الدراسات
الأدبيّة المقارِنة
واقعًا
ورؤى
قراءة
في أدب جبران وبروين
أولاً: عتبة البحث
يجسّد الأدب
الإبداعيّ المظهر الأسمى لتفجُّر الدهشة الصادرة عن دأب النفس البشرية الساعية إلى
معرفة ذاتها، أولاً، وإلى تحقيق كينونتها الاجتماعيّة والإنسانيّة والحضاريّة، ثانيًا، فيكون
النصّ الإبداعيّ، بهذه الرؤيا، بوحًا صادقًامعبّرًا عن رؤية الإنسان للطبيعة
والكون والحياة وعن مشاعره وأحاسيسه وأحلامه، وعن علاقته بمحيطه وبالعالم.
يفيض البوح
الوجدانيّ على المُنتَج الإبداعيّ بحقائق وأسرار ورؤى يقبض عليها النصّ اللغويّ، ويحفظها
وراء ظلال تراكيب لا تُخترق حجبها إلاّ بأدوات اللغة عينها، لأنّ النصّوص الإبداعيّة
تنغلق على معارف وتطلعات وآلام وآمال وانتكاسات وطموحات تحوكها طاقات المبدع في صور لغويّة يجمعها الكلّ
النصيّ، فيمنحها اتحادها قوة تمنّع لا يمكن تفكيكها إلاّ بطاقات إبداعيّة ولغويّة
قادرة على خرق حجب النصّ، والخرق لا يكون
إلاّ بقراءة علميّة واعية تساعد
على التفكيك والتحليل ومن ثمّ الاستنتاج والربط.
تقود كلّ قراءة نقديّة علميّة إلى الكشف عن
حقيقة ما يضمرها النصّ الإبداعيّ، لكونه منطوقَ ذاتٍ إنسانيّةٍ لها مشاعر وأحاسيس وأحلام
وتطلعات لا تتناقض والمفهوم الإنسانيّ العام
لهذه المصطلحات؛ وهذه المركزيّة الوجدانيّة تجعل النصوص الإبداعيّة تتماثل من
حيث المقاصد والغايات والأهداف، وتتمايز من حيث أدوات التعبير اللغويّة وأنساق
تشكّل الرموز والدلالات، ومن حيث القدرة على الفعل والتأثير والاستمرار في الآتي،
ولذلك ارتبط الإبداع، على مستوى الكتابة الأدبيّة،
بخلق النموذج الأدبيّ الأكثر غرابة ومغايرة،
من حيث النسق، والأكثر إغراءً وفاعلية، من حيث الرموز والدلالات، والأكثر قدرة على
الاستمرار في المستقبل.
استنادًا إلى
ما سبق، يمكن القول، إنّ المنتج لإبداعيّ نشاط عقليّ وخيار ثقافيّ له منطلقاته ومساراته
وأهدافه وفاعليّة مشروطة بوجود الإنسان المبدع المحدِث القادر على إحداث تغيير يؤسس
لحركة فكريّة أدبيّة ترفض جهوزية النموذج، وتتبنّى الدعوة إلى خلق فني ممهور بالحداثة
المتجدّدة، من حيث الشكل، وإلى رفض النزاع والاقتتال والصراع والانقسام من حيث
الدلالات العميقة والمستترة، والتي تعكس صدق التجربة الإنسانيّة.
ارتبطت الكتابة
الإبداعيّة، إذًا، بوجود نصوص إبداعيّة
تتجاوز الأصل بقدر ما ترتبط به، وهذا التجاوز والارتباط تجليا في أعمال أدبيّة
قديمة وحديثة، عربيّة وغير عربيّة، لأنّ هذه الأعمال خاطبت النفس البشريّة الواحدة
في تطلعاتها وأحلامها وآلامها وآمالها ورؤاها المستقبليّة، ففرضت هذ الأعمال
الإبداعيّة على مستوى الكتابات الأدبيّة العالميّة والتاريخيّة، ولادة دراسات
نقديّة ترصد التماثل والتمايز بين نصوص أدبيّة تنتمي إلى فضاءات فكريّة/ ثقافيّة، لها
هويّة قوميّة مرتبطة، حكمًا، بفذوذية اللغة القوميّة، وبقدرتها على احتضان الأفكار
والتطلعات والأهداف والرؤى، ومن ثمّ بطاقات الخلق الفنيّة القادرة على رسم الرؤى
والتطلعات، والتي بها وحدها يولد النصّ المُحدَث القابل للقراءة والتفكيك والتحليل
وفق معايير تُقاس عليها أصالة التجربة الإبداعيّة، وتكشف عن الجدة والفرادة، وعن التقارب الفكريّ بين مبدعي
العالم.
سعى النقّاد مذ
كان أدب إلى وضع معايير لغويّة وفنيّة تضبط عملية النقد والتصنيف، وتكشف عن جوانب
التماثل والتمايز والفرادة، فأطلق بعضهم مصطلح السرقات الشعريّة التي
ربطها ابن رشيق بحتميّة الفعل الإبداعيّ، لأنّ الفعل الإبداعيّ، في رأيه، لا يتأسس
من فراغ ولا يخلق من عدم، لكونه فعلاً تراكميًّا، وحوارًا مستمرًا بين المبدعين،
" فالشاعر يورد لفظًا لمعنى فيفتح به لصاحبه معنى سواه، لولاه لم ينفتح"
تأسيسًا على كلام ابن رشيق يجوز القول
إنّ ظاهرة التماثل بين النصوص الإبداعيّة لا تعكس التأثر والتأثير والسرقات،
وإنّما تعكس حقيقة الفعل الإبداعيّ وتجلياته في حوارات الفكر عبر الأزمنة
والأمكنة، فربّ شاعر تأثّر بمن سبقه أو عاصره فظهر التأثر والتأثير في المنتج
الجديد أشبه برقع لا قيمة لها، وربّ تجليّات إبداعيّة متماثلة لم تخضع في أثناء
عملية الخلق لفعل التأثر والتأثير المباشر، فتبدي قراءة النصوص نوعًا من التلاقي
والتماثل في القضايا والموضوعات والأساليب من دون أن يكون الفعل المحرّض على الخلق والإبداع ناتجًا من تلاقح فكريّ مباشر بين خالقي النصوص،
وإنّما من مؤثرات متشابهة، ومنها المؤثرات السياسيّة والاجتماعيّة التي تركت
بصماتها في نتاج كلّ من الأديب اللبنانيّ/ الكونيّ جبران خليل جبران، والشاعرة
الإيرانية بروين اعتصاميّ.
إنّ محاولة قراءة نقاط التلاقي بين
بروين وجبران لا يمكن إخضاعها لسلطة ما سمّي بالأدب المقارن Comparative
Literature الذي عُرّف بأنّه علم يقوم على دراسة علاقات التأثر والتأثير والتشابه
والاختلاف بين أدبين أو أكثر ينتميان إلى قوميتين
مختلفتين ولغتين مختلفتين، لأنّ إنتاجاتهما
الأدبيّة
لا تشير إلى أي نوع من التأثّر والتأثير المباشرين، وإنّما إلى تماثل في المؤثرات
الثقافيّة والاجتماعيّة التي عاشها الأديبان في مرحلة زمنيّة تشابهت من حيث الحراك الاجتماعيّ والفكريّ،
فكان لهذا الحراك أثره في أدبهما، ولذلك ترتبط عملية الكشف عن نقاط التلاقي بينهما
بدراسة أدبيّة مقارنة تتكئ على مفهوم مصطلح الأدب المقارن الخاضع، أولاً، للسؤال
والمساءلة، وثانيًا، للقبول أو الرفض، لكونه مصطلحًا يوهم بولادة نوع جديد من الأدب،
والأدب واحد في شكليه الشعريّ والنثريّ، فهل يجوز تكريس هذا المصلح حقيقة علميّة
أم يمكن استبداله بمصطلح آخر؟
ثانيًا: مصطلح الأدب المقارن / سؤال ومساءلة
يفرض الكلام على مفهوم مصطلح الأدب
المقارن أن تكون إشارة سريعة إلى معنى الأدب، لغة واصطلاحًا، فكلمة الأدب يُعتقد
أنّها مشتقة من الأدب أي الدعوة إلى الطعام، أو الدأب أي الدعوة الذاتيّة إلى الكد والعمل، أو من حديث الرسول (ص)
" أدّبني ربي فأحسن تأديبي"، وهذه المعاني تُضمر ثلاثة ثوابت هي:
1_ طلب السعي إلى إغناء الفكر بغذاء
ثقافيّ دائم يسهم في حماية الهرم الأدبيّ من الضمور.
2- رغبة الذات المبدعة في السعي الدائم
وتحقيق التطوّر.
3- طلب السعي إلى التحلّي بالأخلاق التي تمنح أي نتاج
فكريّ قيمًا إنسانيّة لا تتخرق.
يجوز القول إنّ هذه الثوابت تختزل
المعنى الشمولي لمفهوم الأدب سواء أكان شعرًا أم نثرًا، فكلّ ما جاء نتيجة دأب أو
أدب هو أدب، والدراسات الأدبيّة النقديّة المقارنة
الإبداعيّة، وفق هذه الفرضية القابلة للقبول أو النقض، أدب ، فهل يجوز أن تستقلّ
هذه الدراسات بذاتها تحت عنوان الأدب المقارن؟
إنّ الإجابة عن السؤال، إيجابًا أو
سلبًا، تتناقض ومقوّمات البحث العلميّ، ولذلك يبقى السؤال مفتوحًا أمام الكم
الهائل من الكتب العربيّة وغير العربيّة التي جاءت تحت عنوان الأدب المقارن، وتبقى
المساءلة خيارًا ثقافيًّا أكاديميًّا حرًّا يحيل الباحث على قراءة المصادر
والمراجع التي تناولت قضية الأدب المقارن.
مما لاشكّ فيه أنّ الدراسات الأدبيّة المقارنة شغلت
حيّزا كبيرًا من فضاء الكتابة الأدبيّة / النقديّة التي أطلق عليها بعض الباحثين
مصطلح الأدب المقارن أو علم الأدب المقارن، ولأنّ هذه الدراسة لا تبحث عمن ابتكر
هذا المصطلح ، ولا ترغب في سرد أسماء نقّاد
نظّروا وحلّلوا وطبّقوا[1]،
فسوف تكتفي بالإشارة إلى الجهود الكبيرة التي بذلها الأساتذة من خلال ما قدّموه من
علوم ومعلومات قيّمة أغنت المكتبات العربيّة وغير العربيّة.
تكشف عملية استقراء
سريعة أنّ عددًا كبيرًا من كتب النقد العربيّة وظّفت مصطلح الأدب المقارن عنوانًا
رئيسًا، وربّما كان السبب ناتجًا من رغبة
الأساتذة الجامعيين في وضع كتاب مقرّر يفيد منه طلاّب الجامعات، فتجاوز عدد الكتب
التي استخدمت مصطلح الأدب المقارن عنوانًا أساسًا الثمانين كتابًا.
مما لاشكّ فيه
أنّ هذه الكتب لها قيمة علميّة وفكريّة، ولكنّ معظم ما جاء فيها يتسم بالتنظير
والتصنيف، من دون التركيز على الصلات
الإنسانيّة ومرتكزاتها النفسيّة والروحيّة والإبداعيّة، فالسرقة أو التأثّر
والتأثير لا قيمة إبداعيّة لها من دون وجود قدرات فنيّة ولغويّة تخصّب فكر الكاتب،
وتنضج تجربته الإنسانيّة. فدانتي، على
سبيل المثال، لم يكتب الكوميديا الإلهيّة لأنّه قرأ كتاب رسالة الغفران وأثّرت موضوعاته وأسلوبه في
مخياله وموضوعاته، بل لأنّه يمتلك طاقات خلق لا تقل شأنًا عن طاقات أبي العلاء الذي
استمدّ من الفكر الإسلاميّ ومن التراث العربيّ وموروثه الفكريّ نواة تأمّل
وتخصيب تفاعلت مع طاقات أبي العلاء
اللغويّة والفنيّة، فولّد فعل الخلق الكيميائيّ كتابًا لا يعرف الفناء، لأنّه يصوّر
بعض حالات النفس البشريّة وما تنتجه من أسئلة وتطلعات ورؤى منحت الكتاب حياة دائمة
وحضورًا في فضاءات الثقافة العالميّة المفعّلة بحراك فكريّ دائم، غايته الخلق
والتجديد.
تفرض حتميّة الخلق، إذًا، وجود حركة
دائمة غايتها التجديد والتحديث، والتجديد والتحديث لا يكونان من فراغ بل من أسس
معرفيّة قابلة للتفاعل والتلاقح والتخصيب والتوليد، ولذلك ارتبطت الحداثة الأدبيّة بوجود أصل يولد
منه نص مستقل بذاته من حيث كينونته وهويته، ومرتبط بغيره من حيث الفكرة والموضوعات
والغايات والأهداف التي تجسّد حالات النفس البشريّة في كلّ زمان ومكان.
استنادًا إلى ما سبق يجوز القول إنّ
قراءة النصوص الإبداعيّة وفكّ أسرارها ومعرفة نقاط التماثل والتمايز بينها تحتاج
إلى دراسة أدبيّة تكشف عن الصلات والروابط الإنسانيّة بين أبناء البشر مهما
تباعدوا جغرافيًّا وسياسيًّا ودينيًّا وعقائديًّا وإيديولوجيًّا، فتكون قراءة
النصوص ومقاربتها مرتكزة على أدوات المناهج النقديّة المتعارف عليها، وهذه
القراءة العلميّة تجعل مصطلح الأدب المقارن الذي شاع بين الباحثين لخفته وسهولته مرتبطًا
بمفهوم المنهج وشاملاً الفنون الأدبيّة كلّها، وهادفًا إلى القبض على بوح الذات
الإنسانيّة، وعلى ما تطرحه من مقولات فنيّة وفكريّة وأخلاقيّة وجماليّة سامية؛
لأنّ العمل الأدبيّ الإبداعيّ القوميّ لا يعبّر فقط عن الانتماء الوطنيّ والقوميّ ،
بل هو شكلٌ من أشكال التعبير عن الروح الإنسانية المتعالية على المناطقيّة والحدود
الجغرافيّة وعلى المعوّقات اللغويّة، وبهذا التعالي تتعانق النصوص وتتجاوز المكانيّ
والزمانيّ وتضيء على مبادئ الحقّ والخير والحريّة والجمال.
يشكّل الأدب
المقارن بهذا المفهوم وسيلة فاعلة في تحرير النص الأدبيّ من الذاتيّة والاستنسابيّة، ويحرّره من حدوده القوميّة
واللغويّة فيلتقي مع نصوص إبداعيّة أخرى تحمل الهمّ عينه وتعبّر عن هواجس الروح
الإنسانيّة العميقة، وتفصح، في اللحظة عينها، عن آلامها وآمالها وطموحاتها
وتطلعاتها وأحلامها، وترسم صور الحياة كما رأتها وانفعلت بها.
يحيل الكلام السابق الباحثين على قراءة
النصوص بأدوات النقد الهادف إلى التركيز على النصوص من دون إغراق في تتبّع نقاط
التأثّر والتأثير، وعلى الحوار الإبداعيّ بين النصوص التي تجسّد تواصلاً فكريًّا،
وتنطق بمقولات فكريّة وفنيّة وجماليّة، فيكون العمل على الكشف عن القضايا
والموضوعات الإنسانيّة الجامعة، وعن الهموم الثقافيّة والحياتيّة المشتركة، وعن
الأسئلة المشحونة بالقلق والشكّ، وذلك من خلال تحليل دقيق يخترق ظلال التراكيب،
ويكشف عن الواقع الاجتماعيّ والفكريّ والسياسيّ الذي يحيط بكاتب النص ويؤثر في اختيار
موضوعاته وفي ابتكار أساليب خاصّة به. وبهذه الأسس وغيرها تستطيع الدراسات الأدبيّة
المقارنة أن تبيّن علاقات النصوص الأدبيّة
بعضها ببعض وتبتكر أدوات جديدة تساعد على توظيف النصّ الأدبيّ الإبداعيّ تراثًا عالميًّا
يعزّز أسس التفاهم والتلاقي بين الشعوب .
ترصد هذه الدراسة التنظيريّة/
التطبيقيّة نتاج أديبين مبدعين، هما جبران خليل جبران[2]
اللبنانيّ، وبروين اعتصاميّ الإيرانيّة[3]،
لكونهما ينتميان إلى فترة زمنيّة واحدة، وإلى ظروف سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة
متشابهة، ولكون المقارنة، وفق قناعتي، لا تقتصر على أديبين من جنس واحد، لأنّ تجنيس
الأدب لا يتوافق وعلميّته وغاياته وأهدافه. ولا يكون بين نصّين ينتميان إلى قبيلة الشعر أو
قبيلة النثر، لأنّ الأدب أدب سواء أجاء نثرًا شعريًّا أم شعرًا منثورًا. فكيف تجلّت هذه الصلات في إبداعات جبران وبروين؟
ثالثًا: الصلات الإنسانيّة والفكريّة
بين جبران وبروين
تؤكد الدراسات
الأدبيّة عمق التواصل الفكر الثقافيّ والحضاريّ بين التراث العربيّ والتراث
الفارسيّ، وبخاصة في العصر العباسيّ الذي أفادت نهضته من التراث الفكريّ والأدبيّ
الفارسيّ، ثمّ كان للثقافة العباسيّة حضور بارز في التراث الأدبيّ الفارسيّ، فظهر التأثر
في نتاجات أدبيّة عكست صوره البلاغيّة الالتزام بقوانين البلاغة العربيّة، وموسيقاه
الشعريّة محاكاة لأوزان الخليل.
تواصلت العلاقات الثقافيّة العربيّة
الفارسيّة في العصر الحديث، وظهر التأثّر والتأثير في مفردات اللغتين وفي الموضوعات
وبخاصة ما كان منها مستمدًّا من القرآن الكريم، وهذه العلاقات كشفت عنها دراسات
عربيّة وفارسيّة، لا تختصّ هذه الدراسة بالإشارات
إليها، لأنّ التركيز سيكون على إبراز السمات المتماثلة في أدب جبران وبروين ومن
ثمّ الكشف عن
طبيعة التواصل الروحيّ بينهما، وذلك من خلال قراءة نصوص تناولت قضايا اجتماعيّة
وسياسيّة وفكريّة وإنسانيّة، من دون أن
يكون لأيّ منهما تأثير مباشر في فكر الآخر وفي أسلوب مقاربته الموضوعات المتشابهة
في المجتمعين العربيّ والفارسيّ، والتي شكّلت شرارة أضاءت الجوانب الإبداعيّة وأسهمت
في إنضاج عملية الخصب والتوليد الفنيين .
تكشف عملية رصد للفضائين الثقافيين
العربيّ والإيرانيّ في بدايات القرن العشرين عن وجود أوضاع متشابهة ولّدت حراكًا
فكريًّا أثمر أفقًا أدبيًّا جديدًا رسم سماته في لبنان وإيران عدد من الأدباء منهم رشيد سليم الخوري (الشاعر
القروي) وإيليا أبو ماضي وفي مرحلة تالية جبران خليل جبران، وملك الشعراء بهار وعارف
القزويني، وبعد مدة قصيرة بروين اعتصامي ورشيد الياسمي.
شهد المجتمع الإيرانيّ حركة دستوريّة
فاعلة، وكذلك شهدت المجتمعات العربيّة ثورات تدعو إلى التخلّص من الحكم العثمانيّ وما
تلاه من استعمار فرنسيّ، فكان للحراك الاجتماعيّ والفكري في المجتمعات الإيرانيّة
والعربيّة نتائج إيجابيّة تجلّت في تأسيس المدارس والصحف والمجلات السياسيّة والأدبيّة،
وفي تحقيق نهضة أدبيّة اتسمت بسعي الأدباء والمفكرين إلى تحرير لأوطان وتحرّر
المجتمعات من التقليد والتبعيّة وإلى إيقاظ الحس القوميّ والوعيّ الاجتماعيّ.
تمايزت النصوص الأدبيّة العربيّة
والفارسيّة بالدعوة إلى حياة جديدة قوامها العلم، وإلى الاهتمام
بحياة الطبقة الفقيرة، وإلى تحرير المرأة، وإلى مخاطبة الضمير الإنسانيّ، فجاءت المضامين
والأهداف والغايات والمقاصد متشابهة، وبخاصة في الموضوعات الإنسانيّة
والاجتماعيّة، لأنّ الحياة الجديدة أنتجت قضايا جديدة ومنها قضية تعليم المرأة
التي ظهرت واضحة في قصائد الشعراء الفارسيين
، ومنهم بروين اعتصامي التي آمنت بأنّ تطوّر المجتمعات لا يكون من دون أجيال متعلّمة،
والأجيال المتعلمة المثقفة تحتاج إلى أمّ حرّة
ومعلّمة ، فقالت:
دامن مادر نخست آموزگار كودك است
طفل دانشور كجا ﭙرورده نادان مادرى
بمعنى:" إنّ حضن الأم هو أول معلم
للطفل؛ فمن أين للأم الجاهلة أن تربّي طفلاً متعلّمًا
وهذا الموقف يتلاقى ورأي حافظ إبراهيم القائل:
من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علّة
ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعبًا طيّب الأعراق
ممّا لا شك فيه أنّ للواقع الاجتماعيّ والسياسي
دورًا أساسًا في قراءة سمات الروابط الفكريّة بين الأدباء، ولكن للمشاعر
الإنسانيّة الباطنيّة وغير الملموسة، في رأيي، دور أكثر بروزًا وأثرًا وفاعليّة، لكونها مشاعر متحرّرة من التصنيفات والتقسيمات،
وهذه المشاعر تماثلت في نظرة جبران وبروين إلى علاقة كلّ منهما بمكان الإقامة الأخير، فجبران الذي امتدّ عمر
جسده ثمانية وأربعين عامًا ( 1883-1931)، أوصى
بأن يُكتب على ضريحه :" أنا
حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ فسوف تراني أمامك" .
وبروين التي ارتحلت عن عمر ناهز الأربعة والثلاثين عامًا( 1906- 1941) أوصت بأن
يُكتب على شاهدة قبرها:
هذا التراب الذي تنامین فیه
هو نجم بروین وخطها
إنّ صاحبة الشعر واللحن الحزین
ترجو الیوم قراءة سورة الفاتحة
المحبون هم الذین یذکرونها
و القلب الذی لا یعشق، لا یحبّ
کل ما کنت، ومن تکون
فآخر المطاف هنا تکون
و مهما أوتیتَ من طغیان أیّها المغرور
فعندما تصل الی هذا المقرّ
فأنت بائس وخسران
إنّ بروین اليوم تُحلّق کالفراشة
کل من یری هذا
یری عین الحقیقة
تختزل الفقرة الأخيرة عمق الصلات
الروحيّة والإنسانيّة بين جبران وبروين، فكلٌّ واحد منهما تنبّأ بأنّ الضريح سيحظى
بزيارة المحبين، وسيوكونان في استقبالهما، فجبران حيّ انتصر على موته بحضور لا
يُرى إلاّ بعين القلب، وبروين مارست بموتها حريّتها وأكّدت بقاءها في ضمير كلّ من
ينظر بعين الحقيقة.
لم يقتصر التماثل بين جبران وبروين على
دلالات وصيّتين كتبتا على ضريحين، بل ظهر التماثل في قدر كلّ منهما، فجبران الذي
حُرم من عطف والد تفصله عنه البحار والمحيطات نتيجة الهجرة عوّضت له الأقدار
برعاية أمّ قادرة استطاعت أن تمنح ابنها الأمن والأمان والطمأنينة على الرغم من قساوة
الحياة في بوسطن، وكذلك بروين حرمتها الأقدار من عاطفة الأمّ، وعوّضت لها عن
غيابها باهتمام الوالد وبرعايته وتشجيعه.
تشابهت أقدار الأديبين في قضية الموت
والدفن، فجبران وافته المنية في أميركا ونُقل جثمانه إلى لبنان، وبروين وافتها
المنيّة في طهران، ونُقل جثمانها إلى مدينة قُم المقدّسة، وجبران أتقن الانكليزيّة
والعربيّة، وروين تعّلمّت العربيّة إلى جانب لغتها الأمّ، وجبران تنقّل بحثًا عن
المعرفة، وبروين تنقّلت برفقة والدها طلبًا للمعرفة.
ربّما كانت هذه القضايا هامشيّة بالنسبة
إلى النقّاد، غير أنّ الهدف من الإشارة إليها يكمن في الإضاءة على قضايا إنسانيّة
تجمع بين شخصين لا رابط بينهما، لأسباب مجهولة يعرف حقيقتها قدرٌ يرسم الخطوات
الكبرى من دون أن يكون للإنسان دورٌ في رسمها. وهذه الخطوات الكبرى، وفق
قناعتي، ترسم الإطار العام لوعاء وجودنا، فيملأه المبدعون برؤاهم ومعارفهم وآرائهم المستمدة من قراءة الواقع ومن
أثره في إمكانيّة ملء الوعاء بأعمال عظيمة تتناقلها الأجيال أو بقائه خاويًا فيضمر
وجوده بزوال وجود صاحبه.
استطاع جبران أن يصنع من وعاء كينونته
فضاءً إبداعيًّا يفيض بالقضايا الإنسانيّة الخارجة على التصنيف والتقسيم، فجاءت
كتاباته مشحونة بالدعوة إلى التحرّر والرفض والإيمان والمحبّة والتسامح والبناء.
وكذلك استطاعت بروين أن تتمرّد على محدوديّة كينونتها، وتفرض أدبها فكرًا ساطعًا في سماء الأدب الإيرانيّ ما جعل من
أفكارها مشعلاً تستنير به الأجيال، لأنّها شحنت نتاجها الشعريّ بالقضايا
الإنسانيّة وبالحكمة والموعظة، فقيل إنّها
تتقمص في شعرها شخصية رجل، لأنّها استطاعت أن تمنح مواضيعها بعدًا إنسانيًّا، وأن
تحرّر نصوصها من النمطيّة والتصنيف.
تناولت بروين في شعرها قضايا اجتماعيّة وإنسانيّة ، واستطاعت أن ترسم بأدوات
الشعر الإبداعيّ صورًا لغويّة مشحونة
بالدعوة إلى التمرد على الحكّام الظالمين فقالت من خلال رسمها لوحة فنيّة لحوار جريء
بين امرأة عجوز وملك ظالم:
لم أحصل من فسادك غير الأسر والقيد
مر على حارتنا وأنت في طريقك للصيد
فالإطلاع على حال الرعية ليس ذنبًا
تعال وشاهد كيف تعيش ذليلاً
فقد عمّ البؤس حتى خلت الموائد من الخير
وفقدت الرعية في ظلك الأمن والأمان
حتى سرق اللص لحافي
وأصبحت أبقارنا ولائم يتكرّم بها الراعي
هذه الدعوة المضمرة إلى الثورة والتمرد على حاكم ظالم، يقابلها في المرحلة
عينها رفض جبران حالة الخنوع والاستسلام التي فرضتها سلطة ظالمة عطّلت فعل الحياة،
فيخاطب جبران الحاكم الدينيّ المتسلّط رافضًا الاعتراف بمارساتها اللا إنسانيّة
ويدعوه إلى التواصل مع رعيته، ليعلّم أفرادها أو يتعلّم منهم، شريطة أن يكون
الاحتكام إلى العقل الواعي وإلى المعرفة المقرونة بالتجربة، فيقول:
لماذا تبتعدون عن البشر وقد خلقكم الله بشرًا؟
إذا كنتم أفضل من الناس السائرين في موكب الحياة عليكم أن تذهبوا إليهم
وتعلموهم...
وإن كانوا أفضل منكم امتزجوا بهم وتعلّموا"
يعكس كلام جبران وبروين على ذوي
السلطة جرأة وشجاعة ودعوة إلى التغيير المؤسس على قراءة الواقع وتوصيفه والسعي
إلى التغيير الإيجابي، فلا شفاء للمجتمعات
المريضة من دون الكشف عن مواطن الداء. ولا
خلاص من سلطة فاسدة إلا بالوعي والعمل والشجاعة والمعرفة، لذلك صوّر جبران نتائج
الظلم والاستبداد قائلاً:
في حقولنا المجدبة يحفر الفلاّح الأرض بأظافره،
ويزرعها حبّات قلبه.
ويسقيها دموعه، ولا يستغلّ غير الأشواك ولا من يعلّمه...
نعاجنا ترعى الأشواك والحسك بدلاً من الزهور والأعشاب....
وخيولنا تلتهم الهشيم بدلاً من الشعير
تنطق نصوص جبران وبروين بقضايا إنسانيّة وبموضوعات اجتماعيّة وسياسيّة
وفكريّة تهدف إلى التحرّر من عادات وتقاليد موروثة تفرض الاستسلام، والصمت والصبر غير
الهادف، فعبّرت بروين عن رأيها في عملية الصراع ما بين القديم والحديث، وعن نتائج
الصمت على الضيم على لسان غصن طري يلوم شجرة يابسة فقالت:
قال برعم طري لشجرة يابسة ، لماذا ليس لك أوراق ولا ثمار ؟
لماذا احترقت من الشمس هكذا ، ألم يكن لك في الروض ماء ولا إرواء
إن أزهاري كالشمس ضياء ولا ذرة غبار على أوراقي وأغصاني
لماذا لم يخط لك رداء خياط النيروز إبّان الربيع ،
وما عندك أقراط من الندى في أذنك
صرت حدباء بلا أوراق ولا ثمر
ولم تنبسي ببنت شفة لشدة صبرك
رسم جبران صورة أكثر تعبيرًا عن الرفض والدعوة إلى التمرد، ورأى أنّ الصبر
يجب أن يكون مقرونًا بالعمل والألم والأمل والهدف، لأنّ النواة التي لا تحتمل برد
الشتاء وثورات العناصر لا تقوى على شقّ الأرض ولن تفرح بجمال نيسان" ( 213)
و" الحياة بغير تمرّد كالفصول بغير ربيع، والتمرّد بغير حقّ كالربيع في
الصحراء القاحلة الجرداء".
تمايزت نصوص جبران وبروين بصور مستمدة من عناصر الطبيعة، فأنطقاها بحوارات
تعبّر عن أفكارهما وآرائهما، فجاءت نصوصهما مشحونة بالدلالات والمقاصد والأهداف،
فتجلّت النفس البشريّة في كتاباتهما، وظهر الصراع الاجتماعيّ والنفسيّ، وجاءت الرؤى
متماثلة ولكنّها غير متطابقة، فجبران على سبيل المثال لا الحصر، يصوغ من حوار البنفسجة والوردة دعوة
إلى رفض الواقع ويشجّع أبناء الحياة على الطموح، ولو كانت النتيجة الموت والفناء،
لأنّه يؤمن بأنّ: "القصد من الوجود الطموح إلى ما وراء الوجود" فكان موت
البنفسجة الطموح حياة لفكرته، لذلك أنطق البنفسجة/ الوردة في آخر لحظاتها بموقفه
من القناعة السلبيّة وبدعوته إلى ممارسة الفعل المغامر الهادف إلى المعرفة، فقال: "
أنا أموت الآن أموت وفي نفسي ما لم تكنه بنفسجة قبلي. أموت وأنا عالمة بما وراء
المحيط المحدود الذي ولدت فيه. هذا هو القصد من الحياة هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي"
لم تكن دعوة بروين إلى التمرّد وممارسة فعل التجربة التغييري بالوضوح عينه الذي جاء في كتابات جبران، فالوردة
الذابلة اقتنعت بقدرها ولم تقبل هدية الطبيعة التي تعدها بالحياة الجديدة، لأنّها
روّضت نفسها على قبول الحياة المشحونة بألم الشوك والقحط، فقالت:
أمطرت السحابة على وردة ذابلة
وقالت لقد صنعت من القطرة قرطاً لأذنك
أخذت الماء النقي من البحر وجئت مسرعة من أجل غسل الغبار عن ثغرك الباسم
ضحكت الوردة قائلة : لقد جاء هذا العطاء متأخرًا .
غدرني الزمان وتأقلمت مع الأرض القاحلة والأشواك
لم يشملني القضاء بلطفه مطلقًا
وإن كنت قد عزفت له بلا منة كلّ لحن أراده
لقد أنبأني حظي لمّا نصب خيمة وجودي
فقال إني نصبتها من أجل هدمها وتقويضها
ليس للدنيا غاية ولا هدف سوى الجفاء فلقد عرفتها بنظرة واحدة.
ترسم بروين صورة ناطقة بالاستسلام، فهل أضمر هذا التصوير دعوة إلى الرفض
والتمرّد؟ هل ربطت صورة الاستسلام بالحكمة؟
وظّفت بروين شعرها لخدمة الانسان والمجتمع، واشتركت مع جبران في قضايا
كثيرة، منها الدعوة إلى التحليّ بالأخلاق الكريمة وبالقيم الإنسانيّة ، وباحترام
حقوق المرأة، لكونها شريكًا حقيقيًّا غير
تابع، وغير محكوم، وعلاقتها بالرجل يجب أن تكون مؤسّسة على التعاون والتفاهم
والتكامل. فالمرأة والرجل في شعر
بروين أشبه بسفینة وربان فإذا کانت السفینة
مُحکمة وکان ربانها حکیمًا حاذقًا، فلا خشیة من الطوفان والإعصار، فلا قيمة حركيّة
فاعلة لسفينة من دون ربّان ماهر، ولا
فاعليّة لربّان من دون أداء دوره الاجتماعيّ والإنسانيّ بفن ومهارة. والرجل
والمرأة في فكر جبران أشبه بعمودي هيكل يتساندان من دون أن يتلاصقا، فالبيت الزوجي
هيكل مقدس ولا يرتفع إلاّ بعموديه المتوازيين غير المتلاصقين.
ترفض بروين في أن يسند شعرها إلى رجل، وأكّدت أنّ المرأة إنسان، ويجب على
الرجل أن ينظر إليها بعين القلب بعد أن يتحرّر من الفكر الخاطئ والفاسد، فالأنثى
شريكة الرجل وليست دميته، فتقول:
يجب أن يصفو القلب
أن ينقى من غبار الفكر المنحرف
وليعلم الشيطان أن المرأة
ليست للعب.
عبّر جبران عن هذه الفكرة في أكثر من نصّ أدبيّ، فدعا المرأة إلى التحرّر
من بريق ذهب يمتلكه رجل يريد أن يجعل منها دمية، فقال:" وأنت أيتها المسكينة
التي وهبها الله جمالاً رآه فتى العصر فتبعك وغرّك وتغلّب على فقرك بالذهب
فاستسلمت له وغادرك فريسة ترتعد بين مخالب الذل والتعاسة"؛ لأنّ المرأة في
رأي جبران أنثى خالقة تعيد صياغة أخلاق الرجل، فقال على لسان صديق له:" تلك
التي أخرجت آدم من الجنة بقوة إرادتها وضعفه قد أعادتني إلى تلك الجنة بحنوها
وانقيادي" والانقياد هنا ليس تبعية بقدر ما هو تفاهم روحي يمنح المرأة ثقة
بالنفس ويعيد إليها دورها الوجوديّ والإنسانيّ، لأن المرأة الضعيفة رمز الأمّة
المظلومة. ولذلك فإنّ الأمم القويّة لا تهمل دور نصف طاقات أبنائها.
كان البوح الأدبيّ بالنسبة إلى بروين وجبران يهدف إلى الإصلاح الأخلاقي والاجتماعيّ، فجاءت نصوصهما
معبرّة عن واقع فاسد يحتاج إلى الإصلاح، وهذا الإصلاح تجلّى في كتاباتهما مقرونًا
بصدق التصوير وبالدعوة إلى الرفض والتمرّد، فظهرت هذه الدعوة صريحة في كلام بروين
على حقّ العمّال في مقطوعة تقول فيها:
أیّها العامل
إلی متی تحفر روحك تحت لهیب الشمس؟
کم أراك تریق من ماء وجهك لأجل لقمة العیش!
لماذا ترزح تحت وطأة الذل والحرّ والتراب؟
لیس أجرك سوی نظرة حقد وعتاب.
أيّها العامل
طالب بحقّك المهدور
ولا تخشی الملك والأمیر
انهض وقیّد الشیطان والمتکبر
فنور الشمس لا یُحجب بغربال.
ظهرت هذه
الدعوة الصريحة إلى الرفض والتمرّد والثورة على الظلم في أكثر من نصّ جبرانيّ،
وربّما كان في كلامه على الحريّة دعوة صريحة إلى الرفض والتمرد، فقال:
بعزم سواعدنا
قد رفعوا أعمدة الهياكل والمعابد لمجد آلهتم.
وعلى ظهورنا قد
نقلوا الطين والحجارة لبناء الأسوار والبروج لتعزيز حماهم
فحتى متى نبني
القصور والصروح، ولا نسكن غير الأكواخ والكهوف
ونملأ الأهراء
والخزائن ولا نأكل غير الثوم والكراث.
شحن الأديبان
المبدعان نصوصهما الشعريّة بالمواعظ وبالحكم التي صاغاها بألفاظ مستمدة من
الطبيعة، وأفاضا عليها بمفاهيم قيميّة أفصحت عنها مفردات تدعو إلى المحبّة والتآخي
والتسامح والتفكير السليم، وذلك بأسلوب نقديّ ساخر يهدف إلى تصوير نتائج المعطيات
والفرضيات غير الصحيحة، هذه المعطيات التي يفرضها رجل دولة لا يعنيه الجوهر لأنّه
لا ينظر إلاّ إلى الشكل، لأنّه عبد لقانون يطبّقه من دون أن يدرك ضرورة تطوره مع
تغيّر المستجدات، ولكن من يغيّره إذا انتفى وجود العقلاء؟ ومن هذه المظاهر الاجتماعيّة
الإداريّة ما صوّرته بروين من سوء تقدير محتسب أراد أن يحاسب سكيرًا، فقالت:
صادف المحتسب
سکیراً فی الطریق
فجذبه من قمیصه
قال السکیر: هذا
قمیص أیها المحتسب ولیس لجامًا
قال: مالي أراك
أیها السکیر تسیر مُتأرجحًا؟
أجاب: لیس
الخلل في مشیتي , بل فی الطریق الوعرة.
قال: فلابد من
استدعائك الی المحکمة
أجاب: إن
القاضي نائم فلنذهب صباحًا
قال: منزل
الوالي قریب، تعال نقصده
أجاب: ألا تعلم
بأن بیت الوالي خمّارة ایضًا؟
قال: اذًا فعلی
العقلاء أن یُقاضوك
أجاب: فائتني
بعاقل... وأین هو؟
يماثل هذا
النصّ من حيث المضمون والحكمة ما جاء في كتاب المجنون تحت عنوان البهلول الذي رفض فيه
جبران قوانين السلطة غير العادلة ، فكان قبول الحكم والاستهزاء به نوعًا من
اللامبالاة بما تصدره محاكم لا تعرف العدالة الاجتماعيّة، فالتزم البهلول بأحكام
محكمة المدينة من دون أن يبالي بقرارات ذوي الشأن، "لأنّ الشعوب الجاهلة تقبض
على أشرف أبنائها وتسلمهم إلى القساة والظالمين، والبلاد المغمورة بالذل والهوان
تضطهد محبيها ومخلصيها".
أبدع الكاتبان
في رسم صور لغويّة تجسّد الأبعاد
الإنسانيّة، لأنّهما آمنا، شأن أيّ مبدع حقيقيّ، بأنّ الارض لجمیع أبناء الحياة
على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم، فلماذ يقتل الأخ أخاه على صدر الأمّ الأرض؟ ولماذا
لا يقبل أحدهما الآخر؟ ولماذا يكيل كلّ منهما الاتهامات إلى أخيه من دون أن ينظر
إلى عيوب نفسه؟
استمدّ
الأديبان من عناصر الطبيعة شخصيات نطقت
بأفكارهما وآرائهما، وذلك بأسلوب قصصي حواريّ تكررت أنساقه في نتاج كلّ
منهما، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما جاء في نصوص بروين من حوار بين الثوم
والبصل وبين الحمصة واللوبياء، فأظهرت من
خلال الحوار رفضها النيل من الآخرين، ورفضها الغيرة والحسد، لأنّ النهاية واحدة
لبني البشر:
-هاجم الثوم البصل یوماً فقال:
یا مسکین رائحتك
کریهة!
-أجابه عن عیبك أنت غافل!
لذلك تبحث عن عیوب
الآخرین.
- سألت الحمصة اللوبیاء
لماذا انا دائریة
وانت ممشوقة القامة؟
-أجابتها: کلنا مصیرنا الطبخ.
تحظى هذه الأساليب القصصيّة الحواريّة في نتاج جبران الأدبيّ بحضور بارز،
أيضًا، ومنها على سبيل المثال ما جاء تحت عنوان:" بنات البحر- الرمانات-
اللعين- الليل والمجنون- النسر والقبرة -الراهب
والوحش-...) وغيرها من العناوين التي رشحت نصوصها بالقيم الإنسانيّة وبالحكمة.
تؤكّد الأنساق اللغويّة
المعبّرة عن أفكار أديبين متباعدين جغرافيًّا ومختلفين من حيث الأدوات اللغويّة ، أنّ
القضايا الإنسانيّة التي تشغل المبدعين واحدة، وأنّ رغباتهم متشابهة، لأنّ الأدب هو
الإنسان، والإنسان واحدٌ في كلّ زمان ومكان. فلماذا لا يوظّف الأدب في حوار حضاريّ
واعٍ وهادف؟ ولماذا لا تكون ندوات تتناول قيمًا إنسانيّة نطقت بها نصوصٌ إبداعيّة ؟
ربّما كان في حوار الأدب العالميّ مركزيّة تلاقٍ فكريّ وحضاريّ وإنسانيّ يؤكّد أنّ
الإنسان أخو الإنسان إلى أي جغرافيا أو معتقد انتمى. لأنّ وجود الإنسان المبدع يبشّر بخلق النموذج الأدبيّ
الأكثر فاعلية والأكثر قدرة على الاستمرار في الآتي، لكون النصّ الأدبيّ نشاطًا عقليًّا وخيارًا ثقافيًّا له منطلقات ومسارات
وأهداف يبوح بها مبدع محدِث قادر على خرق العادي
والمألوف، وعلى التأسيس لحراكٍ فكريّ أدبيّ
يدعو إلى رفض العبوديّة الفكريّة، وإلى
خلقٍ فني متجدّد يواكب قضايا الإنسان الحرّ،
ويحرّض على نبذ النزاع والاقتتال والصراع والانقسام.
صاغ الأديبان
المبدعان جبران وبروين موضوعاتهما بأسلوب سلس ومتماسك، ووظّفا ألفاظًا بسيطة مستمدة من قاموسي الطبيعة ومن
مظاهر الحياة، فرسما بهذه الألفاظ صورًا مشحونة بالرموز والدلالات والحكم والمواعظ
والمقاصد والغايات التي احتجبت وراء ظلال تراكيب تؤكّد صياغتها وسيميائياتها
ورموزها ودلالاتها أنّ الأديبين تمسّكا بأصول اللغة وجمالياتها بقدر ما تجاوزا الأنساق
الكلاسيكيّة، فكانا بحقّ رائدين من روّاد النهضة الأدبيّة والفكريّة في الأدبين العربيّ
والفارسيّ.
رابعًا: بيان الدراسة
أخذ مفهوم مصطلح الأدب المقارن يفرض
نفسه علميًّا وثقافيًّا وأكاديميًّا، منذ النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، فاستُحدث
له كرسيّ في بعض الجامعات الأوروبية وصار علمًا له مدارس وأصول وعلماء ينظرّون ويحلّلون.
تزخر المكتبات العالميّة بكتب ودراسات تناولت مفهوم الأدب المقارن تنظيرًا وتطبيقًا،
وكشفت هذه الدراسات عن العلاقة بين الثقافات العالميّة القديمة والحديثة وعن التأثّر
والتأثير وعن الشخصيّة القوميّة للأمم من خلال قراءة تراث كلّ أمّة ومن ثمّ التمييز بين نتاجها وتراثها الأصيل، وبين
ما استعارته من التيارات الأدبية، والأجناس والمذاهب المختلفة.
قدّمت الدراسات الأدبيّة المقارنة إنجازات معرفيّة، ولكنّها لم تؤسّس لنظريّة
نقديّة علميّة، لذلك كثرت التساؤلات في أواخر
القرن العشرين حول أهمية الدراسات المقارنة وجدواها، وتضاعفت الأسئلة في عصر معولم،
ألغى الحدود الثقافيّة، عن دور هذه الدراسات في واقع نقديّ جديد، له منطلقات معرفية
وسوسيولوجية أوسع بكثير من منطلقات الأدب المقارن، فكان السؤال الأكبر: "هل تستطيع
الدراسات الأدبيّة المقارنة أن تفيد من أدوات ومناهج ونظريات النقد الجديد، كالنقد
البنيوي والسيميائيّ والتدوالي والأسلوبيّ والتأويليّ؟"
أظهرت الدراسات الأدبيّة المقارنة أهميّة الأدب في حوار الحضارات وفي ترسيخ
العلاقات الفكريّة والثقافيّة والإنسانيّة بين الشعوب، وفي التبادل المعرفيّ بين الأفراد
والجماعات، فكان كتاب كليلة ودمنة على سبيل المثال لا الحصر نقطة ارتكاز في الآداب
العالميّة التي أفادت من ترجمته، ووظّفت أسلوبه وأهدافه وغاياته ومقاصده في نتاجات
أدبيّة مماثلة، وكذلك كتاب ألف ليلة وليلة، غير أنّ الدراسات المقارنة ركّزت على قضية
التأثر والتأثير من خلال رصد عملية الترجمة والنقل والتأليف، ولم تركّز على التمايز
البنيويّ والسيميائي والتأويلي والأسلوبيّ.
تحتاج الدراسات
الأدبيّة المقارنة الحديثة إلى توظيف أدوات المناهج النقديّة جميعها، وإبراز العلاقات
الإنسانيّة المتجليّة في النتاج الأدبيّ العالمي، سواء أكانت هذه العلاقات ناتجة من
تأثر وتأثير أم ناتجة من التماثل في المشاعر الإنسانيّة وفي الرغبات والأحاسيس والأحلام
والطموحات، فتتم الإضاءة على دور الأدب في خلق حوار حضاريّ فكريّ إنسانيّ، لأنّ الأدب
هو الإنسان والإنسان واحد في كل زمان ومكان، فيكون العمل على مقاربة النصوص سيميائيًّا
ودلاليًّا وتأويليًّا، وعلى الكشف عن تجليات الحبّ والألم والسعادة والانتماء والتمرد
والعشق الإلهيّ في نصوص أدبيّة لها أهداف وغايات تتمايز بقدر ما تتماثل.
نتمنّى أن يكون
تأسيس لدراسات أدبيّة مقارنة بين الأدب العربيّ والأدب الفارسيّ لما بينهما من مواضيع
وقضايا متماثلة، أولاً، ولما لهما من حضور بارز
في الآداب العالميّة، ثانيًا، ومن ثمّ يكون العمل على ابتكار أدوات منهج نقديّ
مقارن يرتكز على خصائص ما سُمّي بالأدب المقارن ويفيد من أدوات المناهج النقديّة المؤسّسة
على مقاربات سياقيّة وثقافيّة ومعرفيّة، ويضيء على دور الأدب في خلق مجتمع إنسانيّ
يعيش إنسانه المشاعر والأحاسيس عينها ، ويسعى إلى تحقيق أهداف تسمو بالذات البشريّة
فوق القتل والظلم وتؤمن بحوار ثقافيّ يضمن
التفاعل الفكريّ والحضاريّ.
أ.د. مها خيربك
ناصر
أستاذة
الدراسات العليا-الجامعة اللبنانيّة
1- عرفت المكتبات العربيّة وغير العربيّة،
عددًا كبيرًا من الكتب التي تناولت موضوع الأدب المقارن، ومنها " الأدب المقـارن لبول فان تيجم ترجمة
سامي مصباح الحسامي- والأدب المقارن لماريوس فرانسوا غويار ترجمة: الدكتور محمد غلاب-
والأدب المقارن لأندريه ميشيل روسو، ترجمة وتقديم
الدكتور رجاء عبد المنعم جبر- ومبادئ علم الأدب المقارن لألكساندر ديـما، ترجمة
: الدكتور محمد يونس- أزمة الأدب المقارن لرينيه إتيامبل، ترجمة الدكتور سعيد علوش
- ومن الأدب المقـارن لنجيب عقيقيّ- وتيارات
أدبية بين الشرق والغرب لإبراهيم سلامة- والأدب
المقارن لمحمد غنيمي هلال- والأدب المقارن لمحمد البحيريّ- وفصول مقارنة بين أدبي الشرق
والغرب لجمال الدين الرمادي- ودور الأدب المقـارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر
لمحمد غنيمي هلال- ونظرات جديدة في الأدب المقـارن وبعض المساجلات الشعرية لعبد السلام
طاهر- والنماذج الإنسـانية في الدراسات الأدبيـة المقارنة لمحمد غنيميّ هلال- ودراسـات في الأدب المقـارن
والمدارس الأدبيـة لصفاء خلوصيّ- ودراسات في
الأدب المقـارن لمحمد عبـد المنعم خفاجيّ- والأدب المقـارن لحسن جاد حسن- وفي الأدب
المقارن، أصوله وتياراته لمحمد عبد الرحمن شعيب- والأدب المقـارن والأدب العام لريمون
طحَّـان- والأدب المقارن بين الغرب والشرق لفخري الخضراويّ- ودراسات في الأدب المقـارن
لبديع محمد جمعة- والأدب المقـارن لأحمد كمال زكي- وفي الأدب المقـارن لمحمد اسماعي
شاهين- والأدب المقـارن لأحمد درويش-وبيان الأدب المقـارن عز الدين المناصرة- والأدب
المقـارن لصابر عبد الدايم- والأدب المقـارن
لعبده عبود- والأدب العربي المقارن لحسام الخطيب" وغيرها من الكتب التي تناولت
مصطلح الأدب المقارن.
1-جبران خليل جبران
فيلسوف وشاعر وكاتب ورسام لبناني ، ولد في 6 كانون الثاني من عام 1883 ببلدة بشري
في شمال لبنان، أظهر منذ طفولته رغبة في العلم والمعرفة، وتماهيًا بيسوع، اتهم
والده وسجن فهاجرت أمّه إلى أميركا مصجبة أولادها من خليل جبران ومن زوجها
المتوفى. وفي أميركا عمل أفراد العائلة المؤلفة من الأم والأخ الأكب بطرس ومن
الأختين سلطانة ومريانة، أمّ جبران فتفرّغ للعلم والدراسة ، ومن ثم حصل على
الجنسية الأميركيّة. توفي في نيويورك 10 ابريل 1931 بداء السل. ويعرف أيضاً بخليل جبران،
وهو من أحفاد يوسف جبران الماروني البشعلاني. هاجر وهو صغير مع أمه وإخوته إلى أمريكا
عام 1895 حيث درس الفن وبدأ مشواره الأدبي. اشتهر عند العالم الغربي بكتابه الذي تم
نشره سنة 1923 وهو كتاب النبي (كتاب). أيضاً عرف جبران بالشاعر الأكثر مبيعًا بعد شكسبير
ولاوزي
2- شاعرة ايرانية ولدت عام
۱۹۰٦م. في مدينة تبريز. وفتحت عينها على الحياة وترعرعت وهي تحت إشراف أبيها
العالم والأديب الفصيح الذي أعرب عن اعتقاده بضرورة تعليم البنات، وذلك باصدار كتاب
بعنوان "تربية النساء". انتقلت بروين برفقة أبيها الى طهران وهي فتاة صغيرة.
تلقت الأدبين الفارسيّ والعربيّ على يدي والدها واغترفت كثيراً من مناهل العلم والأدب
والفضل لدى أساطين وجهابذة العلم والأدب، والذين كانوا يجتمعون في منزل والدها.
أنشدت الشعر وهي في الثامنة من عمرها، و
كانت تبهر بما يصدر عن عبقريتها الغزيرة ونبوغها العالي. أنشدت بروين الشعر وهي في
الثامنة من عمرها، وبادرت بتنمية قدراتها الشعرية الكامنة والكشف عن ذوقها الشعري عبر
نظمها لقطعات أدبية رائعة مقتبسة ممّا ترجمه والدها من الكتب والأعمال الأجنبية والتركية.
كان لبروين حضور واسع في كلّ رحلاتها مع
والدها داخل ايران وخارجها، ما وفر لها آفاقًا جديدة للحصول على تجارب قيمة ومعلومات
نافعة لمستقبلها كما تأثرت بالشاعرين الكبيرين الشيرازيين حافظ وسعدي. وكانت
اشعارها مزيجاً من النمطين الأدبيين الأكثر انتشارًا وتأثيرًا، أي الخراساني والعراقي.
و لم تكن قصائدها تقليدًا للقصيدة التراثية؛ بل كانت محاولة لبعث
الشعر الفارسيّ الكلاسيكيّ من خلال إطلاق نهضة أدبية حديثة، للتعبير عن مستجدات العصر
وامتزاجها بينابيع ومناهل التراث الاسلاميّ الاصيل.
كانت بروين معجبة
بملك الشعراء بهار، وجاء الإصدار الاول لديوانها الشعري، بمقدمة رائعة كتبها ملك الشعراء
وضمّنها بحصيلة دراسته وتقييمه لمكانة بروين الشعرية والأدبيه وميزات كلامها الشعري.
ويشتمل هذا الديوان على ۱٥۰ قصيدة
وأهدت بروين ديوانها هذا الى والدها الفاضل العالم، ايماناً منها بالتأثير العميق
بما بذله الوالد من جهود حثيثة في تنمية مواهبها الشعرية والكشف عن نبوغها الأدبيّ..
رفضت هذه الشاعرة الملتزمة الحرة، العرض
الذي قدّم لها للولوج في البلاط الملكي رفضًا باتًا؛ ما يدل على عزتها وكرامتها النبيلة.
كما لم تقبل الميدالية المهداة إليها من قبل وزارة المعارف الايرانية..
توفيت بروين في إحدى ليالي الربيع عام ۱۹٤۱ بطهران إثر مرض الحصبة، الذي ألمّ بها كثيراً، وتمّ نقل جثمانها الى مدينة
قم المقدسة، حيث في مقبرة عائلية حيث قبر
والدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق