسم الأرض المباركة... أرض المعراج وأرض الأنبياء...
باسم الجرح الصارخ إيمانًا وانتماء...
باسم الوجع المزوبع في ضمير الأجيال...
باسم نبض الكرامة في قلوب أحرار العالم...
باسم القهر والحقّ والعدل والإنسانيّة...
تغزل المرأة الفلسطينيّة الثكل واليتم تاج وعد لا يبصره إلا المنغرسون في أصالة الانتماء الإنساني... القابضون على جمر الإيمان... الساعون إلى تحقيق عدالة إنسانيّة تضمن إعادة الحقّ إلى أصحابه....وهل من حق اكثر سطوعًا من حق الفلسطينيين بحياة حرّة كريمة على أرض اغتُصبت واغتُصب معها الأمن والأمان ...
مارست المرأة الفلسطينيّة حضورها الإنسانيّ فعلاً مقاومًا، وبدأ نضالُها الوطنيّ قبل حصول النكبة، فاحتجّت عام 1893 في العفولة على إنشاء أوّل مستوطنة يهوديّة، ثمّ أثبتت دورها الرياديّ في مؤتمر نسائي فلسطيني عُقد في مدينة القدس عام 1929 ونتج من هذا المؤتمر تأسيس اللجنة التنفيذيّة لجمعية السيدات العربيّات التي أكّدت قدرة المرأة الفلسطينيّة على المشاركة في الحراك السياسيّ/ الوطنيّ.
لم يقتصر دور المرأة الفلسطينيّة على الاحتجاج والمؤتمرات، بل أثبتت قدرتها النضاليّة من خلال مشاركتها في ثورة 1939، فكان له دورٌ فاعلٌ تجسّد في نقل السلاح والتدريب والتموين وفي الحضّ على المقاومة التي صارت قدرًا بعد النكبة، وكان تأسيس فرقة "زهراء الإقحوان"  و"جمعية التضامن النسائيّ لأعمال التمريض" ولادة حقيقيّة للفعل النسائي المقاوم الذي حاك من عاطفة الأمومة أسطورة ، كان هدفها تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.
ثانيًا: حدب الأمومة وأسطورة المقاومة
مما لاشكّ فيه أنّ الله أنعم على المرأة بعاطفة الحدب وبروح التضحية، فتقدّمت هذه العاطفة في الوجدان الإنسانيّ على أيّ عاطفة أخرى، وجسّدت تضحيتها المثال الأسمى للحبّ الصادق والتفاني زالإخلاص؛  لكنّ العاطفة الوطنيّة كانت أكثر فاعليّة  في وجدان المرأة الفلسطينيّة التي أدركت  منذ لحظات التهجير الأولى أنّ الأرض هي الكرامة والعرض، فحملت الوطن بقلبها ووجدانها، وحملت بيدها مفاتيح بيت يخبر الأجيال عن رائحة الليمون، وعن البيارات وحكايا البطولات المحفورة في الوجدان والعقل، فأحيت  بإرادتها الذاكرةَ،  وابتدعت من الحكايا،  ومن الموروث الاجتماعيّ تاريخًا شفويًّا لتحفظه الأجيال، وتتناقله بلهجة فلسطينيّة في مجتمع فلسطينيّ تحرص فيه المرأة على تكريس الأزياء الفلسطينيّة والكوفيّة أيقونةَ انتماء.
 تؤكّد حركيّة النضال الفلسطينيّ أنّ للمرأة دورًا رئيسًا في  ترسيخ الوعي النضاليّ، وفي تعزيز مفهوم المقاومة، وفي حماية الهويّة الفلسطينيّة، وهذا الدور لم ينحصر في الإخبار والنقل، بل اتسع الدور لتفرض المرأة الفلسطينيّة نفسها عنصرًا مقاومًا في ساحات الجهاد، فشاركت في المظاهرات والاعتصامات، وقامت بتوزيع المناشير والبيانات، وساعدت الفدائيين ولجان العمل المناطقية، وحمت الشباب المقاومين من اعتداءات الجنود، وعرقلت عمليات الاعتقال، فشكّل انتماؤها جمرة إيمان تبشّر بالنصر.
تطوّر العمل الجهاديّ الذي شاءته المرأة الفلسطينيّة قدرًا، وكانت عنصرًا فاعلاً في المنظمات الجهاديّة الفلسطسنيّة وقدّمت نفسها شهيدة على مذبح الكرامة الوطنيّة، فعرفت الساحات النضاليّة والثوريّة نماذج نسائيّة مارسن أفكارهنّ فعلاً نضاليًّا مقاومًا، وحفلت لوائح الشرف والنضال بأسماء سيدات فلسطينيات انخرطن في العمل الفدائيّ والاستشهاديّ.
جسّدت ليلى خالد نموذج المرأة الفلسطينيّة المناضلة، ورسمت شادية أبو غزالة ودلال المغربيّ الصورة الناطقة بالفعل الاستشهادي الهادف إلى تكريس حقّ المقاومة واستعادة الأرض، وتابعت مسيرة النضال شابات استشهاديات كان من بينهن  دارين أبو عيشة وعندليب طقاطقة وهبة ضراغمة، وهنادي جرادات  وريم الرياشيّ وغيرهن من الصبايا اللواتي آمن بضرورة الدفاع عن الأرض وبحتميّة تحرير كلّ شبر من فلسطين واستعادة الأرض المغتصبة، فقدّمن أرواحهن فداء على مذبح القضيّة الإنسانيّة العادلة.
لم يقتصر نضال المرأة الفلسطينيّة على العمليات الاستشهاديّة، فالسجون الاسرائيليّة تنطق بعظمة التضحية، من جهة، وباحتقار سياط الجلادين وفنون التعذيب والقهر والإذلال والتنكيل، من جهة ثانية، فأخبرت المعابرُ عن حجم الانتهاكات، وعن الأساليب غير الأخلاقيّة وغير الإنسانيّة التي تتعرض لها السجينات والمناضلات، فكتبت المرأة الفلسطينيّة بصمودها أسطورة التحديّ، وابتكرت بصبرها وبإيمانها مفهومًا مختلفًا للتربيّة الوطنيّة المقاومة، هذه التربيّة التي صارت رمزًا للتضحيّة والفداء والنصر، رمزًا تغزله أمهات فلسطين بوجع الثكل، وألم اليتم، وبحرقة الفقد والانتظار.
مما لاشكّ فيه أنّ العالم يقف مشدوهًا أمام ما تولّده التربيّة الوطنيّة في  نفوس تأبى الذل وتسير إلى قدرها مطمئنة وبرباطة جأش، لأنّها نفوس انعجنت بالتربيّة الاستشهادية التي جعلت من المرأة الفلسطينيّة نموذجًا فريدًا في العالم، فهي الأمّ والأخت والزوج  والأبنة  المسكونة بالعاطفة والحبّ، تحرّض على الجهاد، وهي الأنثى الراشحة بالشفافيّة  والمشاعر المرهفة تفجّر أنوثتها رفضًا يزكي روح الفداء والتضحيّة، ويرسّخ الإيمان بالقضاء والقدر، ويكرّس مشاعر الأمومة أعظم ملحمة للتضحيّة والفداء.
 اقترنت التربيّة النضاليّة الثوريّة الهادفة إلى تعزيز حبّ الشهادة  بقيم ومبادئ، غايتها حماية الأسرة من الانهيار النفسيّ والمعنويّ،  فسعت المرأة الفلسطينيّة، بالإضافة إلى التهيئّة البدنيّة والذهنيّة والنفسيّة والعقائديّة إلى إكساب الأطفال أنماطًا سلوكيّة وقيمًا إنسانيّة واجتماعيّة واقتصاديّة تساعد على مجابهة الحصار،  وعلى ابتكار خطط عمليّة   تضمن نجاح سياسة الاكتفاء الذاتي، فلجأت إلى الزراعة وإلى استخدام طرق تقليدية في حفظ  الأغذية وتخزينها .
وظّفت المرأة الفلسطينيّة علومها وعقلها وذكاءها في الإفادة من التكنولوجيا الحديثة القادرة على نشر الصورة الحقيقيّة للمآسي التي يعيشها الإنسان الفلسطينيّ، فخاطبت العالم بذكاء ومنطق عقليّ وأظهرت وحشية الاحتلال، وأشكال القمع والترهيب والقتل والإذلال، نتج منه اتساع الفضاء الإنسانيّ الداعم والمؤيّد حق الشعب الفلسطينيّ في تحرير أرضه واسترجاع حقوقه المغتصبة.
انتصرت المرأة الفلسطينيّة بإرادتها وصمودها وصبرها على القهر والتنكيل والظلم، وأذاقت العدو المغتصب كؤوس الخوف، وجرّعته الثكل واليتم الذي لم يكن غاية بقدر ما كان دفاعًا عن النفس، وهذا ما يؤكده الحديث النبويّ الشريف" العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم" لأنّ الدين الإسلامي يرفض الغدر والظلم والقتل بغير حقّ، فلم تخرج المرأة الفلسطينيّة على القيم، ولكنّها استطاعت أن تعزّز بإيمانها وبانتمائها روح التضحية والفداء في نفوس الأجيال الراغبة في حياة حرّة كريمة على صدر الوطن الأمّ، فيتحقّق التحرر، وتنتهي رحلة التشرد والتهجير والتشتت، ويعيش الجميع تحت راية فلسطين الموحّدة.
ثالثًا: نقطة على سطر
قلبت إرادة المرأة الفلسطينيّة مفهوم أسطورة الجيش الذي لايُقهر، وجعلت للأسطورة تاريخًا مثاليًّا متكلّمًا ناطقًا بالقيم وبالبطولات وبثقافة أبناء الحياة، لأنّها جسّدت بمسيرتها وبحضورها الجهاديّ والاستشهاديّ مفهومًا جديدًا للأمومة، فهي إنسان يقدّس العائلة ويحلم بالأمن وبالاستقرار وبالحياة الكريمة، وهي تؤمن، في الوقت نفسه،  بالعزة وبالكرامة، وبأنّ لا كرامة لمن خسر وطنه.
المرأة الفلسطينيّة إنسان لا يقبل حياة الذل والقهر لفلذات الأكباد، لذلك جعلت من حضورها رمزًا دفاعيًّا، فقامت بصدّ هجمات الاحتلال الإسرائيليّ، وصدّت عنجهيته، وصمدت بوجه إجرامه، فكانت مثالاً للصمود والتضحيّة والفداء، وصورة ناطقة بالوعي السياسيّ والاجتماعيّ والنضاليّ، لأنّها قرأت بفكر واعٍ محاولات السيطرة على الأرض وطرد السكان، وفهمت المشروع الصهيوني وحاربته بأظافرها ، فربت أبناءها تربيّة نضاليّة تعزّز هويّة الانتماء.
حاكت الأمّ الفلسطينيّة من عشقها لوطنها ومن إيمانها بربّها وبقضيتة شعبها، ومن حدبها الراشح عاطفة وأمومة أسطورة الشعب المقاوم الواعد بمستقبل يرفل بالكرامة الإنسانيّة ويخبر عن شعب عظيم وعن أمهات وأخوات وبنات حملن رسالة الأمومة بعين، ورسالة النضال والمقاومة بالعين الثانيّة، وسوف ينبثق من ضوئهما نصرٌ بدأت تباشير قوافله تعلن رحيل المغتصب وسلام الآمنين.
الأنثى الفلسطينة  إنسان خارق، إنّها العنصر الفاعل في المحافظة على الإرث الثقافيّ والحضاريّ لوطنها، إنّها مدرسة الإيمان والتضحيّة والفداء، إنّها صانعة الأسطورة الجهاديّة المقاومة.
 الأنثى الفلسطينيّة  هي أهداب الجرح النابض عزة وكرامة، والصارخ إيمانًا وانتماء.. فمن حدبها يزوبع الوجع  في ضمير الأجيال... ومن حضورها الإنسانيّ  تُستولد وقفات التضامن مع القضيّة العادلة. فليبارك الله نضالها ونضال الشعب الفلسطينيّ، وليبارك شرفاء العالم وأحراره الذين تبنوا القضية الفلسطينيّة وأحاطوها بالرعاية. فإلى جميع أحرار العالم ولأمهات فلسطين وشعب فلسطين تنحني الهامات إجلالاً وإكبارًا.
أ.د. مها خيربك ناصر

المعهد العالي للدكتوراه/ الجامعة اللبنانيّة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق