الاثنين، 26 أكتوبر 2015

جدلية العلاقة بين التخييل الغيبي ومركزية القصدية[1]
رسالة الغفران أنموذجًا
أولاً:  عتبة البحث
يشغل النقد السردي حيزًا رئيسًا في فضاء الكتابة العربيّة، بوصفه، أولاً، عملاً إبداعيًّا مؤسسًا على حضور إبداعيّ يفرض نفسه على مستوى الثقافة، وبوصفه، ثانيًا، نشاطًا فكريًّا يستمد منشطاته الأساس من النظريات العالمية المتنوعة والمتمايزة.
شهدت الساحات الثقافية العربيّة زحمة مؤتمرات تتمحور عناوينها حول إمكانية تفعيل نقد الرواية العربيّة من منطلقات النقد الغربيّ، فوشمت معظم الدراسات بكثرة المصطلحات وتعددها، كأنّ العمل النقدي لا يستقيم إلا إذا رُصعِّت تراكيبه بتعابير ومصطلحات غير عربيّة، علمًا أنّ تموضع بعض المصطلحات  في معظم الدراسات لا يتفق والسياق.
مما لاشك فيه أنّ علماء النقد العالميين أسسوا لنظريات غايتها تكريس علمية النقد، وسعوا إلى تفعيل الفكر النقدي، وحثّه على فض الأسرار المسكوت عنها، والمحتجبة وراء ظلال الألفاظ، معينهم في ذلك ابتكار إجراءت وأساليب ومناهج و  مصطلحات توسعوا في تحديد مفاهيمها  لتكون عونًا للدارسين والباحثين في فهم وظائف عناصر الخطاب الروائي، ومن ثمّ مقاربتها وتأويلها بما يخدم تكريس العمل السرديّ منتجًا إبداعيًّا قابلاً للحياة.
 حظيت وظيفة الراوي ودوره في عملية السرد الاخباريّ بالاهتمام ، لأنّ للمتكلم /الراوي دورًا رئيسًا في التقاط الصور والاشارات، وإعادة تركيب مدلولاتها بما يتوافق ورؤاه وتطلعاته وأفكاره، فيقيم من الكلّ المبعثر المتمظهر بالفوضى، كلاً متكاملاً نابضًا بالدلالات والرموز والمعاني، أو يخلق من تخيلاته شخوصًا تتحرك وتنطق وتتكلم وتتحاور بما ينتقيه ويرغب في إيصاله والكشف عنه راوٍ ، هوفي معظم الأعمال السرديّة المؤلف نفسه.
اتخذت فنون الحكي والأخبار مسارات تنوعت بتنوع الأحداث وتباين الطاقات الابداعيّة القادرة على التقاط الصور؛ المرئية منها وغير المرئية، فكانت الحكاية من أهم قنوات التواصل المعرفية، وصار اللمتكلم /الرواي سلطة تأثير على المتلقي، لأنّه الوسيط الذي يحوّل  المُخبر عنه/الظاهرة المرئية  إلى صور لفظية تنغلق على صدقية العلاقة القائمة بين ذات الراوي المتكلمة، وجوهر رؤيته للكون والحياة وما يتداخل في حيثياتها من أحداث تتقاطع في مركزية بوح تكرّسها أنا المتكلم/ الراوي طاقة قبض على المرئي والغيبي في اللحظة عينها.
 تتجرد لحظة القبض من مادية الوجود الملموس، من دون أن تخسر حضورها الهيولي المكثّف، كونه فضاء زمنيًا يفضي بالخيال إلى معانقة الألفاظ ومكاشفتها، وذلك  بما تحصّل عليه من معارف وأسرار، فتقوم اللغة بدور المتبني الحاضن الرؤى والأفكار، ويصير الجسد النصيّ أحد تجليات الفكر في أثناء لحظة القبض هذه؛ وبالتالي لا وجود للمؤلف خارج النص، ولا وجود للنص من دون مؤلف.
استنادًا إلى ما تقدم يمكن القول إن علاقة المتكلم بخطابه علاقة الكل بالجزء، لأنّ للخطاب السردي، شأن أي خطاب، ذاتًا تنبض بروح خالق النص، بوصفه، أي الخطاب، ذاتًا من ذوات الخالق  المتجلية في لحظة قذوذية ما، ولكنهّا ليست ذاته المطلقة القادرة على استساخ ذوات تتعدد وتتنوع بتنوع ماهيات الخطاب وذوات المخاطَبين، وبذلك تكون أنا المتكلم هي عينها ذات المؤلف في لحظة الخلق الابداعيّ، ولكن العلاقة بينهما ليست علاقة مطابقة في أزمنة التوليد جميعها.
إنّ عملية الخلق هذه ترعى ولادتها طاقة تخييل تحرّض على خلق علاقة جدلية بين المؤلف والمتكلم، فتتشكل معادلة فلسفية يمكن اختزالها بالقول" هي هي، وليست هي هي"؛ بمعنى أن ذات المتكلم هي عينها ذات المؤلف في لحظة الخلق الفذوذية التي فرضتها و أوجدتها عملية التلاقح الابداعيّ،  غير أن" الهي" المتكلمة  ليس بإمكانها أن تختزل أو تحيط بكلية " الهي" المبدعة  الخالقة التي تفيض من ذات كلية على ذوات  تخلقها بنفسها لتمنحها بعضًا من حقيقتها ومعرفتها وأسرارها، من دون أن تخسر كليتها ووحدتها، أو تتخلى عن دورها في القبض على حركية الذوات الخارجة عن الكل، والمنضوية تحت إرادة الكلّ، في اللحظة عينها، وذلك بفضل التخييل الذي رفعه ابن عربي إلى مرتبة العلم، وربطه القرطاجني بدقة اختيار المعاني؛ إذ لا  إبداع من دون تخييل قوامه العلم والمعرفة؛ أي العلم بحقلئق المرئيات، والمعرفة اللغوية الضامنة ولادة أجساد نصية لا تشويه في بنيتها؛ سواء أكانت شعرية أم سردية.
يزخر التراث العربيّ بأقاصيص وأخبار ينقلها راوٍ محوريّ ممسك بالخيوط جميعها، ومتسلط على الشخصيات الرئيسة التي تتحرك بإرادته، و لا تتكلم  إلاّ بما يتخيل أو يرى أو يعتقد.  فكانت شهرزاد متكلمة باسم مؤلف أوكل إليها مهمة  ضبط حركات الأبطال وتصرفاتهم وأقوالهم، وكذلك فعل بيدبا الفيلسوف والجاحظ والهمذاني، فكان للتكلم حضور وسم غياب المؤلف بالموت، وفق ما ذهب إليه رولان بارت، غير أن حضور المؤلف يبقى هيوليًا قابضًا على وحدة العمل،  بوصفه المونيتور monitorالخفي الذي يحرك الأبطال من وراء ستارة الألفاظ.
 بهذه الرؤيا يمكننا قراءة رسالة الغفران لأبي العلاء المعريّ ، إذ جاءت الرسالة  تأطيرًا للحكي العربي المسكوت عنه، و تجسيدًا صادقًا عن تفاعل الغيب والحاضر في لحظة فذوذية ربطت الحكايات بسياقاتها الاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية، فجعل أبو العلاء من الألفاظ حجابًا يستتر وراءهه، ونفخ بابن القارح بعضًا من روحه، لتكون ذاتًا من ذواته الناطقة بأفكاره ، وبما يرغب ويؤمن، وبما لايرغب ولا يؤمن.
استنادً إلى ما تقدّم كيف يمكن تحديد علاقة أبي العلاء/ المؤلف بابن القارح /المتكلم؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم ماهية الخطاب السردي في رسالة الغفران ومن ثم كشف طبيعة العلاقة بين الكاتب والرواي.
ثانيًا: ماهية الخطاب السردي في رسالة الغفران
لما كان الخطاب الأدبي مخلوقًا فيه من روح خالقه، فهو إذًا ، يتقمص بعضًا من شخصية صانعه ومبدعه، وهكذا هو نص أبي العلاء الذي عاش قناعات دينية حررته من التعصب والتزمت، وأقصته عن الاعتقاد بالقشور والاهتمام بالظواهر، لأنّ الدين ، في رأيه، جوهر يقوم على حقائق ثابتة  لاتناقض فيها، ولذلك لم يجد  حرجًا في الاطلاع على التعاليم الدينية اليهودية والمسيحية، ولم يتنكر، في الوقت عينه، لموروثه الديني الاسلامي، بل تمتع بثقافته اسلاميّة شاملة سمحت له أن يحكم على أهل الصفا بالتقدير وعلى الكثير من رجال الصوفيّة بالكذب، فأنطق نصوصه بما آمن واعتقد.
اتسمت شخصية أبي العلاء بالتعالي على المصائب والمصاعب، وبرفض سكونية المقدس ، رائده في ذلك فعل الطموح والتمرد والصدق والوعي والفكر الفلسفيّ الذي أكسبه قوة الحجة والمنطق، فكذّب بفكره المنطقيّ الظنون، وجعل العقل إمامًا يهدي إلى الشك والسؤال والمعرفة ويحرّض على تكريس الفعل الايمانيّ المنبثق من وعي تام سلطةً غير قمعية ، كونها تمارس وجودها قناعات قابلة للشك في معطيلت غير منطقية، فلا تتحرج من طرح عدد من قضايا تفرض علاقات جدلية  بين ظاهر منكشف وباطن مستتر لا يتبدى إلا أمام نور العقل.
وسمت كتابات أبي العلاء بشخصيته، فجاء كتابه" رسالة الغفران" تجسيدًا دلاليًّا  لحقيقة مواقفه من  المعتقدات و من رجال الدين ومن أهل الصوفية، وأصحاب الفكر و الأدب واللغة والفلسفة ، فجعل من الغيب المحسوس، غير الملموس،حيزًا زمانيًّا/ مكانيًّا تمنحه الألفاظ وجودًا بالقوة وبالفعل حيث خطّت أفكار أبي العلاء مسارات لقضايا أدبية ولغوية وفقهية ودينية، منحها  صوت الناطق/ ابن القارح هويتها وفضاءها الدلالي المرمز، فباح المنطوق اللفظيّ  بالمصرح به والمسكوت عنه.
 ساق أبو العلاء آراءه في رسالة الغفران بأسلوب سردي قوامه شخصيات تتحاور في أمكنة وأزمنة مختلفة، تتلاقى في لحظة الخلق الفني في زمن تسريدي  محصور في أحاديتين؛ مكانيّة وزمانيّة، فجاء زمن الحكي مفردًا في ظاهره" يوم القيامة"، ولكنّه كان منطويًا على جمع من أزمنة تشكّلت في مركزية لحظة الحكي.وكذلك اتسعت نقطة المكان الأحادية" المحشر"؛ لتشمل جمعًا من أمكنة توحّدت في حضور الغيب وسلطته، فصار للشخصيات حضوران، حضور تخييليّ يفرضه الراوي، وحضور سديميّ يفرضه فعل الغياب.
لعب التخييل دورًا رئيسًا في تشكيل الخطاب السرديّ، إذ أوجد بتمثلات لفظية أحداثًا لا واقعية، استطاع أبو العلاء بخياله وتخيله أن يجعلها وسطًا مشحونًا بالرموز والدلالات والايحاءات،  التي يقبض على بعضها بفضل  تأويل الصور اللسانيّة المُنتَجة بواسطة اللغة ، والمكتسبة وجودها وهويتها وأنساقها  من شخصية خالقها ومرسلها الناطق بلسان راوٍ جعله في لحظة الخلق موازيًا له في القيمة المعرفيّة، وهو ابن القارح.
اتسمت شخصية الراوي بقوة التخييل التي أسهمت في تكثيف وظيفة الخلق الفني المتجسد في ظاهر العمل السردي، وفي عناصره البيولوجية التكوينية وإشاراته الدلالية، وفي أنساقه اللغوية الملتزمة، في ظاهر السرد، بالأعراف والتقاليد، فلم تخلُ من دقة الوصف المشحون بشتى أنواع الصور البلاغية، ليكون لكلامه ظاهر وباطن، ظاهر يجد فيه المتلقي القاصدُ المتعةَ ضالته، ويقبض، أيضًا، المتلقي الباحث عن الحقائق على بعض ما يسعى إليه.
بدأ الكلام في رسالة الغفران على الجبر والقوة واعترافًا بعظيم قدرة ابن القارح الفكرية التي تستحق إجابة تليق بما جاء في رسالته، فكان الجواب على من تمايز بالثقافة والمعرفة كلامًا موسومًا بخبرة صاحبه وبمقامه الثقافي وبمعرفته الدينية، فكانت مقدمة التسريد بابًا يلج منه إلى حجرات البنيات السردية التي انفتحت على مقامات سردية كثيرة منها  الجنة و النار، ليأتي الكلام على أصحاب الجنة وأصحاب النار نتاج معرفة يقينية يقبض عليها المتكلم/ الراوي المتقمص شخصية المؤلف، هذه الشخصية التي تستخدم التصريح والتلميح من أجل  التعريف  بثقافتها اللغوية والدينية والتراثية، لتكون مستحقة رتبة معرفية تساعدها في  الاحنكام إلى معطى عقليّ يمنحها صلاحية الفرز والإلغاء، أي إلغاء قداسة بعض الأعراف السائدة، ووضع بدائل تدعم أحقيتَها الحجةُ المنطقيّة.
ينتقل أبو العلاء بعد المقدمة إلى الاعلان عن وصول الرسالة  " التي بحرها بالحكم مسجور، ومن قرأها لا شك مأجور" ( رسالة الغفران ص 60)، فلاقت في نفس أبي العلاء  التقدير والاعجاب" عجبت من اتساق عقودها" ، وهي لأبي القارح عمل صالح يدخل به الجنة  وينجيه من لهب النار،" لأنّ الكلمة الطيبة تعرّج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكشف سجوف الظلماء". ودليله على ذلك ما جاء في سورة ابراهيم عليه السلام:" إليه يصعد الكَلِم الطيّب والعمل الصالح يرفعه" -"ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيّبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها"، فعكست مقدمة الرسالة  مقدرة أبي العلاء اللغوية وثقافته التراثية ونظرته الفلسفية بأسلوب متماسك محكم فيه الكثير من التمويه والتضليل، والإشارات المرمزة التي بعث بها إلى ابن القارح قبل أن يعلن وصول الرسالة وإعجابه بها.
يتخذ أبو العلاء من الآية الكريمة مدخلاً ليسرد روايات تتناول كؤوس العسجد والأباريق، ثم يقوم بعملية ارتدادية تؤكد على قدراته اللغوية والنحوية ، ومن أمثلة ذلك ورود كلمة إبريق في سياقات متنوعة، لتكون هذه اللفظة معبرًا إلى الكلام على الأنهار، والطيور السابحة، والعسل المصفى والنحل، وكلّ ما أورده إشارات إلى الجنة التي وعِد بها المؤمنون، فانتقل من التلميح إلى التصريح، ليتكلم على النحويين واللغويين وعلى آرائهم في بعض الألفاظ الدالة على محل الجنة بذكر ما يحل فيها، فكان هذا السرد عتبة يلج منها إلى الجنة ،ومن ثم إلى النار، ليظهر آراءه ومعتقداته في الأسباب الموجبة دخول الجنة أو النار، وليستطرد في أحاديث وأخبار تعكس حقيقة مواقفه غير المُصرَح بها.
خصّ أبو العلاء في كلامه على أهل الجنةا للغويين بالحديث ، فكانت لهم منزلة مستقلة عن الشعراء وغيرهم، وهذا التقديم إشارة إلى أمرين؛ أولهما يختص بأبي العلاء ويعكس موقفه من العقل وأهل المنطق، لأنّ العاملين في الحقل النحوي تمايزوا باستخدام مقومات المنطق من استقراء واستنباط ووضع فرضيات وبدهيات ومسلمات، ومن استخدم العقل، في رأي أبي العلاء، فهو يستحق الرتبة العليا لأنّه بالعقل يتوب عن المعاصي، أما الأمر الثاني فهو منهجيّ، لأنّ الكلام على اللغويين سيؤدي إلى الكلام على الشعراء إذ لا وجود لموادّ التجربة العلميّة اللغويّة من دون كلام الشعراء،  ولذلك تذاكر النحاة الأعشى وهم يتقاذفون الآنية في أنهار الرحيق، فجعل من تمنياتهم مفتاحًا يلج به ليقوم بنزهة في الجنة على غير نهج، فيرى الأعشى و"زهير بن أبي سلمى "و"عبيد بن الأبرص" و"عدي بن زيد" و"أبو ذؤيب الهذلي" و"النابغة الذبيانيّ" و"النابغة الجعديّ" و"لبيد بن ربيعة "، و"عوران قيس" وغيرهم، ليأتي كلامه على "حديث الدينونة" ثمرة حوار  مع رضوان وزفر وحمزة بن عبد المطلب وأبي علي الفارسي والامام علي وفاطمة الزهراء والرسول، فيضمن له الحديث  شفاعة تدخله الجنة. وربما قدّم أبو العلاء النزهة على طلب الشفاعة لتكون الجنة خيارًا يسعى إليه ويجهد النفس في طلبه.
لم يتوقف أبو العلاء في سرد الأخبار وابتكار القصص على أهل الجنة بل تكلّم على أهل الناروعلى أشعار الجن وأهل الأرض وعلى معتقدات في الحلولية والتناسخ ورجال الصوفية. فأفاض خياله في دقة الوصف وتجسيد الشخصيات وإنطاقها بالمعلوم والمجهول، والحقائق غير القابلة للنقض وذلك باسلوب براغماتي قوامه الحجاج البرهاني المدعم بدقة الوصف والتمثيل، في جدلية علائقية تربط بين المؤلف والمتكلم، غايته أن يتوافق المتكلم الذي أنطقه، والمتلقي الذي يخاطبه عند قصدية يقينية آمن بها.
جعل أبو العلاء من المتكلم شخصية محوريّة تشارك في تحريك الأحداث وتوظيف المفاهيم الدينية وكشف خبايا النفس البشرية، وفض أسرارها، بوصفها شخصية مثقفة واثقة من نفسها،وهذه الشخصية المحورية أكثر ما يميزها تفكيرها الممنهج المنظم، وصدقها، فهي تسرد الأخبار بدقة العارف العالم تفاصيل الأمور والواقائع، فلم يختلق الراوي الشحصيات، فهي موجودة في الموروث الديني والثقافي، ولكنّه نسب إليها أحداثًا ومهمات محسوسة صاغها بتخييل غيبيّ مشحون بالمقاصد والغايات.
وفق هذه المعطيات تتجلى علاقة المؤلف والمتكلم علاقة تطابق، فهما ، لحظة الكتابة، وجهان لحقيقة واحدة تضمرها بنيات سردية، قوامها وصف وحوار وأبطال وأحداث واستطرادات وعقدة وحل وأزمنة وأمكنة تمنح العمل السردي مصداقية مؤسسة على حقائق يوظفها الخيال في التعبير عن أحاسيس المتكلم ورؤاه، كونه خيالاً مدعمًا بمقومات الحجاج المنطقيّ، وبمواقف تجّسد آراء أبي العلاء وعلاقته بالفكر الديني والثقافي والمعتقدي والأدبيّ، فكانت شخصية ابن القارح ذاتًا مستنسخة أنطقها  المؤلف بما ترغب في قوله ذاتٌ كليّة توحّدت في لحظة من لحظات تجلياتها الإبداعيّة، ، أي لحظة يتلاشى الصراع بين ذاتين؛ ذات مادية تدرك ظواهر ما حولها وترغب في التماهي به،  وأخرى عرفانية تدرك مدلولات ما حولها فتمارس سلطة توجيه ورقابة، ولكنهما لحظة يتم  عقد قران عرفيّ  بينهما يكون اللقاء على غير مثال، و تكون ثمرته خلقًا جديدًا هوبعض من روح المبدع وليست كليتها، وبالتالي فإنّ الرواي/ المتكلم هو  ظل من ظلال الكاتب عينه ولكنّه ليس أنله الكليه المطلقة.
بهذه الرؤيا يجوز القول إن المؤلف والراوي، في رسالة الغفران، جاء اتحادهما شبه تام، فابن القارح يتقمص شخصية أبي العلاء في معظم الأخبار التي ساقها، سواء أكان ذلك في الأسلوب أم الغايات والمقاصد. ومنها:
أ_ تجليات الأسلوب
_عكس محتوى الرسالة من حيث البنية الظاهرة مقدرة أبي العلاء الأدبية في صياغة نوعي الكلام؛ الشعر والنثر.
_وضع أبو العلاء في كتابه رسالة الغفران استراتيجية حجاجية برهانية غايتها توظيف الخيال في تثبيت قصديتة التي تبنت الإفصاح عن مقصد محسوس بكلام محدد، فقرنها بأفعال يتجه فيها العقل نحو الموضوع ليدركه، وذلك بنقله من حيز الواقع التخييلي إلى حيز التفكير والاحتكام، معينه في ذلك استخدام الفرضيات والمعطيات ومبدأ الثالث المرفوع والأدلة البرهانيّة الدينية واليقينية  المستمدة من القرآن الكريم.
-استخدم أبو العلاء في الحوار السرديّ  منهجًا براغماتيًا يعينه على الاقناع، فكان يضع الفرضية ويبرهن على صحتها، أو ينقضها،ومن القضايا التي أضفى عليها قناعاته قضية شغلت، ولما تزل، أذهان المسلمين وهي قضية حكم من عصى قبل أن يهتدي قلبه بالاسلام، فيرى أبو العلاء أن للعقل منزلة ترحم صاحبه المتنور من النار وبخاصة الشعراء الذين نطقوا بالحساب قبل معرفة الإسلام، وهؤلاء لم يحرموا من لذة خمر الجنة إذ لا حجة عليهم، وبهذه الحجة كان زهير من أهل الجنة وممن حظوا بلذة خمر الجنة، على عكس  الأعشى الذي دخل الجنة بشفاعة من الإمام علي لأنّه مدح الرسول في الدنيا  وشهد بنبوته، ولكن صدته الخمر عن اتباع مبادئ الاسلام " فأدخل الجنة وحرمت عليه الخمر لأن" من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة ، لم يُسقها في الآخرة" (77) . ولم يكتفِ بنقل تصوراته، بل دعّمها بالبرهان والحجة الفلسفية على لسان زهير إذ يقول: " إن أخا بكر أدرك محمدًا فوجبت عليه الحجة، لأنّه بُعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجة عليّ" ( 79).
_سخّر أبو العلاء فكره المنطقيّ ليكرس أفكاره حكمًا غير قابلة للنقض، فساق من خلال الشعر حكمًا رغب في الاضاءة على مدلولاتها، نحو" من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب"، ليؤكد أنّ الكرامة توجب على الإنسان عدم إراقة ماء وجهه إلا أمام الخالق، وهذه من المسلمات التي تمسّك بها أبو العلاء وعاشها ومارسها في حياتها.
_وضع شروطًا للكتابة الإبداعيّة، لتكون معيارًا تقاس عليه قيمة الشعر، وكانت الشروط لغويةً ونحويةً وصرفية وبلاغية وعروضية دعّم بها آراءه النقدية كقوله" لا يمكن أن يكون روي هذا البيت ألفًا؛ لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الروي ههنا ساكن، فلا يجوز ذلك"( ص66) فوضع بأسلوب سردي محكم معايير لجودة الشعر، وهذا المثال يظهر ثقافة أبي العلاء الشعرية وقدرته على توظيفها في الوصول إلى المقاصد بالتلميح من دون تصريح، ولقد أوردت كتب الأدب  ما قاله لمنتقدي المتنبي؛ يكفي المتنبي فخرًا أنّه قال:" لك يا منازل في القلوب منازل" ،وكانت غايته الوصول إلى بيت من القصيدة يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص          فهي الشهادة لي بأني كامل.
_ توظيف الوصف في إبراز علمية التخييل ليكون حكمه على ما يقول غير محصور في أفكار ومفاهيم داخل عقله، بل مستمدة من ظواهر ومعطيات  حدّدت كينونة الأشياء وماهياتها، فكان وصفه للجنة دعوة  إلى العمل الصالح، وذلك  بأسلوب قائم على التشويق ودقة التصوير، فرسمها بالكلمات كما تخيلها وبدت له في حضرة الشطح الصوفي الداخليّ، فألغت قصديته التقسيم التقليدي ما بين الواقع الخارجيّ المستمد من موروثه الدينيّ، والشعور الذاتي، مؤكدًا   أنّ الشعور هو الذي يقصد الأشياء دائمًا، ويعطيها ويمنح ماهياتها صفات يقبلها العقل، ويستدل بها عليها، فالأباريق موجودة على أنهار الجنة" وفي تلك الجنة أوان على هيئة الطير السابحة ، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صورة الكراكي، وأُخر تشاكل المكاكي، وعلى خلق طواويس وبط، فبعض في الجارية وبعض في الشط، ينبع من أفواهها شراب، كأنه من الرقة سراب ..." (64)  فأظهر الأشياء كما رسمها شعور داخلي ألغى المسافة بين عالم الأرض وعالم الغيب، معينه في كل ما رسمه  معارف وحقائق  استمدها من القرآن الكريم، فجاء وصفه مطرزًا بأبدع ما ينسجه الخيال من صور.
ب- تجليات المقاصد والغايات
للمتكلم حضور بارز في حكايا رسالة الغفران، فهو ينقل ما يراه أبو العلاء بعين اليقين التخييلية،  وما يسمعه من أفكار جريئة غايتها تكريس الإيمان فعلاً إبداعيًّا يحرّر صاحبه من سكونية التلقي، ويحرّضه على الشك والسؤال والمعرفة التي تجلت في مواقف كثيرة منها:
- يرفض المؤلف/ الراوي حصر الخلاص بالمسلم فعدي بن زيد مسيحي وهو من أهل الجنة، لأنّه كان " على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه"
-يؤمن المتكلم / الراوي بأن الانسان مخير وليس مسيّرًا، شريطة أن يستعين المرء بإرادته، " أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء. فيقتصر ذلك على الارادة" ( 137)، وهذا مبدأ من مبادئ المعتزلة التي أعجب بها أبو العلاء.
_ التحريض على الإبداع؛ كونه طريقًا إلى الجنة، فوضع معيارًا لتصنيف الشعر والشعراء، ورأى أنّ للكلمة المبدعة دورًا في الدنيا والآخرة، ومن سماتها الأصلُ الثابت المؤسس لفروع تعلو بالثمار. والإبداع، في رأيه، إضافة معرفيةوخاصية نجاة، شريطة ألا يتناقض والقيم الدينية، التي نقضها بشار، فكان نصيبه النار في بيتين قالهما:
أبليس أفضل من أبيكم آدم       فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة          والطين لا يسمو سمو النار( 150)
-  رفض التقليد، والتمسك بالصدق والأمانة،والدعوة إلىالتجديد؛ فالحطيئة شفع له قول الصدق  ولم يشفع له بيت تردده الأجيال:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه                لا يذهب العرف بين الله والناس
لأنّ هذا القول كان قد  سبقه إلى  معناه الصالحون، فنظمه ولم يعمل به،وبالتالي لم يكن هذا البيت ليشير إلى قدرته على الخلق والإبداع. ( الرسالة 148).
- التركيز على طبائع أبناء البشر الذين ينهون عن المعاصي ويرتكبونها، فانتصر عليهم ابليس بضعف إرادتهم، فكانت حجته عليهم أقوى من معتقداتهم التي تقول بلعن ابليس، فيجيبهم ردًا على ما سمعه من شتم ولعن" ألم تنهوا عن الشمات يا بني آدم؟ ولكنكم بحمد الله، ما زجرتم عن شيء إلا وركبتموه" ( 174)، وهذا الاحساس عاشه أبو العلاء وعبّر عنه في مواضع كثيرة.
-الإصرار على نعت البشر بالكذب والمرواغة، والتقرب من أهل الشأن بالمديح، وذلك في أكثر من موقف، منها ما جاء على لسان  آدم عندما نسب إليه ابن القارح شعرًا ليس له، إذ قال: " أبيتم إلا عقوقًا وأذية، إنما كنت أتكلم بالعربية و أنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض نقل لساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردّني الله، سبحانه وتعالى، إلى الجنة، عادت علي العربيّة، فأي حين نظمت الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ ...أعزز علي بكم معشر أُبينيّ! إنكم في الضلالة متهوّكون! آليت ما نطقت هذا النظم، ولا نطق في عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله ! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك إلى الأرض"( 181_ 182)
-رفض البدع الدينية، والخرافات التي تتناقلها العامة وتؤثر على عقول الأجيال" أفلا يرى مولاي الشيخ إلى ما رمى به هذا البشر من سوء التمييز، وتحيزهم إلى ما يمتنع من التخيير؟" ( ص 236)
-دخول الجنة غير مشروط بأصحاب الأعمال  المحمودة.  ومن صفات أهل الجنة الذكاء، لا يخالطهم الأغبياء، فهم لماحون يفهمون الإشارات من دون بوح، ولذلك لم ينتظر عبيد الله الأبرص سؤال ابن القارح بل كان هو المبادر" لعلك تريد أن تسألني بم غُفر لي". وكان دخوله الجنة في بيت واحد حكمي " من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب". فأراد أبو العلاء أن يكرّس أفكاره حقائق يقبلها العقل، فرب حسنة واحدة تمحو السيئات، ولكن هل يُعقل أن يغفر الله ويرحم عباده نتيجة عمل واحد أو قول واحد؟ هذه إحدى الاشكاليات التي رغب في طرحها، منطلقه في ذلك القرآن الكريم.
- احتفاظ أهل الجنة بطائعهم الانسانيّة، فهم متمسكون بعاداتهم وتقايدهم التي تجلت في خطابه " مأدبة في الجنة، إذ جمع فيها" من أمكن من شعراء الخضرمة والاسلام ، والذين أصّلوا كلام العرب، وجعلوه محفوظًا في الكتب، وغيرهم ممن يتأنس بقليل من الأدب. فيخطر له أن تكون كمآدب الدار العاجلة، إذ كان البارئ، جلّت عظمته، لا يعجزه أن يأتيهم بجميع الأغراض، من غير كلفة ولا إبطاء، فتنشأ أرحاء على الكوثر، تجعجع لطحن بر من بر الجنة" ( ص ا26)
- احترام التراتبية  والنظام الوظيفيّ، فحمزة بن عبد المطلب لم يطلب الشفاعة من الرسول بل أرسل ابن القارح إلى علي ليشفع له، ورضوان يحصر مهمته بما أوكل إليه.
تعكس هذه التجليات القصدية وغيرها أفكار أبي العلاء وحقيقة أحاسيسه بالنسبة إلى المعتقدات والسلوكيات وعلاقة الانسان بنفسه والآخر وبالكون والخالق، فكان ابن القارح إحدى ذوات أبي العلاء التي توافقت معها في معظم المواقف، ولكن لم يكن التوافق تامًا، إذ تمايزا من خلال عملية السرد، وذلك من حيث الحضور، فكان لأبي العلاء حضور محسوس يمارسه من خلال  الغياب، وكان لابن القارح حضور مكثف مجسد في وظيفة المتكلم القابض على تنشيط الأحداث وتحريك الشخصيات، فأنطق أبو العلاء ظله / ابن القارح بما يرغب في قوله، وبما تأمر به النفس البشرية التي يقمع رغباتها أبو العلاء، فكان صوت ابن القارح ، في بعض المواقف، صدى لذات مكبوتة مبرمجة بإرادة إبي العلاء.
 تشير القراءة التأويلية لفاتحتي الرسالتين، رسالة ابن القارح، ورسالة أبي العلاء، إلى أن الذات المستنسخة التي  بدأت خطابها بعبارة : "استفتاحًا باسمه، واستنتاجًا ببركته" كانت تنطق بما ترغب فيه  ذات كلية أجازت لنفسها حذف العامل لعلمها به، ولكنها أخضعت نفسها لحظة الإجابة لحذف واجب فرضه أسلوب النداء الذي أضمر دعوة تقرب بها المتكلم/ المؤلف إلى الخالق ليكون الكلام اللاحق  المشحون بالترميز مشفوعًا بتيسير الله وعونه، أللهم يسر وأعن" ؛ فكان لذات الراوي / المتكلم  وجود متكامل في كلا الرسالتين، لأن فاتحتيهما انطوتا على الأسلوب عينه، ولكن تمايز الحذف بين الجواز والوجوب، وهذا ما يقوم عليه الفكر الاسلامي، من جائز وواجب وتحريم أراد أبو العلاء توضيح الأسباب الموجبة والحجج التي بها ينقاد المرء إلى مصيره يوم الدينونة. فلم تبدأ الرسالتان ببسملة أو بحمدلة بل بفاتحتين تمايزتا بقدر ما تكاملتا.
تقمص أبو العلاء شخصية الراوي ابن القارح فصارا شخصًا واحدًا، وتجلت الصورة المرئية مفردة، لأنّ المفرد أسبق على المثنى والجمع، وبالواحد تسهل عملية التخييل والتسلل إلى بواطن الحقائق وكشفها، فكان الرواي الفرد/ المثنى ينقل الصور ويخبر عن أمكنة لا تحصى  احتضنتها ظروف زمنية غير محدودة وغير منتهية، منحت الأمكنة هوية وجود ومن ثم أكسبتها الحضور في بيئة لها خصائصها المعرفية والثقافية والدينية والاجتماعية، فكان الراوي (المفرد/ المثنى) صامتًا ناطقًا؛ هو الصامت في أثواب شخصية أبي العلاء المراقب والقابض على الحقائق، وهو الناطق في شخصية ابن القارح المفصح عن وجوده بالقوة وبالفعل فنطقت ذات أبي العلاء المتكلمة بآراء دينية ونقدية واجتماعية، ورسمت معالم نفسية وحضارية، فكان ابن القارح الشخصية المحورية التي تحرك وتستقطب الشخصيات الرئيسة وتحثها على الكلام واتخاذ المواقف، فهو الموازي والمساوي والمطابق لأبي العلاء في زمن الخلق الفني .
ثالثًا: فيزيائية المسارات السردية بين التخييل الغيبي والتنميط القصدي
استنادًا إلى ما تقدّم نستطيع أن نقرأ فيزيائية  المسارات السردية التي منحت رسالة الغفران حركية دائمة لا تنتهي، لأنها مسارات مشحونة بدلالات وإشارات قوامها لغة سردية تهدف إلى إظهار الأشياء على حقيقتها، فالظواهر هي مقياس كينونة الأشياء و ماهيتها، وبالسعي إلى كشفها يصير الشك محرّضًا على استجلاء الحقائق.
 وظّف أبو العلاء الشك والسؤال من أجل الوصول إلى معارف تجعل من الفعل الشعوري مدركًا حسيًّا، ولما كانت علاقة المرء بالغيب علاقة ثابتة، يخضع معها شعور المؤمن لسلطة المقدس، فلقد حاول أبو العلاء زعزعة سكونية الفكر الصنمي، وقام بتوظيف المعرفة العقلية الذاتية من أجل بلوع مقاصد وغايات تبدت لعقله، فاخترق بإحساسه ومعارفه فضاء الغيب وقدسيته وطرح إشكاليات فلسفية ودينية واجتماعية وأدبية، ربما كان القصد منها  تكريس  آرائه حقائق في فكر المتلقي، وبخاصة أن الرسالة تقوم على منهج حجاجي منطقي يفضي إلى الاقناع والتبني.
حاول أبو العلاء تعزيز الرأي في أن الشعور هو الذي يقصد الأشياء، بفضل عقل غير منغلق، عقل يلغي الذاتية ويوحّد بين عالمي الداخل والخارج، ليصير العقل والعالم متلازمين، غير متناقضين، وبهذا التلازم صار للغيب المحسوس وجود يقينيّ في رسالة الغفران، غايته تصويب العلاقة بين الإنسان ونفسه ، من جهة، وبين الإنسان وخالقه من جهة ثانية، فتتحول العلاقة من الخوف والتخويف، ومن الجهل والتجهيل إلى علاقة معرفية يكون العقل فيها هو الحكم، وإليه يرجع الاحتكام.
 توحي رسالة الغفران من حيث ظاهر البنية بأنها بنية تفكيكية كونها تجمع بين الحضور والغياب، وبين أهل الأرض وأهل الجنة والنار، وبين مشارب متنوعة، ولكنّها في باطن قصديتها تتسم بالانتظام كونها تمثل فعل الراوي المتوسل بالفن التأثير في المتلقي وتكريس قناعاته حقائق لا تقبل النقض، وذلك من خلال ما توحي به البنية العميقة للنصوص جميعها.
تقوم البنية السطحية على عدد لا متناه من المسارات السردية، حيث تتنوع القضايا والشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، فتتعدد الأصوات والموضوعات من اجتماعية وأدبية ودينية ولغوية وصوفية وتاريخية وصوفية ووهميّة، وغيرها من الموضوعات التي رسمتها البنية السردية الظاهرة حيث تحّركت الشخوص في مسارات  خضعت في تشكلاتها لسلطة ابن القارح الذي وزّع االأدوار ومسرحها  وفق مستويات فرضتها قناعات المؤلف/ المتكلم.
جاءت علاقة الراوي بمعظم الشخصيات علاقة حوارية لا تنازع فيها على المواقع، لأنّ الحضور المكاني والزماني لبعض الشخصيات ثابت من حيث وجودها التاريخي والديني، بالاضافة إلى وجود شخصيات وهمية تتبنى الفكر الشعبي الخرافي المتداول، فأطّر استحضار الشخصيات في ثلاثة مستويات هي:
أ-مستوى الشخصيلت الحقيقية  التي تتمتع بوجود ثابت من حيث القيمة الدينية؛ نحو: آدم _ الرسول_ علي بن أبي طالب_ فاطمة الزهراء_ رضوان.
ب- مستوى الشخصيات الحقيقية التي لها وجود ثابت  من حيث القيمة التأريخية للفكر واللغة والأدب والفقه، نحو؛ الأعشى_ بشلر_ المتنبي_ الحجاج.
ج- مستوى الأشخاص الهامشيي الحضور، لأنّ وجودهم محصور في حيز التداول الشعبي، وليس نتاج معطيات عقلية تؤكد حقيقة الوجود، فأشار إلى وجودهم من خلال الكلام على معتقداتهم.
تظهر هذه المستويات أنّ المؤلف حاول، في كل ما رسم من مسارات لأبطاله، أن يوفق بين الثوابت الدينية ودور العقل في تحديد طبقات المجتمعات الإنسانية التي ستحافظ على مواقعها في عالم الغيب، فقسّم أبناء البشر من حيث علاقتهم بالعقل إلى:
أ-فئة تتبنى العقل إمامًا، وبه تنجو من المعصية.
ب-فئة غبية لا علاقة لها  بالعقل ، لأنّها استغنت عن دورها في فهم  الظواهر والمرئيات، ولم تدرك جوهر العلاقة بين الخالق والمخلوق، لأنها أبطلت فاعلية العقل في نقض الحقائق المرئية ، فالحلاج له مريدون والتناسخ له أصحابه، وفي كلا الأمرين لا حقائق يقينية يقيلها العقل، على الرغم  تواتر أخبار عن مشاهد ينقلها الرواة.
تطورت استراتيجية الحركة في سرديات أبي العلاء من التلميح إلى التصريح، وذلك من خلال تأثير الأصوات المبثوثة داخل النص، فاتسع الحوار الشكلي والتمثيلي، وعكست حركية الأبطال مسوّغات التواصل الإنسانيّ والترابط المنطقي بين الأحداث ونتائجها،  من دون أن تسعى الشخصية إلى تغيير واقعها الذي تخيله الراوي ، فألغى دور البطل في خلق النظام الاجتماعيّ، وتحديد سمات كينونته المستقلية، لأنّ الراوي يقبض على آلية تحديد هوية المسارات وفق ما تبناه من منظورات نفسية واجتماعية وإيديولوجية.
ابتكر أبو العلاء وظائف دلالية لأزمنة و أمكنة تتصف بالثيات فمنح الثبات طاقة حركية حررته من قيد الموروث ، فأخبر ووصف ونظم الأحداث  التي بدت مبعثرة فجعل النظام تاليًا الفوضى، وهذا قانون رياضي!ّ علميّ منطقيّ، فجاء الخطاب السردي مشحونًا بـ:
أولاً: على مستوى الدلالة
-تنوع الأخبار والمقاصد.
-تأكيد التباين والتفاوت بين المخلوقات في الأرض والسماء، و تعدد لغاتهم.
- الإيمان بوجود الجن في الأرض والسماء واتصافهم بالذكاء والتمايز؛" إنا أهل ذكاء وفطن، ولا بد لأحدنا أن يكون عارفًا بجميع الألسن الاإنسية، ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنيس" ( 142)
-التركيز على دور الإبداع.
-تحريض العقل على طرح الإشكاليات، وربما كان كلامه على لسان ابليس هادفًا إلى  طرح إشكالية شرب الخمر في الجنة فقال" إن الخمر حُرمت عليكم في الدنيا وأحلت في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالوالدان المخلدين فعل أهل القريات؟ فكان الجواب لعنًا" عليك البهلة"(ص150)، ولم يقدم أبو العلاء رأيًا يوضح موقفه، وترك القضية مفتوحة على عدد من التأويلات.
-التركيز على  قيم سلوكية ومعرفية وخلقية ودينية وأضمرت طقوسًا  وعقائد ومفاهيم  أخضعها للقبول والشك والرفض.
بهذه المعطيات نستطيع القول إنّ رسالة الغفران جسدت ، على مستوى الدلالة، الرؤيا الفلسفية و الدينية والعقائدية والمنطقية التي تمايز بها أبو العلاء المعري.


ثانيًا: على مستوى الخلق الفنيّ
        أ_-تضمنت رسالة الغفران عناصر السرد وفق  ماهو متعارف عليه في فضاء النقد السرديّ، فإذا تناولنا على سبيل المثال خطابه "حديث الدينونة، لعثرنا على عناصر العمل السردي كلّها، وهي:
1-الشخصيات: لم يتدخل الراوي في إلباس الشخصيات الرئيسة أقنعة ليست لها لأنّها شخصيات معروفة، فلم يبتكرها، فهي تمثل ثوابت دينية أو ثقافية أو تاريخية، وهذه الشخصيات هي:
-ابن القارح =البطل والشخصية المحورية
-الخازن رضوان=شخصية ثابتة
-الخازن زفر=شخصية ثابتة
-الامام علي =شخصية فاعلة في تحريك الأحداث
-فاطمة الزهراء=شخصية أساس ضاعف وجودها في تحويل المحسوس إلى فعل قصدي يعبر عنه بالكلام، فالزهراء لها حضور متمايز مؤسس على عرف أخلاقي وديني، وزيارتها لوالدها تتم في أوقات معينة، وهذه الزيارة لها طقسها الذي يفرض على أهل الجنة احترامه والتعامل معه وفق أعراف محددة.
-النبي محمد=شخصية ثابتة، ولها وحدها حق الشفاعة.
2-المكان=أرض المحشر
3= الزمان=يوم القيامة
4-العقدة=رجاء ابن القارح أن يدخل الجنة وفقدان
5-الحل= شفاعة الرسول
6       تطور الأحداث
ينقل أبو العلاء تخيلاته في رحلة خرافية جعل بطلها ابن القارح بعد أن يبعث من الموت ويصعد للحساب، وعندما يعطى كتاب أعماله يجد أن حسناته قليلة، ولكن في آخر الكتاب يجد صك التوبة، وفي أثناء انشغاله بحضرة أبي علي الفارسي اللغويّ، يغفل عن صك التوبة، فأضاعه، و تدفع به الرغبة في دخول الجنة إلى البحث عن شفيع، فيلتقي الملائكة ويتقرب منهم عن طريق الشعر،الذي كان أسلوب المداحين في الأرض لينالوا العطايا والهبات، ولما كان مجتع أهل الجنة مترفعًا عن جشع النفس البشرية، فلم ينل مبتغاه بالتقرب من رضوان وزفر، وعندما وصل به المقام إلى حضرة الرسول الموكل إليه قراءة كتاب الحسنات والسيئات، يجد أن أعماله قد ختمت بالتوبة فيشفع له.
ب-تنوّع الأصوات ووظائفها.
ج-تثبيت سلطة المتكلم في تحريك الأحداث ومسرحتها، كونها خطابًا موجهًا من مبدع تمايز بطاقة تخييلية هادفة .
د-إيهام المتلقي بغياب سلطة المؤلف.
ه-حضور مكثف للثقافة الاسلامية والفعل الثقافيّ العربيّ.
و-تطريز السرد بالوصف الدقيق المتسم بخصائص جماليّة وبلاغيّة.
ز-توظيف الاستطراد في تثبيت الحجج والمقاصد.
تظهر البنى السطحية بأنساقها  النحويّة  والأسلوبيّة و التقنيّة ، والبنى العميقة  بتجلياتها الدلالية وجود  ترابط بين الأحداث والراوي/ المتكلم، فيخلق هذا الترابط مسارات سردية حققت وظائف الراوي السرديّة التي حددها جينيت  وهي؛ الوظيفة السردية، والوظيفة المباشرة، والوظيفة التواصلية، والوظيفة التعبيرية والوظيفة الايديولوجية، فأضمرت المسارات عددًا لا متناهيًا من الآراء والأفكار التي آمن بها أبو العلاء والتي لم يؤمن بها، كموقفه من الجن والملائكة والبعث والنفس والأفلاك والجبرية والزمان والمكان والاجتماع والقضاء والأخلاق و التناسخ وأهل الصوفية، وغيرها من القضايا التي  ترك الاحتكام فيها لسلطة  العقل.
انبنت رسالة الغفران على  أحداث تخييلية، قوامها حقائق دينية ومعرفية، فارتسمت في صور لفظية باحت بمكنونات الشخوص ورسمت إطارًا عامًا لها، فلم تكن  علاقة الراوي بشخوصه من وجهة نظر عليا، ولم يكن هو خالقها، فهي موجودة بالقوة والفعل في الموروث الديني والتاريخي والثقافيّ، ولكن الراوي استطاع استحضارها ومحاورتها وإبراز طاقاتها فلم يكن الخالق الوهمي بل كان المتخيِّل المبدع الخارج على المقدس الديني ليحرره من صنمية الثبات ويمنحه قيمة  وجود  تحددها حركية  تنبض بالقبول والرفض، فترسم  مسارات متباينة ممهورة بتفكير الراوي المفرد/ المثنى.
اتسم الخطاب السردي في كتاب أبي العلاء بتحولات دلالية تشي بالتناقض بين مواقف أبي العلاء الحياتية والراوي الناطق بلسانه، غير أنّ هذا التناقض لم يكن إلا نتاج الجانب المسكوت عنه في أحاسيس ومشاعر أبي العلاء التي لم يبح بها ، فهو الشاعر، وينتقد مهنة الشعر على لسان ابليس، فيقول:" بئس الصناعة! إنها تهب غُفة من العيش، لا يتسع به العيال، وإنها لمزلة بالقدم وكم أهلكت من أمثالك(149)، فهل كان أبو العلاء غير راضٍ عن الشعر إذا اتخذه الشعراء مهنة تكسب؟ وهل تقنع بوجه ابن القارح ليطرح مواضيع لم يكن ليبوح بها؟
أغنى أبو العلاء المعريّ كتابه" رسالة الغفران" بإشارات دينية وأدبية واجتماعية ونفسيّة ومعرفيّة، مافتئت تغري الناقد العربي، وتدعوه إلى الكشف عما انغلقت عليه الأخبار والقصص من قيم معرفية وإنسانيّة كرّسها أبو العلاء في منطوق لغوي سردي أجراه على ألسنة أبطال تنازعتهم رغبات وأهواء وطموحات متباينة، فجاءت لغته اختزالاً لعدد لا متناه من حركية مشحونة بالدلالات والسيمائيات التي تتبنى قصدية أبي العلاء ورؤاه ومعتقداته، وتكشف، في الوقت عينه، عن القيمة الفنية التخييلية لخطابه السرديّ.
خامسًا: بيان البحث
لما كان الخطاب السردي الإبداعيّ موسومًا بخصوصية فنية توحّد بين المرسل والمتلقي في طقس افتراضي رسم كينونته المرسل/ السارد، فإنّ تحقق هذه الخصوصية الفنية،  مشروط بوجود طاقة خلق  قادرة على تحويل التصورات الذهنيّة إلى  واقع ملموس، له إحداثيات تؤكد على وجود زماني ومكاني يحدد إطارهما شخصيات تمنح هذا الوجود الحياة والخصب والامتلاء، وبهما تتم عملية تحويل التصور الذهني من حيّز التخيل والافتراض إلى كينونة لها مزكزيتها وهويتها.
تجسّد رسالة الغفران لأبي العلاء المعري إحدى تجليات الفكر الرافض المتمرد على سكونية العقل العربي، فهي نتاج فعل تخييلي اقترن بشطح فكريّ ، توّحد به أبو  العلاء مع ذاته الأخرى الموازية له معرفيًّا وثقافيًّا، فكان الصامت المحتجب وراء سارد ناطق يبوح بمقاصد وآراء الذات الواعيّة تراثَها وثقافتها وواقعها. فقبض أبو العلاء، في اللحظة عينها، على الغيب والغياب، ليجعل من الغيب واقعًا ملموسًا، ومن الغياب حضورًا ناطقًا فاعلاً، وليمنح خطابه السردي ماهية فنية متمايزة.
استنادا إلى ما تقدم يمكن القول إن أبا العلاء لم يسقط هيولى التصور في مادية تسريد الراوي، بل رفع مادية التسريد إلى هيولى التصور وصاغ أنساقًا لغويّة سرديّة تشي بالتهكم، وتوحي بالحقيقة، وتضمر الرفض،  وتتمظهر بالإيمان، في لوحات فنية متنوعة ومتباينة الدلالة، فجاءت عملية السرد في كتابه " رسالة الغفران" فعلاً توليديًّا تمخض عن مزاوجة ثقافة الميتافيزيقيا، وثقافة الموروث اللغويّ والأدبيّ، والرؤى الفلسفية في مختبر الخلق الفني الخاضع لسلطة العقل المبدع، فكان الخطاب السردي المثال المتمايز بالفرادة الإبداعيّة، وبالعمق الفلسفي، وبالشمولية المعرفيّة، وبفيض من الإشارات والدلالات التي ألبسها أبو العلاء ثمرة صراع عقليّ قوامه جدال ديني/ غيبي وفكري / فلسفيّ.
أ.د.مها خيربك ناصر
أستاذة النحو والصرف والنقد الحديث
أستاذة الدراسات العليا_ الجامعة اللبنانية_ جامعة البلمند




[1] _قُدمت هذه الدراسة في "ملتقى المتكلم في السرد العربي القديم "الذي نظمته وحدة السرديات بكلية الآداب والفنون الانسانية بمنوبة/ تونس يومي 19_20 فيفري.

الأحد، 25 أكتوبر 2015


السياق اللغويّ وفعل المكوّنات
 الصرفيّة والنحويّة

                                                    أ.د. مها خيربك ناصر
                                                                         جامعة البلمند  (لبنان)
أولاً: عتبة البحث
تتمظهر حركة الفكر بلغة تنقل الكمون العقليّ من التخفي إلى التشخصن، ومن المجهول إلى المعلوم، لأنّ الفكر لا يكون بذاته، بل بما يتأثر به من الأحداث والأحوال والمعطيات، فيتجلى الأثر فعلاً حركيًّا، مستقره لغةٌ قادرة على استقبال هيولى الحركة، وتأطير ماهيتها،  وتبني كينونتها، وهذا يفرض على اللغة حركة داخلية تُحرّض على تنمية ذاتها بذاتها ولذاتها، لتبقى قادرة على تبني التصورات الذهنية، وذلك في أنماط تعبيرية تجسّد حركية العقل المدرك ذاته بذاته.
تمتلك اللغة، إذًا، في اللحظة عينها، خاصيتين؛ خاصية سكونية تتبدى في وظيفة استقبالية تجعل منها مستقرًا للأفكار المجردة، وخاصية حركية تتبنى إعادة تشكيل وتنظيم الأفكار في أنساق لغوية قابلة للإرسال والتلقي. وبعمليتي الاستقبال والإرسال تتقاطع وتتمركز خصائص وأسرار النتاج اللغويّ في سياقات تُضمر فعل اللغة الحركيّ الذي يمارس مهماته، غير المحدودة، داخل اللغة.
بهذا المعطى يمكن اعتبار اللغة زمرة مقفلة تنغلق على أسرارها وحيويتها، وتتمتع، في الوقت عينه، بفعل تحريضي يساعدها على التجديد بقدر ما يسمح لها أن تتفرد بحق الإلغاء والتوليد، والتحويل والترميز والإفصاح والإبانة والكشف، في معادلات كلامية تضمن النسبية المنطقية بين نشاط الفكر ونشاط اللغة، وهذه النسبية تؤمنها قوانين تشكيل داخلي ينتجها العقل الإنسانيّ، وتلتزم بها الأنساق اللغويّة، وذلك وفق أسس منطقية توازن بين صورة المُدرَك وحقيقته، وبين الدال والمدلول عليه، وبين اللفظ ومعناه، وبين التصورات الذهنية وأشكالها اللغويّة، وذلك مهما تنوّعت التراكيب، وتعدّدت السياقات وتمايزت تأويلاتها.
يمنح السياق الكلمات معاني جديدة من دون أن تتخلى عن معناها الوضعي أو تنفصل عنه، فتضمر اللغة مجموعة من الدلالات والفاعليات والارتياضات التي لا تنتهي، ويصير السياق طاقة تحويل وتوليد تتحصن داخله قيمة التراكيب اللغويّة المرتبطة بالكلّ السياقيّ في كينونة أوجدتها علاقات تعالقية، منحت العنصر اللغوي دلالات تجاوزت بها المعنى الوضعيّ، من دون أن تفخخه، فأسست عمليتا الارتباط بالجذر والتحرر من سلطته المعجمية لدراسات غايتها الكشف عن طبيعة علاقات النظم السياقي، وعن قوانين تشكّله الداخليّ، التي تضبط حركية عناصر اللغة في متحد لغويّ، له خصائصه ومقوماته الذاتية، بوصفها قوانين مُحرِّضة غير مقيدة، تضمن حصانة تركيب العناصر اللغويّة، وتمنحها، في الوقت عينه، حرية التطور والتطوير الدلاليين ضمن فضاءات التداولات اللغويّة.

ثانيًا: نظرية النظم السياقي

النظم لغة هو الجمع والهضم والتأليف والاتساق، وهو، في رأي الجرجاني، ليس" سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض"[1]، واصطلاحًا هو مجموع وحدات لغويّة متماسكة في نظام كليّ يضمن فرادة المتحد اللغويّ، ويحفظ سلامة تعالق وحداته المستقلة بخصائص ذاتية غير خارجة على طبيعة السياق، وغير معزولة عن كليّة النظم، فتحتفظ العناصر اللغويّة بهويتها وتكتسب من أي متحد لغوي جديد سمات ودلالات تتمايز بقدر ما تتنوع الأنساق، وتتباين القراءات والتأويلات والمقاربات.
بهذا المفهوم العام، يمكن القول إنّ فاعلية عملية الجمع والضم والتأليف والاتساق مرتبطة حكمًا بجودة الصياغة المنظمة، بمعنى آخر بدقة ترتيب عملية التعالق، وبمهارة تنسيق إجراءات التآزر بين الوحدات اللغويّة، لأنها مهارة عقلية ومعرفية تمنح النظم سلامته، وتحفظه من التشظي والتشويه، وتثبّت حضوره، وتغني دلالاته المنطقية المستمدة من تماسك البنية اللغويّة في الأجساد النصيّة الخاضعة في تراكيب بنياتها لقوانين تشكيل داخليّ عاصمة وضامنة؛ أي عاصمة سلامة عملية التنظيم، وضامنة مصداقية وجودة إنتاج الدلالة.
تضمن دقة عملية التنظيم، وحرفية استخدام عناصر اللغة، ومهارة توظيف قوانين تعالقها، ولادة مرسلة لغوية موسومة بجودة النظم وحسن التناسق والتوازن والتماسك، ومشحونة بإغراءات دلاليّة تضفي على عناصر التركيب ووحداته قيمًا جمالية، وإشارات جديدة ومتنوعة تحقّق الغرض والهدف والإفادة، فتقوى العناصر اللغوية بالسياق ويقوى بها، فيتسع فضاء التأويل، ويتم القبض على بعض من بوح تستمد الروح الكلية المحتجبة وراء سياقات الأجساد النصية.
تستمد الكلمات من التركيب السياقيّ فاعليتها، وتكتسب منه معاني مجازية، غايتها، غير المعلنة، تضليل مباشرة الرقابة وتشظية سلطتها، لأنّ السياق اللغويّ المنظم يعزز الكلمات بقدرة على تلقي البوح المكبوت، ومن ثم تجسيده في نشاط لغوي مشحون بالترميز والتشفير، تضمنه إجراءات صرفية ونحوية وبلاغية منظمة، تشكّل جزرًا بنيوية تتحد في بنية كليّة خاضعة لقوانين النظم السياقيّ.
 تظهر الدراسات الألسنية أهمية التنظيم السياقي في تحرير الألفاظ من ثباتها المعجميّ، وإكسابها طاقة تحويليّة تضاعف من وظيفتها الدلالية، وتمنحها معنىً خاصًا جديدًا ومغايرًا، وذلك بفضل نظام كليّ يتحكم في إنتاج السياق وحمايته من الاضطراب والضعف والخلل التركيبيّ، فهو، في رأي الياس خوري، يحرّر الكلمة من ثباتها " لتصير" جزءًا من السياق... فالكلمة هي، بمعنى آخر، تشكيل لمعان محتملة، والسياق وحده هو الذي يؤكد على العناصر التي يجب تغليبها في هذا الاحتمال"[2].
اهتم علماء اللغة العربية بجمالية السياق اللغويّ الذي جاء عن العرب نسيجًا بلاغيًّا محكم التركيب والصياغة، ووضعوا دراسات وأبحاثًا تشرح وتؤول وتفسّر نظريات النظم، وما تقوم عليه من أسس صرفية وقوانين نحويّة، ورأوا أنّ السياق ليس حركة مباشرة نحو مدلول موجه، وإنّما هو حركة فيزيائية، مسارها متعدد الانحناءات يوحي بدلالات ينتجها نشاط العنصر اللغويّ الذي يحدّد، بحركته الجمعية مع بقية العناصر، سمات فضائية المسار الدلالي، وحركية النص اللامتناهية وغير المستقرة، فكانت العلاقة بين عناصر اللغة والسياق علاقة تعانق وتكامل وتداخل وتناظر وتكافؤ، فلا وجود لسياق من دون عنصر لغويّ، ولا قيمة دلالية للعنصر اللغويّ خارج السياق.
أكّد الجرجاني في دراساته اللغوية على حتمية العلاقة بين السياق مكوناته اللغويّة؛ الصرفيّة والنحويّة، ورأى أنّ العقل لا يمكن أن يتصور معنى فعل أو اسم من دون تعالق مُنظَّم ضمن السياق؛ فقال" لا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعماله فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً، أو يريد منه حكمًا سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرًا أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك... لم يكن الفعل وحده من دون الاسم ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل، كلامًا"[3] .
شبّه الجرجاني صاحب الكلام الجيد بالصائغ الذي يحسن خلط الذهب والفضة بنسب تتناسب وقيمة المنتج، فقال: إنّ " واضع الكلام مثل من يأخذ قطعًا من الذهب والفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة"[4] ، وبهذا المزج الفني الإبداعيّ الدقيق  تكتسب الأدوات والظروف والضمائر واللواحق، التي لا قيمة لها في ذاتها، نشاطًا لغويًا متجددًا، وبناءً إيقاعيًا عميقًا، وتصير من أهم الوحدات اللغوية الفاعلة في بنية التركيب المتكامل والمتجانس.
تظهر القراءة التحليلية لبيتين من الشعر استدلّ بهما الجرجانيّ على دور السياق في تأدية المعنى، أنّ الحروف الداخلة في بنية التركيب( إنّ_ لا_ على_أن_ الباء_حتى_ الووا_ كأنّ_ لم) لا قيمة دلالية لها خارج التركيب، وكذلك لا قيمة فنية وترميزية وأدائية للتركيب من دون هذه الحروف، فإذا وردت الكلمات من دون هذه الروابط، فقد التركيب متانته ووحدته وقيمته الجمالية.
وإنك لا تجـــــود على جــــــواد    هبــــاتك أن يُلقب بالجـــــواد
أعطيت حتى تركت الريح حاسرة        وجُدت حتى كأن الغيث لم يجدِ[5]
حظيت نظرية السياق باهتمام اللغويين العالميين، وتناولت دراساتهم معنى الكلمة في المنهج السياقي contextual approach، وكيفية" استعمالها في اللغة"[6]، فأظهروا الدور الذي تؤديه من خلال استخدامها في سياقات مختلفة[7]، وهذا "ما ركّز عليه فيرث Firthوأنصاره"[8] ، فربطوا طرق النظم collocations بضرورة الالتزام بصرامة قوانين الصرف والنحو؛ لأنّها  تضمن سلامة العلاقات مهما تباينت أشكالها وجواهرها، والجملة،في رأيهم،لا تؤدي معنى تامًاmeaningful  متكاملاً، إلاّ إذا امتثلت كينونتها  إلى قوانين النحو وتحصّنت  ضمن شروطه.
تأسيسًا على دور النحو في إنتاج السياق ذي النسيج المتماسك، ميّز فيرثFirth   بين نوعين من النظم؛ النظم العادي المتداول بكثرة، والنظم غير العادي ّ المقصور على كتّاب لهم أساليبهم الخاصة، لأنّ اللغة كما يراها لاكانLacan ، وحدة لا تتجزأ، وبالتالي لا يمكن الفصل بين اللفظ والمعنى ولا يمكن عزل فاعلية التركيب عن فاعلية المكون الصرفيّ، أو المكون النحويّ، أو  المكون البلاغيّ، فهذه المكونات جميعها وحدات دلالية" تقع في مجاورة وحدات أخرى. وإن معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفها أو تحديدها إلا بملاحظة الوحدات الأخرى التي تقع مجاورة لها""[9].
تكشف الدراسات اللغوية، العربية منها وغير العربيّة، عن تشابك العلاقة النفعية الدلالية بين الوحدات اللغويّة وطرق نظمها، لأنّ اللغة، أية لغة، لها نظام تشفيريّ مُرمَّز، ولا قيمة لإشاراتها ورموزها خارج تشكيلات عناصرها السياقية، الخاضعة لرقابة غير قمعية( يمكن وصفها بالديموقراطية) تمارسها اللغة على ذاتها، وفق قوانين(صارمة /مرنة) تضمن تبادل المواقع وتوليد الدلالة، وتحقيق القصدية، فالسياق يثري العناصر بالدلالات. والعناصر تمنح السياق كينونته ووجوده، فيكتسب من المكون الصرفيّ والنحويّ جماله البلاغيّ وقيمه الدلالية، وبالتالي لا يمكن عزل فاعلية السياق عن فاعلية العناصر،   فإذا أخذنا كلمات هذا البيت لبشار بن برد:
كأن مُثارَ النقع فوق رؤوسنا          وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
نجد كلمة ليل نكرة مرفوعة، ولم تكن منصوبة على أنّها ظرف، بل جاءت خبرًا ل"كأنّ"، فكان مثار النقع الكثيف أشبه بالليل، ولو كانت الكلمة منصوبة لتغيرت الدلالة واضطرب المعنى إذ لا يجوز أن تسند جملة " تهاوى كواكبه" إلى مُثار النقع، ولذلك يجد المتلقي استحالة في تبديل مواقع الكلمات، لأنّ أي تغيير في الترتيب أو الحركات يفسد المعنى والدلالة، ويسيء إلى غاية المرسلة اللغويّة.
رأى الجرجاني، في وحدة هذه البيت، دلالة على ارتباط المعاني بطبيعة التعالق ووظيفة العنصر النحويّة في السياق، هذه الوظيفة التي تحدّد موقعه وحركته، وتفرض على المتلقي احترام النظم وعدم المساس بالوحدة السياقية، فتمظهر هذا البيت لبشار بحلقة دائرية متماسكة لا تقبل التقسيم ولا يمكن قطع لفظ منه أو تغييره، فكان ترتيب الألفاظ وسيلة إلى تقمص المعاني،  ومن ثمّ كشفها، فالكلمة، كما وصفها برتراند راسل، تحمل معنى غامضًا لدرجة ما، ولا تفصح عن معناها الحقيقيّ إلاّ بالسياق، وهذا المعنى، في رأيي، يُخضع العنصر اللغوي/ الدال لطبيعة البنية اللغوية وما تتقيد به من قوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة بالإضافة إلى ما يفرضه السياق النفسيّ والعاطفي والاجتماعي، ففي مسرحية "Bajazet"، لراسين Racine  خرجت كلمة sortez التي وجهتها  روكسان Roxane إلى باجازيت Bajazet، عن معناها المعجمي وعن مباشريتها، وصار لها معنى مغاير فرضه سياق الموقف وما أحاط به من سياقات عاطفيّة ونفسيّة، فالكلمة معجميًّا تفيد معنى " اخرج" وفي السياق المسرحيّ أفادت معنى mourez "مت"لأنّ روكسان وضعت على الباب المغلق الذي سيخرج منه باجازيت عبيدًا وأمرتهم أن يلقوا به في البوسفور، فحملت الكلمة دلالة الحكم بالموت، وهذا ما حدث .

ثالثًا : النظم السياقي وقوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة

أثبتت الدراسات أنّ قيمة السياق الكليّة ودقة هندسته مشروطة بجماليات التشكيل الصرفيّ المتولد من نشاط العناصر الصرفية وعلاقاتها التبادلية، ولكن هذه المكونات الصرفية، تبقى أجزاءً متقطعة لا لحمة بينها من دون مكونات نحوية ترتّب الأجزاء، منطقيّا، في عمليات تعاقبية أو تبادلية تحت ظروف رقابية تضمن سلامة التركيب، مهما تبدلت مواقع العناصر اللغويّة.
يمتاز السياق،إذًا، بديناميكية تحويلية مضبوطة  بنظام تعاليقي يتحكّم بآلية إنتاج المعاني ودلالاتها، لأنّه  لا يمكن عزل معاني الكلم مجردة عن نظامها السياقي وقوانينها النحويّة، ولقد تنبّه السيرافي إلى أهمية النحو في السياق، فقال:" معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ"  [10].
إنّ هذه العمليات الهندسيّة التبادلية الجبرية من تقديم وتأخير وحذف واختزال، تعطي الألفاظ وظائف نحوية ودلالية وقوة إغراء تحرّض على كشف أسرارها وخصائصها، فالحروف، مثلاً،  لا تتسم بأيّة دلالة من دون نشاطها اللغويّ ضمن التركيب، فتمخض الاستقراء اللغويّ عن دراسات غايتها البحث في خصائص الحروف، وقدرتها على تغيير دلالات الأفعال والأسماء في السياق، لتكشف عن نظامها الوظيفي،وبنائها الصوتي وارتباطه ببناء الكلمات ومعانيها[11]، فالفعل" أحال"، على سبيل المثال، تتغير دلالاته وفق حرف الجر المتعلق به، فإذا قلنا:" أحال بالمكان" أفاد الفعل مع حرف الجر معنى" أقام حولاً" وإذا قلنا: "أحال إلى" فالفعل يستخدم لمن أنهى مهماته وأُحيل إلى التقاعد، وإذا قلنا: "أحال على"، كان الاستخدام محصورًا بإحالة موضوع ما على شخص آخر.
يزخر الموروث الثقافيّ بأمثلة توضّح وتفسّر الأغراض الدلالية والوظائف النحويّة للحروف والأسماء والأفعال، فالحروف تتبدل دلالتها بتبدل طبيعة التعالق، وفاعلية الوظيفة النحوية، فمثلاً كلمة" أو"تفيد في هذا التركيب:
إذا ما غضبنــا غضبة مضـــرية            هتكنا حجاب الشمس أو تمطرَ الدما
معنى " إلى إن" وكانت أداة نصب، وفي هذا التركيب،
عش عزيزًا أو مت وأنت كريم              بين طعن القنا وخفق البنود
أفادت كلمة" أو" معنى التخيير، وكانت حرف عطف.وفي ذلك قال الجرجاني:" واعلم أنّ ليس النظم إلاّ أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها .وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه..وينظر في الجمل التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل...وموضع" أو" من موضع" أم" وموضع"لكن" من موضع"بل". ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيضع كلاً من ذلك بمكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له"[12].
 أظهر الجرجاني أن فكرة العلاقات تنطوي على حركة خلق مستمرة في اللغة ترجع إلى موقع الكلمة في السياق وعلاقتها به، فالكلمة لا يتصور معناها من دون معاني النحو السياقي، وبهذه المعاني تكتسب العناصر الصرفية فاعلية وحيوية، ويكتسب التنظيم، أيضًا، قوة وفاعلية وحسن اتساق ودقة في الأداء والتبليغ،  فقال:" يكون النظم في معاني الكلم دون ألفاظها، وإن نظمها هو توخي معاني النحو فيها، وذلك إنّه إذا ثبت الاتحاد وثبت أنّه في المعاني فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتحدت المعاني "[13]، وحسن الاتحاد مشروط بحسن العلاقة بين المكونات الصرفيّة والنحويّة التي تحرر الكلمة من ثباتها، وتحصّن دلالاتها من خلال تمايز في تشكيلاتها الصوتيّة والنحويّة،فإذا أخذنا هذا البيت للمتنبي:
بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنٌ            ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن[14]
تتبين أنّ التركيب متشكلٌ من حروف وأسماء، فإذا حاولنا عزل هذه المفردات ،كانت مقاطع صوتية لها إمكانياتها الذاتية، ولكنها تفتقر إلى طاقة التكتل القادرة على تقمص الفكرة وبث الإشارات الدلالية، وهي بالتالي عاجزة عن تجسيد حالة المتنبي النفسيّة التي ارتسمت في الكل التركيبيّ غربةً نفسيّة واجتماعية ووطنيّة، وهي حالة شعورية متأصلة في نفسه وليست حالة طارئة، وإنّما التعلل هو الطارئ، وهذه الدلالات نستشفها من تكرار الأسماء النكرة، فالاسم أسبق على الفعل وأكثر استخدامًا، والنكرة أشد تمكنًا من المعرفة وهي أصل المعرفة[15]،  فأضفى التنوين على  السياق تمكينًا وثباتًا وتأصلاً،فكان السبق للاغتراب النفسيّ على التعلل الذي تقدّم في الترتيب وتضاءل  فعله في كلية الرسالة.
أدت قواعد الصرف والنحو دورًا رئيسًا تجلى في متانة السياق وبث الإشارات وتعميق دلالات الحدث، فالأسماء جاءت علاماتها الإعرابية ضمة ظاهرة، والضمة علامة الرفع والإسناد، وهذا دليلٌ على أنّ غربتُه النفسيّة حالة متمكنة وأساس يُسنَدُ إليه كيانه الوجدانيّ، فكانت الجمل جميعها اسمية، والمبتدأ فيها نكرة جوازًا مسبوقًا بنفي، وخبره محذوف جوازًا، أيضًا، فأفاد تكرار كلمة " لا" تأكيد النفي، وأفاد تعدد الجمل الاسمية الثبات، وأفادت النكرة تمكن غربته النفسية، وأفاد حذف الخبر العلم به وانتشاره، فكان للتركيب النحويّ الدور الأساس في توطيد العلاقات السياقيّة وتماسك نظمها وتبني المعاني والدلالات.
تنبّه علماء اللغة الأوائل إلى دور التراكيب في إنتاج المعاني وبث الإشارات، وتعدد الدلالات، ومما قاله السيوطي نقلاً عن الرازي:" ليس الغرض من الوضع إفادة المعاني المفردة، بل الغرض إفادة المركبات والنسب بين المفردات كالفاعلية والمفعولية وغيرهما، "[16]، أي إنّ المعاني التي تنتجها الألفاظ لا تتوقف عند قيمتها المعجمية بل تكتسب من مواقعها السياقية قيمًا مغايرة ومتناقضة ومتباينة، لأنّ العناصر اللغوية  تكتسب قيمتها الترميزية، وطاقتها الإيحائية من وحدة السياق وتماسكه، فكلمة" نديم" ، مثلاً،  عكست في سياق بيت المتنبي، السابق ذكره، تمكن  حالة الاغتراب النفسيّ والاجتماعيّ في وجدان الشاعر، أمّا في كلام الأخطل: 
إذا ما نديمــــــي علّني ثمّ علّــني          ثلاث زجـاجـــات لهنّ هدير
خرجت أجرُّ الطرف حتى كأنني         عليك أمير المؤمنيــــن أميـــر
فلقد عكست كلمة " نديم" المشاركة الوجدانية والاجتماعية، وكشفت عن واقع حركيّ، قوامه فعل وجزاء، منطلقهما ماضٍ نحو مستقبل مؤسس على الارتواء ونشوة الخمر، وهاتين القيمتين المجسدتين فاعلية العنصر اللغويّ"نديم" أظهرتهما دقة النظم ووظيفة مكوناته الصرفيّة والنحويّة، التي وحدها لها الفضل في توليد الصور البلاغيّة وتكثيفها.
يفرض ترتيب عناصر اللغة علامات توحي بوظيفتها ودلالاتها، فتنقل رسالة رغب المرسِل في تبليغها بوضوح ودقة، وأيُّ تغيير في ترتيب العناصر يؤدي إلى تشويه فحوى الرسالة ويسيء إلى مضمونها وجوهرها، فإذا أُخضعت كلمات هذا البيت الشعريّ:
إن المرءُ ميتا بانقضاءِ حياته              ولكن بأن يُبغى عليه فيخذلا[17]
 لتبديل المواقع تتشوّه القيمة المعنويّة الحقيقيّة للمُرسَلة، وتتحوّل عن أهدافها، ويفرّغ التركيب الشعريّ من معانيه ودلالاته، فالمعنى العام يشير إلى حكمة مجتمعية وأخلاقية وإنسانية؛ فالمرء لا يّعد ميتًا إذا انقضت أيامه في الحياة، لأنّ الموت الحقيقيّ موت اجتماعيّ يفرضه الغي والظلم وما يولدانه من خذلان، فصار الخذلان موتًا، والبغي لا حياة، ولذلك كانت علامة الرفع في كلمة" المرء" دليلاً على أنّ " إن" نافية" وليست حرفًا مشبهًا بالفعل، فانتفت فرضية التأكيد والتشبيه، وصارت الحياة الحقيقة موازية للعدل والحق، ويمكن توضيح الفرضية ونتيجتها على النحو التالي:
(إن) = نفي=(-) 
 المرءُ ميت= لا وجود له=(-) نفي
انقضاء الحياة= لا وجود لها= (-) نفي
لكن= الاستدراك، وهنا أفادت إسناد النفي إلى ما بعدها=(-)
بأن يبغى=دلالة الفعل المنصوب مستقبلية سالبة
فيخذلا= دلالة الفعل المنصوب المستقبلية سالبة.
الشطرالأول:                         الشطر الثاني:
حرف نفي (إن)                    حرف استدراك أفاد النفي(لكن)
المرء ميت                             أن يبغى عليه  
انقضاء الحياة                         فيخذلا
قراءة عناصر التركيب المتكاملة والمتقابلة تؤدي إلى التصور التالي:
المرء ميت= البغي
انقضاء الحياة=الخذلان
وبتبديل المواقع في تقديم أو تأخير في صياغة النتائج يصير البغي مساويًا الموت، ويصير الخذلان مرادفًا لانعدام الحياة أي الموت المعنوي، لأنّ الحياة ليست عيشًا إن لم يكن العيش مصحوبًا بالكرامة.
النتيجة:
سالب(إن). سالب(المرء ميتًا) =موجب #(سالب)انقضاء الحياة
 (لكن)= سالب. ( أن يُبغى)= سالب.( فيخذلا)= سالب
أي، ليس الموت انقضاء الحياة،( إن المرء ميتًا)؛ لأن الموت الحقيقي كامن في البغي والخذلان؛( أن يبغى عليه فيخذلا)؛ إذًا: انقضاء الحياة(_) // البغي والخذلان(_)
أي أنّ البغي والخذلان هما السبب الرئيس في انقضاء فاعلية الحياة، فالموت الجسدي خلاص، والخذلان موت روح المكارم.
يظهر تحليل علاقات العناصر الرياضية والمنطقية بعضها ببعض أنّ أيّ تبديل أو تحريف في الكلمات أو مواقعها، أو علاماتها، يحدث تغييرًا في النتيجة، ولا يوصل إلى حقيقة الفكرة التي رمى إليها الشاعر.
إنّ العلاقة بين السياق وبين عناصره اللغويّة علاقة متداخلة متكاملة متوازنة مضبوطة بقوانين الصرف والنحو التي تحدّد طبيعة عناصر التراكيب وشروط اتساقها وتعالقها، فالعلاقة، إذًا، "بين العلامة الإعرابية ودلالة الكلمة في السياق حتمية، وبالتالي فالحركات علامات بارزة في تعيين المعنى الدلاليّ للكلمة، لأنّ الكلمة تفتقر في بنائها المستقل إلى مثل هذه الدلالات، ولا يعرف معناها إلا بعد اتساقها في الجملة.

رابعًا: العلامة الإعرابيّة والقيمة الدلالية

حظيت العلامات الإعرابية بعناية النحويين واهتمامهم، فاستقروا دورها في السياق، وكشفوا عن دلالاتها، ووضعوا تعريفاً علميًّاً منطقيًّا يفصح عن وظيفة الحركات في ترابط التركيب، كما بحثوا في أصل الحركات وقوتها، وبيّنوا إفادة كل حركة، وأصلها ودورها، ورأوا أنّ: "الحركة الإعرابية مع كونها طارئة أقوى من العلامة البنائية الدائمة، لأنّ الإعراب علم لمعان مقصودة، تميز بعضها عن بعض "[18].
شغل دور العلامة وتحديد ماهيتها علماء اللغة سواء أكانوا عربًا أم غير عرب، ورأى تودوروف Todorov أنّ العلامةَ " تتكون من ثلاثة أطراف متعاضدة هي الدال والمدلول والشيء المسمى، فالدال هو الصوت المنطوق والمدلول هو الشيء المستحضر المدرك باعتباره مرتبطا بتفكيرنا"[19]،فالعلامة رمز دالٌ على شيء آخر، وبالتالي العلامة اللغوية  لا تقوم إلا على مسمى، ولا دلالة لها إلا به،  ولا قيمة لها بذاتها، بل بما يفرضه السياق على المسمى، وبما تقدمه للسياق من كشف وتوضيح لوحداته اللغويّة، فهي، أيضًا، تكمن في المعنى المجرد/ المدلول والصورة الصوتية/الدال المرتبطة به، كما قال دي سوسير.
رأى علماء اللغة العربيّة أنّ مواقع العناصر اللغوية المتماثلة، لا تتمايز إلاّ بالعلامات التي تكشف عن المرتبة الوظيفيةّ والدلالية لكلّ عنصر من عناصر التركيبّ، فكان الإعراب، في رأي علماء العرب،  إفصاحًا وإبانة وكشفًا[20]، وكانت علاماته إشارات تُسهم في استنباط المعاني والتقاط إشارات السياق ودلالاته، وطاقة كمونية تتحكم في إنتاج المعاني، لأنّ " الكلمات والجمل لا تتمايز إلا به"[21]، وبخاصة عندما تجتاح النظم السياقيّ تراكيب تمردت على ثوابت المفاهيم التعاليقية، وانساقت إلى النُظم البلاغية التي تفرض تقديمًا وتأخيرًا وحذفًا وتقديرًا،فيأتي التفاعل الدلاليّ أكثر ترميزًا وإيحاء،لأنّ اللغة والكلمات المكونة لها،في رأي بوتون،"  تمثل صورة من العالم، وفي الوقت ذاته تمثل صورة لتفكير المتكلم ولحالته الشعورية"[22]، وهذا التمثيل تعويض لحقائق لا تتبدى إلا بفهم الكلام وكشف دلالاته، فالشوق في كلام المتنبي:
أغالب فيك الشوقَ، والشوقُ أغلبُ         وأعجب من ذا الهجرِ، والهجرُ أعجبُ
 بعد أن كان مفعولاً به خاضعًا لفعل العقل، صار في السياق عينه المسند إليه المتحكم في إبراز الحدث وإعلان الغلبة، وهذا التحوّل حددته العلامة الإعرابية، فكشفت عن الصراع في ذات الشاعر بين أن يكون غالبًا أو مغلوبًا، وكذلك كانت الحال مع الهجر الذي بدأ الكلام عليه مقرونًا بخفض الهجر والتقليل من شأنه، ليتحول في التركيب عينه إلى مسند إليه أساس متمظهر بعلامات القوة والرفع والإسناد.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ العلامة الإعرابية تتحكم بالهندسة الدلاليّة للتراكيب، وهذا يفرض على المتلقي أن يُلم بوظائف العلامات الإعرابية والدلالية، وأن يُحسن دقة استخدامها، ويستوعب آلياتها الإنتاج، وإجراءاتها المنطقيّة، وغاياتها القصديّة، ولقد نبّه علماء اللغة العربيّة إلى ربط دقة المعاني بفهم عميق لعلامات الإعراب، وظهر ذلك  في كلام الكسائي على وظيفة النحو الدلاليّة في حواره مع الفقيه أبي يوسف القاضي الذي ذم النحو، فقال" ماذا تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك، وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامَك، أيٌّهما كنت تأخذ به؟ قال: آخذهما جميعًا، فقال له أخطأت"؛ لأنّ القول الذي يحاسب عليه الرجل في قتل الغلام هو:" أنا قاتلُ غلامِك" لأنّ الاسم المشتق بإضافته أفاد الحدث الماضي، وأما القول: " أنا قاتلُ غلامَك" لأنّه مستقبل ولم يقع ولا تكون المحاسبة على أمر لم يقع[23].
إنّ للعلامة الإعرابيّة دورًا أساسًا في رصف الكلمات وإنتاج الدلالة، وكانت هذه العلامات، في رأي علماء العرب، نتاج الفكر المنطقي، فانصبت اهتماماتهم على معنى العلامة، وعلى فهم دلالاتها ووظائفها، وحاولوا ربط أسماء الحركات بشكل النطق، فالضمة جاءت من ضم الشفتين عند النطق بها، والفتحة من فتح الفم، وكأنه ينتصب في نطقها، والكسرة من جر الفك إلى أسفل، فكأنّه يتكسّر، ويسقط ويهوى إلى أسفل؛ وحاولوا تعليل الحركات في السياق، فرأوا أنّ الرفع يدل على العلو، فيقال ارتفع الشيء ارتفاعًا، إذا علا [24]، ولم يهملوا دور العلامات المُقدرة على الحرف الأخير، فقسّموا الإعراب إلى ظاهر ومُقدّر، وعللوا  سبب ظهور الحركة أو تقديرها على الحرف الأخير تعليلاً علمياً منطقياً يفسّر ويؤول قيمة النشاط اللغويّ ودور الحركة في كشف الدلالة، وبخاصة عندما يتعرض السياق للتقديم والتأخير والحذف،  فبحثوا عن شروط التقديم والتأخير والحذف، وفي قوانين وخصائص التعجب والنداء والقسم والاختصاص والتنازع والاشتغال والاستثناء، والمدح والذم ، وفي وظيفة التوكيد والعطف والبدل والنعت والنفي والنهي، وغيرها من أساليب الأنساق الصرفية والنحوية المؤسسة ضوابط تشكيل سياقات صحيحة،لا حصر لها،فأكدوا على أنّ أي تغيير يفرضه التركيب على موقع العنصر يؤثر على رمزية العلامة وقيمة العنصر الدلالية.
يزخر الخطاب القرآني بنماذج لغوية تظهر دور العلامة وقيمتها الدلالية في فهم النص القرآني وتأويل آياته، وذلك مهما حدث على التركيب من تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار؛ ونبّه الفقهاء واللغويون إلى التركيز على علامات الإعراب، وبخاصة في قراءة القرآن الكريم، لأنّ تبديل الحركات يسيء إلى جواهر المعاني، ويعكس دلالاتها ويشوه صورها،  ففي قوله تعالى:
_"وإلى عادٍ أخاهم هودًا" [25]
 جاءت كلمة "أخاهم" في حالة النصب، فلو جاءت بعلامة الجر"أخيهم " لتبدلت الدلالة وتغيّر المعنى، لأنّ النصب أشار إلى فعل محذوف تقديره "وأرسلنا إلى عاد أخاهم "فكانت علامة النصب المكتسبة من خلال السياق القرآني دليلاً إلى فعل محذوف جوازًا، لأسباب بلاغية وجمالية ومنطقية، فاكتسبت الكلمة بعلامة النصب وظيفة نحوية ومعنى بلاغيًا ودينيًّا أكثر عمقًا وإفادة.
_ وفي قوله تعالى :" وهو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام وكان عرشُه على الماء ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً ولئن قلتم إنّكم مبعوثون من بعد الموت ليقولَنّ الذين كفروا إن هذا إلاّ سحرٌ مبين"7" ولئن أخّرنا عنهم العذابَ إلى أمة معدودة ليقولُنّ ما يحبسه ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفًا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون"8[26] ، ورد فعل" يقول" متصلاً بنون التوكيد، وذلك في آيتين متعاقبتين، ولكنّ قوانين تشكيل المكوّن الصرفيّ وما يرتبط به من شروط الإسناد التركيبيّ جعلت من الفعل الأوّل مبنيًا على الفتح لاتصاله بنون التوكيد،و لأنّ المسند إليه اسم ظاهر، وبالتالي بقى الفعل في صيغة المفرد، أمّا الفعل الثاني فكان مرفوعًا وعلامة رفعه نون محذوفة لأنّه من الأفعال الخمسة، وكان الحذف فرارًا من توالي الأمثال، أمّا  الضمة فهي إشارة إلى الفاعل المحذوف منعًا لالتقاء الساكنين، وهي في الأصل " واو" الجماعة المتصلة بالأفعال الخمسة؛ فكيف يستطيع القارئ أن يفهم بلاغة القرآن وعظمة دلالات آياته من دون معرفة علميّة بقوانين النحو؟
_وفي قوله تعالى" إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ "[27]  رفع بعض القرّاء لفظ الجلالة، وجرَّ كلمتي( عباده_ العلماء)، وصار الله فاعلاً أسندت إليه الخشية، فكان الرفع في اسم الجلالة وعلامة الجر في كلمتي " عباده" و" العلماء"حجة لدى المشككين في جعل الله فاعلاً خائفا من عباده العلماء، أما القراءة الصحيحة فتؤكد على اقتران خشية الله بالمعرفة، فالعلماء يزدادون تعلقا بالخالق، كلما ازدادوا معرفة، ؛ فكان الإعراب توضيحا للمعنى، وتكريمًا للعلماء، وتعظيمًا للخالق، ودعوة إلى العلم والمعرفة.
_ وفي قوله تعالى:" إنّا أرسلناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" [28]، قرئت كلمة" تسأل" بالجزم، ووردت في القرآن  مرفوعة، والدلالة تتغيّر بين الرفع والجزم،  فقال الأخفش: إذا استخدمت كلمة تسأل بالجزم تغيرت دلالة الكلمة في السياق، وصار الكلام دالاً على النهي عن السؤال، وفي ذلك تعظيم لما فيه من العذاب، أما الرفع فهو على النفي، وتكون الجملة استئنافية فكان المعنى:" أرسلناك بشيرًا ونذيرًا وغير سائل ، أو غير مسؤول  وهذا المعنى أفصح من دلالة الجزم.."[29] .
_" وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات"[30]
الابتلاء والاختبار يكون أفصح دلالة وأعظم قدرًا إذا كان من الله لعبده ولا يجوز أن يمتحن العبدُ ربَه ويختبره، والتمييز هنا ما كان ليحصل لولا الإفصاح، عن مواقع الكلم والتمييز بين الفاعل والمفعول به، من دون علامات الإعراب، فالحركات رموز للأصوات، والصوت اللغوي جزء رئيس من تشكيل الكلمة، وهذه الحركات هي المرشدة إلى المعاني، ولقد عبّر الزجاجي عن ذلك بقوله: "إن الأسماء لما كانت تعتو رها المعاني وتكون فاعلة ومفعولة ومضافة، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، جعلت حركات الإعراب تبين عن هذه المعاني، وتدل عليها ليتسع لهم في اللغة ما يريدون من تقديم وتأخير عند الحاجة"[31].
تضمر علامات الإعراب فعلاً تحريضيًّا يحرّر الكلمات من ثباتها، ويحفّزها على التلاقي والتواصل والإسرار ومن ثم المكاشفة؛ لأنّ الحركة، في رأي ابن جني، تقلق الحرف وتزيله عن سكونه وتُحركه للالتقاء بغيره، وبهذا التلاقي والتآلف ضمن السياق تتحدد قيمة الكلمات الدلاليّة، يكتسب التركيب معنى عامًا/ خاصًا، يدين في تشكُّله إلى حركة الحروف، بوصفها وسيلة ربط، وكمون إسرار وإفصاح، ولكنّ هذه العلامات بقدر ما تتمتع به من طاقة ترميز، وفاعلية خلق، فهي تحرص على أصالتها وثباتها، فاختصت الحركات بمدلولاتها في السياق، واختصت الضمة بعلامة المسند إليه، والفتحة بعلامة المفعولية، والكسرة بعلامة الخفض والجر، ولكنّ هذه العلامات لا تستقل بدلالاتها من دون مرموز إليه تكتسب منه وجودَها، وتكسبه، في الوقت عينه، موقعه السياقي وقيمته المعنويّة.
حظيت العلامات الإعرابيّة باهتمام علماء اللغة، ورأوا أنّها، على الرغم من استقلاليتها، فهي تُكتسب اكتساباً في السياق، وليست من أصل البناء التركيبي للكلمة، أمّا ما كان منها ثابتًا في سكونية حرفه الأخير فلقد أطلقوا عليه صفة البناء اللفظيّ، وبحثوا عن محله الإعرابيّ  وعن موقعه في الكلام، وذلك من خلال علاقته ببقية العناصر التركيبية للجملة النحويّة، وعبر الخليل بن أحمد عن ذلك بقوله: "إن الفتحة والكسرة والضمة زوائد وهنّ يلحقن الحروف ليوصل إلى التكلم به، والبناء هو الساكن لا زيادة فيه"[32]، فكان للبناء دلالات مغايرة للإعراب، ولذلك حرص الفصحاء من العرب على استخدام البناء والإعراب، وفق ما تفرضه المعاني المحتجبة في ظلال التراكيب، ففي قول أمية بن الصلت نلمس اختلاف دلالة الأسماء الواقعة بعد" لا" باختلاف طبيعة "لا" وظيفتها في الاسم الواقع بعدها:
ولا لغوٌ ولا تأثيمَ فيها               ولا حينٌ ولا فيها مُليم[33]
 جاءت "لا"الأولى والثالثة، والرابعة، تنفي الخبر عن الاسم الواقع بعدها فقط، لأنّ "لا" أفادت النفي، وكانت بمعنى " ليس"، فجاءت الكلمات معربة، أمّا"لا" الثانية" فلقد نفت الخبر عن جميع أفراد جنس المبتدأ لأنّها نافية للجنس ، وجاءت الكلمة بعدها مبنية على الفتح، لأسباب نحوية وبلاغية تفضي إلى دلالات منطقية.
 نجد القضية عينها في بيت لأبي الطيب يقول فيه:
لا خيلَ عندك تهديها ولا مالٌ               فليسعدِ النطقُ إن لم تُسعدِ الحالُ.

كان تركيز المتنبي على نفي وجود القوة المعنوية نفيًا قاطعًا؛ فالخيل التي يُكنى بعددها عن الشجاعة والإقدام والبطولة، لا وجود لها، ويمكن أن تُرى بالعين المجردة، فتأكيد النفي لا يحمل التصديق أو الكذب،  ولم تكن الدلالة عينها في نفي القوة المادية، لأنّ مال الشخص مخبوء والكلام عليه يجوز أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فكان النفي حصرًا على واقع آني يجمع بين المرسل والمتلقي، علمًا أن تبادل المواقع بين كلمتي" خيل" و"مال" لا يحدث تغييرًا في الوزن والموسيقى، لذلك يمكن القول إنّ ترتيب الكلمات وعلاماتها الإعرابية اقتضته غايات بلاغيّة ودلالات معنويّة، اجتماعيّة ونفسية وقيمية إنسانيّة.


يحرّض التشكيل اللغويّ نشاط السياق ويوجهه في عملية ترتيب الألفاظ الخاضعة، في تأدية المعاني، لعلامات تفرضها العلاقات السياقية الصرفية والنحوية، فيتم تحديد قيمة العنصر اللغوي ورتبته التنظيمية، ووظيفته وطبيعة ترابطه مع بقية العناصر، لأنّ العلامة الإعرابية وحدها القادرة على التمييز بين علاقات الإسناد أو التعدية أو غيرها من العلاقات، فإذا قرأنا هذا البيت لامرئ القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة      كفاني، ولم أطلب، قليلٌ من المالِ[34]
وجدنا أنه يتضمن فعلين" كفاني" و" أطلب" قبل كلمة"قليل" الاسم المعرب، والفعل الأول متعدٍ إلى مفعول به واحد وهو محتاج إلى فاعل، وفاعله يجوز أن يكون مستترًا، والفعل "أطلب" يحتاج إلى مفعول به وفاعله مستتر وجوبًا تقديره "أنا"، ولذلك يجوز أن تكون كلمة " قليل" فاعلاً للفعل "كفاني" أو مفعولاً به للفعل "أطلب" فجاءت علامة الرفع لتحدد موقع الكلمة في السياق على أنّها مسند إليه " فاعل للفعل" كفاني" وليست مفعولاً به للفعل أطلب" وبتحديد مواقع الكلم في السياق من خلال علامة الإعراب تتغير الدلالة فالشاعر، وفق ما فسّر ابن يعيش في كتابه شرح المفصل، أراد أنّ يقول " إنني لو سعيت لمنزلة دنية كفاني قليل من المال ولم أطلب الكثير"[35]
أثبت علماء اللغة العربيّة دور العلامة الإعرابية في السياق، وعلّلوا سبب ورودها في آخر الكلمة من دون أوائلها وأوساطها بفكر فيزيائيّ علميّ منطقي، فقال الزجاجي: "لم يُجعل الإعراب أولاً، لأنّ الأول تليه الحركة ضرورة الابتداء، لأنه لا يبتدأ إلا بمتحرك، ولا يوقف إلا على ساكن، فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب، لأنّ الحركتين لا تجتمعان في حرف واحد، ولما فات وقوعه أولاً لم يكن أن يُجعل وسطاً، لأنّ أوساط الأسماء مختلفة، لأنّها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسباعية، فأوساطها مختلفة..."[36]، وبالمنطق عينه برّر قطرب عدم توالي ساكنين في السياق، فقال: "إنّما أعربت العرب كلامها، لأنّ الاسم في حال يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون، وأمكنهم التحريك، جعلوا التحريك معاقباً للإسكان ليتبدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين في حشو الكلمة ولا في حشو بيت، ولا بين أحرف متحركة، لأن في اجتماع الساكنين يبطئون، وفي كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب الصلة في كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الاسكان"[37]. 
إنّ حركة السياق شبيهة بحركة الوسط الفيزيائي، فلا ساكن يعقب سكونًا من دون حركة، وكذلك لا يلتقي ساكنان في سياق لغويّ، فإذا تتابعت السواكن في السياق تخلت بعض الحروف عن سكونيتها لمصلحة الحرف غير القادر على الحركة، وإذا تعذّر النطق بالساكن تمت الاستعانة بحرف وصل يوصل إلى النطق به، فأضفى العرب على السياق جمالية في الصورة والصوت والمعنى والدلالة، وحافظت التراكيب على نسبية تعالقية بين المكونات اللغوية وعلاماتها ودلالاتها ورموزها وإيحاءاته، وفق عمليات تناسبية تعطي للسياق قيمًا دلالية مغايرة ومتمايزة. 
خامسًا: كلمة أخيرة
لما كانت الكلمات المنطوقة أو المكتوبة تختزل الوجود والغياب للشيء المستحضر، فيمكن اعتبار اللغة شرطًا أساسًا للوعي الذاتي والجمعيّ، لأنّها تشكّل الوسيط بين الإنسان وبين الأشياء فاللغة، إذًا، خلق مستمر تبني الفكر، وتتبنى تجسيد حركته، ولما كان البناء القابل للاستمرار متسمًا بالجدة، فلا بد من أن تواكب أنماطه المتجددة انحرافات في دلالة المنطوق اللغويّ، وإضافات تفرضها طبيعة التراكيب المشحونة بحركات داخلية مضبوطة بقوانين صرفية ونحوية، تعمل على فرملة المكونات ضمن مساراتها الدلالية النحوية والصرفية والبلاغية، من دون أن تسلبها حريتها في اختيار مواقعها داخل التنظيم بما يتناسب والقيمة المعنوية للنتاج الفكريّ.
تمارس اللغة رقابة ذاتية مشحونة بفعل توليديّ، يسمح لها أن تنغلق على طاقات من الاستخدامات غير المحدودة، فتنتج عددًا لا حصر له من السياقات التي تنتظم ضمنها وحدات لغوية متشابكة في رباطها التكوينيّ، ومحرضة على توليد المعاني، وهذه الطاقات التوليدية تحّدد مساراتها عمليات لغوية ذهنية منطقية توازن بين الألفاظ المتعالقة ودلالاتها،  فتعقد المكونات النحوية والصرفية عقد توافق واتفاق يضمن سلامة السياق، من جهة، ويتعهد، من جهة ثانية، نقل تصورات الفكر وحركاته بأمانة تضمن" للنص معنى موضوعيًّا مقصودًا من كاتبه..."[38]، فتمارس اللغة نشاطها في سياقات تتبنى نتاج نشاطات الفكر، وتكوّن فضاء معرفيًّا لا حدود له، يحرّض على الحرية والإبداع، بقدر ما يحترم قوانين مكونات عناصره وخصائصها النحوية والصرفيّة.




الهوامش :



[1]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص3
[2]_دراسات في نقد الشعر، مؤسسة الأبحاث العربيّة، ط1، 1980،ص 64.
[3]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 314 – 315.
[4]_دلائل الإعجاز، ص316.
[5]_ دلائل الإعجاز،ص   153 .
[6] _meaning and style.p8.
[7] _semantic fields .p 174.
[8] _ oilman,  meaning and style.Oxford..p9.
[9] _nida.componential analysis of meaning. mouton 1975.p196.
[10] _ياقوت الحموي، معجم الأدباء،8/ 214.
[11] _ابن جني، سر صناعة الإعراب، ص 19
 -[12] الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 64_65.
[13] _ دلائل الإعجاز ، ص317.
[14] _ المتنبي، الديوان،
[15] _ سيبويه، ج1، ص 20_21_22.
[16] _ المزهر،ج1، ص41.
[17] _محمد محيي الدين عبد الحميد، شرح ابن عقيل،لا.ت، ج1، ص 318.
[18] _الكليات، ج1، 216.
[19] _theories du symbol, seuil,1977,p17.
[20] _الجرجاني، أسرار البلاغة،تح السيد محمد رشيد رضا،دار الفكر، ص56.
[21] _ السيوطي، الأشباه والنظائر،ج1، ص 89.
[22] G. Bouton, "La signification" éd. Klincksieck, 1979 p. 13.
[23] _ ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء،13/177
- [24] الايضاح في علل النحو،ص 93 سر صناعة الإعراب ج1،ص 30_31.
[25] _ هود 50.
[26] _ هود:7_8.
[27] _ فاطر:28.
[28] _ البقرة:119.
[29] _ الأخفش، معاني القرآن، ج1، ص 146.
[30] _ البقرة:128.
[31] _ السيوطي، الأشباه والنظائر، ج1، ص 76- 78.
[32] _ سيبويه، الكتاب، ج2، ص 315.
[33] _ البيت مأخوذ من شرح ابن عقيل، ج1، ص 402.
[34] _ امرؤ القيس ، الديوان، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، ط3، القاهرة، ص 39.
[35] _ج1، ص79.
[36] _ الزجاجي الإيضاح في علل النحو، ص 76.
37- السيوطي الأشباه والنظائر، ج1، ص 76.
[38]_M .Charles l,arbre et la source, p,152.





  
السياق اللغويّ وفعل المكوّنات
 الصرفيّة والنحويّة

                                                    أ.د. مها خيربك ناصر
                                                                         جامعة البلمند  (لبنان)
أولاً: عتبة البحث
تتمظهر حركة الفكر بلغة تنقل الكمون العقليّ من التخفي إلى التشخصن، ومن المجهول إلى المعلوم، لأنّ الفكر لا يكون بذاته، بل بما يتأثر به من الأحداث والأحوال والمعطيات، فيتجلى الأثر فعلاً حركيًّا، مستقره لغةٌ قادرة على استقبال هيولى الحركة، وتأطير ماهيتها،  وتبني كينونتها، وهذا يفرض على اللغة حركة داخلية تُحرّض على تنمية ذاتها بذاتها ولذاتها، لتبقى قادرة على تبني التصورات الذهنية، وذلك في أنماط تعبيرية تجسّد حركية العقل المدرك ذاته بذاته.
تمتلك اللغة، إذًا، في اللحظة عينها، خاصيتين؛ خاصية سكونية تتبدى في وظيفة استقبالية تجعل منها مستقرًا للأفكار المجردة، وخاصية حركية تتبنى إعادة تشكيل وتنظيم الأفكار في أنساق لغوية قابلة للإرسال والتلقي. وبعمليتي الاستقبال والإرسال تتقاطع وتتمركز خصائص وأسرار النتاج اللغويّ في سياقات تُضمر فعل اللغة الحركيّ الذي يمارس مهماته، غير المحدودة، داخل اللغة.
بهذا المعطى يمكن اعتبار اللغة زمرة مقفلة تنغلق على أسرارها وحيويتها، وتتمتع، في الوقت عينه، بفعل تحريضي يساعدها على التجديد بقدر ما يسمح لها أن تتفرد بحق الإلغاء والتوليد، والتحويل والترميز والإفصاح والإبانة والكشف، في معادلات كلامية تضمن النسبية المنطقية بين نشاط الفكر ونشاط اللغة، وهذه النسبية تؤمنها قوانين تشكيل داخلي ينتجها العقل الإنسانيّ، وتلتزم بها الأنساق اللغويّة، وذلك وفق أسس منطقية توازن بين صورة المُدرَك وحقيقته، وبين الدال والمدلول عليه، وبين اللفظ ومعناه، وبين التصورات الذهنية وأشكالها اللغويّة، وذلك مهما تنوّعت التراكيب، وتعدّدت السياقات وتمايزت تأويلاتها.
يمنح السياق الكلمات معاني جديدة من دون أن تتخلى عن معناها الوضعي أو تنفصل عنه، فتضمر اللغة مجموعة من الدلالات والفاعليات والارتياضات التي لا تنتهي، ويصير السياق طاقة تحويل وتوليد تتحصن داخله قيمة التراكيب اللغويّة المرتبطة بالكلّ السياقيّ في كينونة أوجدتها علاقات تعالقية، منحت العنصر اللغوي دلالات تجاوزت بها المعنى الوضعيّ، من دون أن تفخخه، فأسست عمليتا الارتباط بالجذر والتحرر من سلطته المعجمية لدراسات غايتها الكشف عن طبيعة علاقات النظم السياقي، وعن قوانين تشكّله الداخليّ، التي تضبط حركية عناصر اللغة في متحد لغويّ، له خصائصه ومقوماته الذاتية، بوصفها قوانين مُحرِّضة غير مقيدة، تضمن حصانة تركيب العناصر اللغويّة، وتمنحها، في الوقت عينه، حرية التطور والتطوير الدلاليين ضمن فضاءات التداولات اللغويّة.

ثانيًا: نظرية النظم السياقي

النظم لغة هو الجمع والهضم والتأليف والاتساق، وهو، في رأي الجرجاني، ليس" سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض"[1]، واصطلاحًا هو مجموع وحدات لغويّة متماسكة في نظام كليّ يضمن فرادة المتحد اللغويّ، ويحفظ سلامة تعالق وحداته المستقلة بخصائص ذاتية غير خارجة على طبيعة السياق، وغير معزولة عن كليّة النظم، فتحتفظ العناصر اللغويّة بهويتها وتكتسب من أي متحد لغوي جديد سمات ودلالات تتمايز بقدر ما تتنوع الأنساق، وتتباين القراءات والتأويلات والمقاربات.
بهذا المفهوم العام، يمكن القول إنّ فاعلية عملية الجمع والضم والتأليف والاتساق مرتبطة حكمًا بجودة الصياغة المنظمة، بمعنى آخر بدقة ترتيب عملية التعالق، وبمهارة تنسيق إجراءات التآزر بين الوحدات اللغويّة، لأنها مهارة عقلية ومعرفية تمنح النظم سلامته، وتحفظه من التشظي والتشويه، وتثبّت حضوره، وتغني دلالاته المنطقية المستمدة من تماسك البنية اللغويّة في الأجساد النصيّة الخاضعة في تراكيب بنياتها لقوانين تشكيل داخليّ عاصمة وضامنة؛ أي عاصمة سلامة عملية التنظيم، وضامنة مصداقية وجودة إنتاج الدلالة.
تضمن دقة عملية التنظيم، وحرفية استخدام عناصر اللغة، ومهارة توظيف قوانين تعالقها، ولادة مرسلة لغوية موسومة بجودة النظم وحسن التناسق والتوازن والتماسك، ومشحونة بإغراءات دلاليّة تضفي على عناصر التركيب ووحداته قيمًا جمالية، وإشارات جديدة ومتنوعة تحقّق الغرض والهدف والإفادة، فتقوى العناصر اللغوية بالسياق ويقوى بها، فيتسع فضاء التأويل، ويتم القبض على بعض من بوح تستمد الروح الكلية المحتجبة وراء سياقات الأجساد النصية.
تستمد الكلمات من التركيب السياقيّ فاعليتها، وتكتسب منه معاني مجازية، غايتها، غير المعلنة، تضليل مباشرة الرقابة وتشظية سلطتها، لأنّ السياق اللغويّ المنظم يعزز الكلمات بقدرة على تلقي البوح المكبوت، ومن ثم تجسيده في نشاط لغوي مشحون بالترميز والتشفير، تضمنه إجراءات صرفية ونحوية وبلاغية منظمة، تشكّل جزرًا بنيوية تتحد في بنية كليّة خاضعة لقوانين النظم السياقيّ.
 تظهر الدراسات الألسنية أهمية التنظيم السياقي في تحرير الألفاظ من ثباتها المعجميّ، وإكسابها طاقة تحويليّة تضاعف من وظيفتها الدلالية، وتمنحها معنىً خاصًا جديدًا ومغايرًا، وذلك بفضل نظام كليّ يتحكم في إنتاج السياق وحمايته من الاضطراب والضعف والخلل التركيبيّ، فهو، في رأي الياس خوري، يحرّر الكلمة من ثباتها " لتصير" جزءًا من السياق... فالكلمة هي، بمعنى آخر، تشكيل لمعان محتملة، والسياق وحده هو الذي يؤكد على العناصر التي يجب تغليبها في هذا الاحتمال"[2].
اهتم علماء اللغة العربية بجمالية السياق اللغويّ الذي جاء عن العرب نسيجًا بلاغيًّا محكم التركيب والصياغة، ووضعوا دراسات وأبحاثًا تشرح وتؤول وتفسّر نظريات النظم، وما تقوم عليه من أسس صرفية وقوانين نحويّة، ورأوا أنّ السياق ليس حركة مباشرة نحو مدلول موجه، وإنّما هو حركة فيزيائية، مسارها متعدد الانحناءات يوحي بدلالات ينتجها نشاط العنصر اللغويّ الذي يحدّد، بحركته الجمعية مع بقية العناصر، سمات فضائية المسار الدلالي، وحركية النص اللامتناهية وغير المستقرة، فكانت العلاقة بين عناصر اللغة والسياق علاقة تعانق وتكامل وتداخل وتناظر وتكافؤ، فلا وجود لسياق من دون عنصر لغويّ، ولا قيمة دلالية للعنصر اللغويّ خارج السياق.
أكّد الجرجاني في دراساته اللغوية على حتمية العلاقة بين السياق مكوناته اللغويّة؛ الصرفيّة والنحويّة، ورأى أنّ العقل لا يمكن أن يتصور معنى فعل أو اسم من دون تعالق مُنظَّم ضمن السياق؛ فقال" لا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعماله فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً، أو يريد منه حكمًا سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرًا أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك... لم يكن الفعل وحده من دون الاسم ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل، كلامًا"[3] .
شبّه الجرجاني صاحب الكلام الجيد بالصائغ الذي يحسن خلط الذهب والفضة بنسب تتناسب وقيمة المنتج، فقال: إنّ " واضع الكلام مثل من يأخذ قطعًا من الذهب والفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة"[4] ، وبهذا المزج الفني الإبداعيّ الدقيق  تكتسب الأدوات والظروف والضمائر واللواحق، التي لا قيمة لها في ذاتها، نشاطًا لغويًا متجددًا، وبناءً إيقاعيًا عميقًا، وتصير من أهم الوحدات اللغوية الفاعلة في بنية التركيب المتكامل والمتجانس.
تظهر القراءة التحليلية لبيتين من الشعر استدلّ بهما الجرجانيّ على دور السياق في تأدية المعنى، أنّ الحروف الداخلة في بنية التركيب( إنّ_ لا_ على_أن_ الباء_حتى_ الووا_ كأنّ_ لم) لا قيمة دلالية لها خارج التركيب، وكذلك لا قيمة فنية وترميزية وأدائية للتركيب من دون هذه الحروف، فإذا وردت الكلمات من دون هذه الروابط، فقد التركيب متانته ووحدته وقيمته الجمالية.
وإنك لا تجـــــود على جــــــواد    هبــــاتك أن يُلقب بالجـــــواد
أعطيت حتى تركت الريح حاسرة        وجُدت حتى كأن الغيث لم يجدِ[5]
حظيت نظرية السياق باهتمام اللغويين العالميين، وتناولت دراساتهم معنى الكلمة في المنهج السياقي contextual approach، وكيفية" استعمالها في اللغة"[6]، فأظهروا الدور الذي تؤديه من خلال استخدامها في سياقات مختلفة[7]، وهذا "ما ركّز عليه فيرث Firthوأنصاره"[8] ، فربطوا طرق النظم collocations بضرورة الالتزام بصرامة قوانين الصرف والنحو؛ لأنّها  تضمن سلامة العلاقات مهما تباينت أشكالها وجواهرها، والجملة،في رأيهم،لا تؤدي معنى تامًاmeaningful  متكاملاً، إلاّ إذا امتثلت كينونتها  إلى قوانين النحو وتحصّنت  ضمن شروطه.
تأسيسًا على دور النحو في إنتاج السياق ذي النسيج المتماسك، ميّز فيرثFirth   بين نوعين من النظم؛ النظم العادي المتداول بكثرة، والنظم غير العادي ّ المقصور على كتّاب لهم أساليبهم الخاصة، لأنّ اللغة كما يراها لاكانLacan ، وحدة لا تتجزأ، وبالتالي لا يمكن الفصل بين اللفظ والمعنى ولا يمكن عزل فاعلية التركيب عن فاعلية المكون الصرفيّ، أو المكون النحويّ، أو  المكون البلاغيّ، فهذه المكونات جميعها وحدات دلالية" تقع في مجاورة وحدات أخرى. وإن معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفها أو تحديدها إلا بملاحظة الوحدات الأخرى التي تقع مجاورة لها""[9].
تكشف الدراسات اللغوية، العربية منها وغير العربيّة، عن تشابك العلاقة النفعية الدلالية بين الوحدات اللغويّة وطرق نظمها، لأنّ اللغة، أية لغة، لها نظام تشفيريّ مُرمَّز، ولا قيمة لإشاراتها ورموزها خارج تشكيلات عناصرها السياقية، الخاضعة لرقابة غير قمعية( يمكن وصفها بالديموقراطية) تمارسها اللغة على ذاتها، وفق قوانين(صارمة /مرنة) تضمن تبادل المواقع وتوليد الدلالة، وتحقيق القصدية، فالسياق يثري العناصر بالدلالات. والعناصر تمنح السياق كينونته ووجوده، فيكتسب من المكون الصرفيّ والنحويّ جماله البلاغيّ وقيمه الدلالية، وبالتالي لا يمكن عزل فاعلية السياق عن فاعلية العناصر،   فإذا أخذنا كلمات هذا البيت لبشار بن برد:
كأن مُثارَ النقع فوق رؤوسنا          وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
نجد كلمة ليل نكرة مرفوعة، ولم تكن منصوبة على أنّها ظرف، بل جاءت خبرًا ل"كأنّ"، فكان مثار النقع الكثيف أشبه بالليل، ولو كانت الكلمة منصوبة لتغيرت الدلالة واضطرب المعنى إذ لا يجوز أن تسند جملة " تهاوى كواكبه" إلى مُثار النقع، ولذلك يجد المتلقي استحالة في تبديل مواقع الكلمات، لأنّ أي تغيير في الترتيب أو الحركات يفسد المعنى والدلالة، ويسيء إلى غاية المرسلة اللغويّة.
رأى الجرجاني، في وحدة هذه البيت، دلالة على ارتباط المعاني بطبيعة التعالق ووظيفة العنصر النحويّة في السياق، هذه الوظيفة التي تحدّد موقعه وحركته، وتفرض على المتلقي احترام النظم وعدم المساس بالوحدة السياقية، فتمظهر هذا البيت لبشار بحلقة دائرية متماسكة لا تقبل التقسيم ولا يمكن قطع لفظ منه أو تغييره، فكان ترتيب الألفاظ وسيلة إلى تقمص المعاني،  ومن ثمّ كشفها، فالكلمة، كما وصفها برتراند راسل، تحمل معنى غامضًا لدرجة ما، ولا تفصح عن معناها الحقيقيّ إلاّ بالسياق، وهذا المعنى، في رأيي، يُخضع العنصر اللغوي/ الدال لطبيعة البنية اللغوية وما تتقيد به من قوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة بالإضافة إلى ما يفرضه السياق النفسيّ والعاطفي والاجتماعي، ففي مسرحية "Bajazet"، لراسين Racine  خرجت كلمة sortez التي وجهتها  روكسان Roxane إلى باجازيت Bajazet، عن معناها المعجمي وعن مباشريتها، وصار لها معنى مغاير فرضه سياق الموقف وما أحاط به من سياقات عاطفيّة ونفسيّة، فالكلمة معجميًّا تفيد معنى " اخرج" وفي السياق المسرحيّ أفادت معنى mourez "مت"لأنّ روكسان وضعت على الباب المغلق الذي سيخرج منه باجازيت عبيدًا وأمرتهم أن يلقوا به في البوسفور، فحملت الكلمة دلالة الحكم بالموت، وهذا ما حدث .

ثالثًا : النظم السياقي وقوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة

أثبتت الدراسات أنّ قيمة السياق الكليّة ودقة هندسته مشروطة بجماليات التشكيل الصرفيّ المتولد من نشاط العناصر الصرفية وعلاقاتها التبادلية، ولكن هذه المكونات الصرفية، تبقى أجزاءً متقطعة لا لحمة بينها من دون مكونات نحوية ترتّب الأجزاء، منطقيّا، في عمليات تعاقبية أو تبادلية تحت ظروف رقابية تضمن سلامة التركيب، مهما تبدلت مواقع العناصر اللغويّة.
يمتاز السياق،إذًا، بديناميكية تحويلية مضبوطة  بنظام تعاليقي يتحكّم بآلية إنتاج المعاني ودلالاتها، لأنّه  لا يمكن عزل معاني الكلم مجردة عن نظامها السياقي وقوانينها النحويّة، ولقد تنبّه السيرافي إلى أهمية النحو في السياق، فقال:" معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ"  [10].
إنّ هذه العمليات الهندسيّة التبادلية الجبرية من تقديم وتأخير وحذف واختزال، تعطي الألفاظ وظائف نحوية ودلالية وقوة إغراء تحرّض على كشف أسرارها وخصائصها، فالحروف، مثلاً،  لا تتسم بأيّة دلالة من دون نشاطها اللغويّ ضمن التركيب، فتمخض الاستقراء اللغويّ عن دراسات غايتها البحث في خصائص الحروف، وقدرتها على تغيير دلالات الأفعال والأسماء في السياق، لتكشف عن نظامها الوظيفي،وبنائها الصوتي وارتباطه ببناء الكلمات ومعانيها[11]، فالفعل" أحال"، على سبيل المثال، تتغير دلالاته وفق حرف الجر المتعلق به، فإذا قلنا:" أحال بالمكان" أفاد الفعل مع حرف الجر معنى" أقام حولاً" وإذا قلنا: "أحال إلى" فالفعل يستخدم لمن أنهى مهماته وأُحيل إلى التقاعد، وإذا قلنا: "أحال على"، كان الاستخدام محصورًا بإحالة موضوع ما على شخص آخر.
يزخر الموروث الثقافيّ بأمثلة توضّح وتفسّر الأغراض الدلالية والوظائف النحويّة للحروف والأسماء والأفعال، فالحروف تتبدل دلالتها بتبدل طبيعة التعالق، وفاعلية الوظيفة النحوية، فمثلاً كلمة" أو"تفيد في هذا التركيب:
إذا ما غضبنــا غضبة مضـــرية            هتكنا حجاب الشمس أو تمطرَ الدما
معنى " إلى إن" وكانت أداة نصب، وفي هذا التركيب،
عش عزيزًا أو مت وأنت كريم              بين طعن القنا وخفق البنود
أفادت كلمة" أو" معنى التخيير، وكانت حرف عطف.وفي ذلك قال الجرجاني:" واعلم أنّ ليس النظم إلاّ أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها .وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه..وينظر في الجمل التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل...وموضع" أو" من موضع" أم" وموضع"لكن" من موضع"بل". ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيضع كلاً من ذلك بمكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له"[12].
 أظهر الجرجاني أن فكرة العلاقات تنطوي على حركة خلق مستمرة في اللغة ترجع إلى موقع الكلمة في السياق وعلاقتها به، فالكلمة لا يتصور معناها من دون معاني النحو السياقي، وبهذه المعاني تكتسب العناصر الصرفية فاعلية وحيوية، ويكتسب التنظيم، أيضًا، قوة وفاعلية وحسن اتساق ودقة في الأداء والتبليغ،  فقال:" يكون النظم في معاني الكلم دون ألفاظها، وإن نظمها هو توخي معاني النحو فيها، وذلك إنّه إذا ثبت الاتحاد وثبت أنّه في المعاني فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتحدت المعاني "[13]، وحسن الاتحاد مشروط بحسن العلاقة بين المكونات الصرفيّة والنحويّة التي تحرر الكلمة من ثباتها، وتحصّن دلالاتها من خلال تمايز في تشكيلاتها الصوتيّة والنحويّة،فإذا أخذنا هذا البيت للمتنبي:
بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنٌ            ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن[14]
تتبين أنّ التركيب متشكلٌ من حروف وأسماء، فإذا حاولنا عزل هذه المفردات ،كانت مقاطع صوتية لها إمكانياتها الذاتية، ولكنها تفتقر إلى طاقة التكتل القادرة على تقمص الفكرة وبث الإشارات الدلالية، وهي بالتالي عاجزة عن تجسيد حالة المتنبي النفسيّة التي ارتسمت في الكل التركيبيّ غربةً نفسيّة واجتماعية ووطنيّة، وهي حالة شعورية متأصلة في نفسه وليست حالة طارئة، وإنّما التعلل هو الطارئ، وهذه الدلالات نستشفها من تكرار الأسماء النكرة، فالاسم أسبق على الفعل وأكثر استخدامًا، والنكرة أشد تمكنًا من المعرفة وهي أصل المعرفة[15]،  فأضفى التنوين على  السياق تمكينًا وثباتًا وتأصلاً،فكان السبق للاغتراب النفسيّ على التعلل الذي تقدّم في الترتيب وتضاءل  فعله في كلية الرسالة.
أدت قواعد الصرف والنحو دورًا رئيسًا تجلى في متانة السياق وبث الإشارات وتعميق دلالات الحدث، فالأسماء جاءت علاماتها الإعرابية ضمة ظاهرة، والضمة علامة الرفع والإسناد، وهذا دليلٌ على أنّ غربتُه النفسيّة حالة متمكنة وأساس يُسنَدُ إليه كيانه الوجدانيّ، فكانت الجمل جميعها اسمية، والمبتدأ فيها نكرة جوازًا مسبوقًا بنفي، وخبره محذوف جوازًا، أيضًا، فأفاد تكرار كلمة " لا" تأكيد النفي، وأفاد تعدد الجمل الاسمية الثبات، وأفادت النكرة تمكن غربته النفسية، وأفاد حذف الخبر العلم به وانتشاره، فكان للتركيب النحويّ الدور الأساس في توطيد العلاقات السياقيّة وتماسك نظمها وتبني المعاني والدلالات.
تنبّه علماء اللغة الأوائل إلى دور التراكيب في إنتاج المعاني وبث الإشارات، وتعدد الدلالات، ومما قاله السيوطي نقلاً عن الرازي:" ليس الغرض من الوضع إفادة المعاني المفردة، بل الغرض إفادة المركبات والنسب بين المفردات كالفاعلية والمفعولية وغيرهما، "[16]، أي إنّ المعاني التي تنتجها الألفاظ لا تتوقف عند قيمتها المعجمية بل تكتسب من مواقعها السياقية قيمًا مغايرة ومتناقضة ومتباينة، لأنّ العناصر اللغوية  تكتسب قيمتها الترميزية، وطاقتها الإيحائية من وحدة السياق وتماسكه، فكلمة" نديم" ، مثلاً،  عكست في سياق بيت المتنبي، السابق ذكره، تمكن  حالة الاغتراب النفسيّ والاجتماعيّ في وجدان الشاعر، أمّا في كلام الأخطل: 
إذا ما نديمــــــي علّني ثمّ علّــني          ثلاث زجـاجـــات لهنّ هدير
خرجت أجرُّ الطرف حتى كأنني         عليك أمير المؤمنيــــن أميـــر
فلقد عكست كلمة " نديم" المشاركة الوجدانية والاجتماعية، وكشفت عن واقع حركيّ، قوامه فعل وجزاء، منطلقهما ماضٍ نحو مستقبل مؤسس على الارتواء ونشوة الخمر، وهاتين القيمتين المجسدتين فاعلية العنصر اللغويّ"نديم" أظهرتهما دقة النظم ووظيفة مكوناته الصرفيّة والنحويّة، التي وحدها لها الفضل في توليد الصور البلاغيّة وتكثيفها.
يفرض ترتيب عناصر اللغة علامات توحي بوظيفتها ودلالاتها، فتنقل رسالة رغب المرسِل في تبليغها بوضوح ودقة، وأيُّ تغيير في ترتيب العناصر يؤدي إلى تشويه فحوى الرسالة ويسيء إلى مضمونها وجوهرها، فإذا أُخضعت كلمات هذا البيت الشعريّ:
إن المرءُ ميتا بانقضاءِ حياته              ولكن بأن يُبغى عليه فيخذلا[17]
 لتبديل المواقع تتشوّه القيمة المعنويّة الحقيقيّة للمُرسَلة، وتتحوّل عن أهدافها، ويفرّغ التركيب الشعريّ من معانيه ودلالاته، فالمعنى العام يشير إلى حكمة مجتمعية وأخلاقية وإنسانية؛ فالمرء لا يّعد ميتًا إذا انقضت أيامه في الحياة، لأنّ الموت الحقيقيّ موت اجتماعيّ يفرضه الغي والظلم وما يولدانه من خذلان، فصار الخذلان موتًا، والبغي لا حياة، ولذلك كانت علامة الرفع في كلمة" المرء" دليلاً على أنّ " إن" نافية" وليست حرفًا مشبهًا بالفعل، فانتفت فرضية التأكيد والتشبيه، وصارت الحياة الحقيقة موازية للعدل والحق، ويمكن توضيح الفرضية ونتيجتها على النحو التالي:
(إن) = نفي=(-) 
 المرءُ ميت= لا وجود له=(-) نفي
انقضاء الحياة= لا وجود لها= (-) نفي
لكن= الاستدراك، وهنا أفادت إسناد النفي إلى ما بعدها=(-)
بأن يبغى=دلالة الفعل المنصوب مستقبلية سالبة
فيخذلا= دلالة الفعل المنصوب المستقبلية سالبة.
الشطرالأول:                         الشطر الثاني:
حرف نفي (إن)                    حرف استدراك أفاد النفي(لكن)
المرء ميت                             أن يبغى عليه  
انقضاء الحياة                         فيخذلا
قراءة عناصر التركيب المتكاملة والمتقابلة تؤدي إلى التصور التالي:
المرء ميت= البغي
انقضاء الحياة=الخذلان
وبتبديل المواقع في تقديم أو تأخير في صياغة النتائج يصير البغي مساويًا الموت، ويصير الخذلان مرادفًا لانعدام الحياة أي الموت المعنوي، لأنّ الحياة ليست عيشًا إن لم يكن العيش مصحوبًا بالكرامة.
النتيجة:
سالب(إن). سالب(المرء ميتًا) =موجب #(سالب)انقضاء الحياة
 (لكن)= سالب. ( أن يُبغى)= سالب.( فيخذلا)= سالب
أي، ليس الموت انقضاء الحياة،( إن المرء ميتًا)؛ لأن الموت الحقيقي كامن في البغي والخذلان؛( أن يبغى عليه فيخذلا)؛ إذًا: انقضاء الحياة(_) // البغي والخذلان(_)
أي أنّ البغي والخذلان هما السبب الرئيس في انقضاء فاعلية الحياة، فالموت الجسدي خلاص، والخذلان موت روح المكارم.
يظهر تحليل علاقات العناصر الرياضية والمنطقية بعضها ببعض أنّ أيّ تبديل أو تحريف في الكلمات أو مواقعها، أو علاماتها، يحدث تغييرًا في النتيجة، ولا يوصل إلى حقيقة الفكرة التي رمى إليها الشاعر.
إنّ العلاقة بين السياق وبين عناصره اللغويّة علاقة متداخلة متكاملة متوازنة مضبوطة بقوانين الصرف والنحو التي تحدّد طبيعة عناصر التراكيب وشروط اتساقها وتعالقها، فالعلاقة، إذًا، "بين العلامة الإعرابية ودلالة الكلمة في السياق حتمية، وبالتالي فالحركات علامات بارزة في تعيين المعنى الدلاليّ للكلمة، لأنّ الكلمة تفتقر في بنائها المستقل إلى مثل هذه الدلالات، ولا يعرف معناها إلا بعد اتساقها في الجملة.

رابعًا: العلامة الإعرابيّة والقيمة الدلالية

حظيت العلامات الإعرابية بعناية النحويين واهتمامهم، فاستقروا دورها في السياق، وكشفوا عن دلالاتها، ووضعوا تعريفاً علميًّاً منطقيًّا يفصح عن وظيفة الحركات في ترابط التركيب، كما بحثوا في أصل الحركات وقوتها، وبيّنوا إفادة كل حركة، وأصلها ودورها، ورأوا أنّ: "الحركة الإعرابية مع كونها طارئة أقوى من العلامة البنائية الدائمة، لأنّ الإعراب علم لمعان مقصودة، تميز بعضها عن بعض "[18].
شغل دور العلامة وتحديد ماهيتها علماء اللغة سواء أكانوا عربًا أم غير عرب، ورأى تودوروف Todorov أنّ العلامةَ " تتكون من ثلاثة أطراف متعاضدة هي الدال والمدلول والشيء المسمى، فالدال هو الصوت المنطوق والمدلول هو الشيء المستحضر المدرك باعتباره مرتبطا بتفكيرنا"[19]،فالعلامة رمز دالٌ على شيء آخر، وبالتالي العلامة اللغوية  لا تقوم إلا على مسمى، ولا دلالة لها إلا به،  ولا قيمة لها بذاتها، بل بما يفرضه السياق على المسمى، وبما تقدمه للسياق من كشف وتوضيح لوحداته اللغويّة، فهي، أيضًا، تكمن في المعنى المجرد/ المدلول والصورة الصوتية/الدال المرتبطة به، كما قال دي سوسير.
رأى علماء اللغة العربيّة أنّ مواقع العناصر اللغوية المتماثلة، لا تتمايز إلاّ بالعلامات التي تكشف عن المرتبة الوظيفيةّ والدلالية لكلّ عنصر من عناصر التركيبّ، فكان الإعراب، في رأي علماء العرب،  إفصاحًا وإبانة وكشفًا[20]، وكانت علاماته إشارات تُسهم في استنباط المعاني والتقاط إشارات السياق ودلالاته، وطاقة كمونية تتحكم في إنتاج المعاني، لأنّ " الكلمات والجمل لا تتمايز إلا به"[21]، وبخاصة عندما تجتاح النظم السياقيّ تراكيب تمردت على ثوابت المفاهيم التعاليقية، وانساقت إلى النُظم البلاغية التي تفرض تقديمًا وتأخيرًا وحذفًا وتقديرًا،فيأتي التفاعل الدلاليّ أكثر ترميزًا وإيحاء،لأنّ اللغة والكلمات المكونة لها،في رأي بوتون،"  تمثل صورة من العالم، وفي الوقت ذاته تمثل صورة لتفكير المتكلم ولحالته الشعورية"[22]، وهذا التمثيل تعويض لحقائق لا تتبدى إلا بفهم الكلام وكشف دلالاته، فالشوق في كلام المتنبي:
أغالب فيك الشوقَ، والشوقُ أغلبُ         وأعجب من ذا الهجرِ، والهجرُ أعجبُ
 بعد أن كان مفعولاً به خاضعًا لفعل العقل، صار في السياق عينه المسند إليه المتحكم في إبراز الحدث وإعلان الغلبة، وهذا التحوّل حددته العلامة الإعرابية، فكشفت عن الصراع في ذات الشاعر بين أن يكون غالبًا أو مغلوبًا، وكذلك كانت الحال مع الهجر الذي بدأ الكلام عليه مقرونًا بخفض الهجر والتقليل من شأنه، ليتحول في التركيب عينه إلى مسند إليه أساس متمظهر بعلامات القوة والرفع والإسناد.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ العلامة الإعرابية تتحكم بالهندسة الدلاليّة للتراكيب، وهذا يفرض على المتلقي أن يُلم بوظائف العلامات الإعرابية والدلالية، وأن يُحسن دقة استخدامها، ويستوعب آلياتها الإنتاج، وإجراءاتها المنطقيّة، وغاياتها القصديّة، ولقد نبّه علماء اللغة العربيّة إلى ربط دقة المعاني بفهم عميق لعلامات الإعراب، وظهر ذلك  في كلام الكسائي على وظيفة النحو الدلاليّة في حواره مع الفقيه أبي يوسف القاضي الذي ذم النحو، فقال" ماذا تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك، وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامَك، أيٌّهما كنت تأخذ به؟ قال: آخذهما جميعًا، فقال له أخطأت"؛ لأنّ القول الذي يحاسب عليه الرجل في قتل الغلام هو:" أنا قاتلُ غلامِك" لأنّ الاسم المشتق بإضافته أفاد الحدث الماضي، وأما القول: " أنا قاتلُ غلامَك" لأنّه مستقبل ولم يقع ولا تكون المحاسبة على أمر لم يقع[23].
إنّ للعلامة الإعرابيّة دورًا أساسًا في رصف الكلمات وإنتاج الدلالة، وكانت هذه العلامات، في رأي علماء العرب، نتاج الفكر المنطقي، فانصبت اهتماماتهم على معنى العلامة، وعلى فهم دلالاتها ووظائفها، وحاولوا ربط أسماء الحركات بشكل النطق، فالضمة جاءت من ضم الشفتين عند النطق بها، والفتحة من فتح الفم، وكأنه ينتصب في نطقها، والكسرة من جر الفك إلى أسفل، فكأنّه يتكسّر، ويسقط ويهوى إلى أسفل؛ وحاولوا تعليل الحركات في السياق، فرأوا أنّ الرفع يدل على العلو، فيقال ارتفع الشيء ارتفاعًا، إذا علا [24]، ولم يهملوا دور العلامات المُقدرة على الحرف الأخير، فقسّموا الإعراب إلى ظاهر ومُقدّر، وعللوا  سبب ظهور الحركة أو تقديرها على الحرف الأخير تعليلاً علمياً منطقياً يفسّر ويؤول قيمة النشاط اللغويّ ودور الحركة في كشف الدلالة، وبخاصة عندما يتعرض السياق للتقديم والتأخير والحذف،  فبحثوا عن شروط التقديم والتأخير والحذف، وفي قوانين وخصائص التعجب والنداء والقسم والاختصاص والتنازع والاشتغال والاستثناء، والمدح والذم ، وفي وظيفة التوكيد والعطف والبدل والنعت والنفي والنهي، وغيرها من أساليب الأنساق الصرفية والنحوية المؤسسة ضوابط تشكيل سياقات صحيحة،لا حصر لها،فأكدوا على أنّ أي تغيير يفرضه التركيب على موقع العنصر يؤثر على رمزية العلامة وقيمة العنصر الدلالية.
يزخر الخطاب القرآني بنماذج لغوية تظهر دور العلامة وقيمتها الدلالية في فهم النص القرآني وتأويل آياته، وذلك مهما حدث على التركيب من تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار؛ ونبّه الفقهاء واللغويون إلى التركيز على علامات الإعراب، وبخاصة في قراءة القرآن الكريم، لأنّ تبديل الحركات يسيء إلى جواهر المعاني، ويعكس دلالاتها ويشوه صورها،  ففي قوله تعالى:
_"وإلى عادٍ أخاهم هودًا" [25]
 جاءت كلمة "أخاهم" في حالة النصب، فلو جاءت بعلامة الجر"أخيهم " لتبدلت الدلالة وتغيّر المعنى، لأنّ النصب أشار إلى فعل محذوف تقديره "وأرسلنا إلى عاد أخاهم "فكانت علامة النصب المكتسبة من خلال السياق القرآني دليلاً إلى فعل محذوف جوازًا، لأسباب بلاغية وجمالية ومنطقية، فاكتسبت الكلمة بعلامة النصب وظيفة نحوية ومعنى بلاغيًا ودينيًّا أكثر عمقًا وإفادة.
_ وفي قوله تعالى :" وهو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام وكان عرشُه على الماء ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً ولئن قلتم إنّكم مبعوثون من بعد الموت ليقولَنّ الذين كفروا إن هذا إلاّ سحرٌ مبين"7" ولئن أخّرنا عنهم العذابَ إلى أمة معدودة ليقولُنّ ما يحبسه ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفًا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون"8[26] ، ورد فعل" يقول" متصلاً بنون التوكيد، وذلك في آيتين متعاقبتين، ولكنّ قوانين تشكيل المكوّن الصرفيّ وما يرتبط به من شروط الإسناد التركيبيّ جعلت من الفعل الأوّل مبنيًا على الفتح لاتصاله بنون التوكيد،و لأنّ المسند إليه اسم ظاهر، وبالتالي بقى الفعل في صيغة المفرد، أمّا الفعل الثاني فكان مرفوعًا وعلامة رفعه نون محذوفة لأنّه من الأفعال الخمسة، وكان الحذف فرارًا من توالي الأمثال، أمّا  الضمة فهي إشارة إلى الفاعل المحذوف منعًا لالتقاء الساكنين، وهي في الأصل " واو" الجماعة المتصلة بالأفعال الخمسة؛ فكيف يستطيع القارئ أن يفهم بلاغة القرآن وعظمة دلالات آياته من دون معرفة علميّة بقوانين النحو؟
_وفي قوله تعالى" إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ "[27]  رفع بعض القرّاء لفظ الجلالة، وجرَّ كلمتي( عباده_ العلماء)، وصار الله فاعلاً أسندت إليه الخشية، فكان الرفع في اسم الجلالة وعلامة الجر في كلمتي " عباده" و" العلماء"حجة لدى المشككين في جعل الله فاعلاً خائفا من عباده العلماء، أما القراءة الصحيحة فتؤكد على اقتران خشية الله بالمعرفة، فالعلماء يزدادون تعلقا بالخالق، كلما ازدادوا معرفة، ؛ فكان الإعراب توضيحا للمعنى، وتكريمًا للعلماء، وتعظيمًا للخالق، ودعوة إلى العلم والمعرفة.
_ وفي قوله تعالى:" إنّا أرسلناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" [28]، قرئت كلمة" تسأل" بالجزم، ووردت في القرآن  مرفوعة، والدلالة تتغيّر بين الرفع والجزم،  فقال الأخفش: إذا استخدمت كلمة تسأل بالجزم تغيرت دلالة الكلمة في السياق، وصار الكلام دالاً على النهي عن السؤال، وفي ذلك تعظيم لما فيه من العذاب، أما الرفع فهو على النفي، وتكون الجملة استئنافية فكان المعنى:" أرسلناك بشيرًا ونذيرًا وغير سائل ، أو غير مسؤول  وهذا المعنى أفصح من دلالة الجزم.."[29] .
_" وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات"[30]
الابتلاء والاختبار يكون أفصح دلالة وأعظم قدرًا إذا كان من الله لعبده ولا يجوز أن يمتحن العبدُ ربَه ويختبره، والتمييز هنا ما كان ليحصل لولا الإفصاح، عن مواقع الكلم والتمييز بين الفاعل والمفعول به، من دون علامات الإعراب، فالحركات رموز للأصوات، والصوت اللغوي جزء رئيس من تشكيل الكلمة، وهذه الحركات هي المرشدة إلى المعاني، ولقد عبّر الزجاجي عن ذلك بقوله: "إن الأسماء لما كانت تعتو رها المعاني وتكون فاعلة ومفعولة ومضافة، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، جعلت حركات الإعراب تبين عن هذه المعاني، وتدل عليها ليتسع لهم في اللغة ما يريدون من تقديم وتأخير عند الحاجة"[31].
تضمر علامات الإعراب فعلاً تحريضيًّا يحرّر الكلمات من ثباتها، ويحفّزها على التلاقي والتواصل والإسرار ومن ثم المكاشفة؛ لأنّ الحركة، في رأي ابن جني، تقلق الحرف وتزيله عن سكونه وتُحركه للالتقاء بغيره، وبهذا التلاقي والتآلف ضمن السياق تتحدد قيمة الكلمات الدلاليّة، يكتسب التركيب معنى عامًا/ خاصًا، يدين في تشكُّله إلى حركة الحروف، بوصفها وسيلة ربط، وكمون إسرار وإفصاح، ولكنّ هذه العلامات بقدر ما تتمتع به من طاقة ترميز، وفاعلية خلق، فهي تحرص على أصالتها وثباتها، فاختصت الحركات بمدلولاتها في السياق، واختصت الضمة بعلامة المسند إليه، والفتحة بعلامة المفعولية، والكسرة بعلامة الخفض والجر، ولكنّ هذه العلامات لا تستقل بدلالاتها من دون مرموز إليه تكتسب منه وجودَها، وتكسبه، في الوقت عينه، موقعه السياقي وقيمته المعنويّة.
حظيت العلامات الإعرابيّة باهتمام علماء اللغة، ورأوا أنّها، على الرغم من استقلاليتها، فهي تُكتسب اكتساباً في السياق، وليست من أصل البناء التركيبي للكلمة، أمّا ما كان منها ثابتًا في سكونية حرفه الأخير فلقد أطلقوا عليه صفة البناء اللفظيّ، وبحثوا عن محله الإعرابيّ  وعن موقعه في الكلام، وذلك من خلال علاقته ببقية العناصر التركيبية للجملة النحويّة، وعبر الخليل بن أحمد عن ذلك بقوله: "إن الفتحة والكسرة والضمة زوائد وهنّ يلحقن الحروف ليوصل إلى التكلم به، والبناء هو الساكن لا زيادة فيه"[32]، فكان للبناء دلالات مغايرة للإعراب، ولذلك حرص الفصحاء من العرب على استخدام البناء والإعراب، وفق ما تفرضه المعاني المحتجبة في ظلال التراكيب، ففي قول أمية بن الصلت نلمس اختلاف دلالة الأسماء الواقعة بعد" لا" باختلاف طبيعة "لا" وظيفتها في الاسم الواقع بعدها:
ولا لغوٌ ولا تأثيمَ فيها               ولا حينٌ ولا فيها مُليم[33]
 جاءت "لا"الأولى والثالثة، والرابعة، تنفي الخبر عن الاسم الواقع بعدها فقط، لأنّ "لا" أفادت النفي، وكانت بمعنى " ليس"، فجاءت الكلمات معربة، أمّا"لا" الثانية" فلقد نفت الخبر عن جميع أفراد جنس المبتدأ لأنّها نافية للجنس ، وجاءت الكلمة بعدها مبنية على الفتح، لأسباب نحوية وبلاغية تفضي إلى دلالات منطقية.
 نجد القضية عينها في بيت لأبي الطيب يقول فيه:
لا خيلَ عندك تهديها ولا مالٌ               فليسعدِ النطقُ إن لم تُسعدِ الحالُ.

كان تركيز المتنبي على نفي وجود القوة المعنوية نفيًا قاطعًا؛ فالخيل التي يُكنى بعددها عن الشجاعة والإقدام والبطولة، لا وجود لها، ويمكن أن تُرى بالعين المجردة، فتأكيد النفي لا يحمل التصديق أو الكذب،  ولم تكن الدلالة عينها في نفي القوة المادية، لأنّ مال الشخص مخبوء والكلام عليه يجوز أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فكان النفي حصرًا على واقع آني يجمع بين المرسل والمتلقي، علمًا أن تبادل المواقع بين كلمتي" خيل" و"مال" لا يحدث تغييرًا في الوزن والموسيقى، لذلك يمكن القول إنّ ترتيب الكلمات وعلاماتها الإعرابية اقتضته غايات بلاغيّة ودلالات معنويّة، اجتماعيّة ونفسية وقيمية إنسانيّة.


يحرّض التشكيل اللغويّ نشاط السياق ويوجهه في عملية ترتيب الألفاظ الخاضعة، في تأدية المعاني، لعلامات تفرضها العلاقات السياقية الصرفية والنحوية، فيتم تحديد قيمة العنصر اللغوي ورتبته التنظيمية، ووظيفته وطبيعة ترابطه مع بقية العناصر، لأنّ العلامة الإعرابية وحدها القادرة على التمييز بين علاقات الإسناد أو التعدية أو غيرها من العلاقات، فإذا قرأنا هذا البيت لامرئ القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة      كفاني، ولم أطلب، قليلٌ من المالِ[34]
وجدنا أنه يتضمن فعلين" كفاني" و" أطلب" قبل كلمة"قليل" الاسم المعرب، والفعل الأول متعدٍ إلى مفعول به واحد وهو محتاج إلى فاعل، وفاعله يجوز أن يكون مستترًا، والفعل "أطلب" يحتاج إلى مفعول به وفاعله مستتر وجوبًا تقديره "أنا"، ولذلك يجوز أن تكون كلمة " قليل" فاعلاً للفعل "كفاني" أو مفعولاً به للفعل "أطلب" فجاءت علامة الرفع لتحدد موقع الكلمة في السياق على أنّها مسند إليه " فاعل للفعل" كفاني" وليست مفعولاً به للفعل أطلب" وبتحديد مواقع الكلم في السياق من خلال علامة الإعراب تتغير الدلالة فالشاعر، وفق ما فسّر ابن يعيش في كتابه شرح المفصل، أراد أنّ يقول " إنني لو سعيت لمنزلة دنية كفاني قليل من المال ولم أطلب الكثير"[35]
أثبت علماء اللغة العربيّة دور العلامة الإعرابية في السياق، وعلّلوا سبب ورودها في آخر الكلمة من دون أوائلها وأوساطها بفكر فيزيائيّ علميّ منطقي، فقال الزجاجي: "لم يُجعل الإعراب أولاً، لأنّ الأول تليه الحركة ضرورة الابتداء، لأنه لا يبتدأ إلا بمتحرك، ولا يوقف إلا على ساكن، فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب، لأنّ الحركتين لا تجتمعان في حرف واحد، ولما فات وقوعه أولاً لم يكن أن يُجعل وسطاً، لأنّ أوساط الأسماء مختلفة، لأنّها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسباعية، فأوساطها مختلفة..."[36]، وبالمنطق عينه برّر قطرب عدم توالي ساكنين في السياق، فقال: "إنّما أعربت العرب كلامها، لأنّ الاسم في حال يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون، وأمكنهم التحريك، جعلوا التحريك معاقباً للإسكان ليتبدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين في حشو الكلمة ولا في حشو بيت، ولا بين أحرف متحركة، لأن في اجتماع الساكنين يبطئون، وفي كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب الصلة في كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الاسكان"[37]. 
إنّ حركة السياق شبيهة بحركة الوسط الفيزيائي، فلا ساكن يعقب سكونًا من دون حركة، وكذلك لا يلتقي ساكنان في سياق لغويّ، فإذا تتابعت السواكن في السياق تخلت بعض الحروف عن سكونيتها لمصلحة الحرف غير القادر على الحركة، وإذا تعذّر النطق بالساكن تمت الاستعانة بحرف وصل يوصل إلى النطق به، فأضفى العرب على السياق جمالية في الصورة والصوت والمعنى والدلالة، وحافظت التراكيب على نسبية تعالقية بين المكونات اللغوية وعلاماتها ودلالاتها ورموزها وإيحاءاته، وفق عمليات تناسبية تعطي للسياق قيمًا دلالية مغايرة ومتمايزة. 
خامسًا: كلمة أخيرة
لما كانت الكلمات المنطوقة أو المكتوبة تختزل الوجود والغياب للشيء المستحضر، فيمكن اعتبار اللغة شرطًا أساسًا للوعي الذاتي والجمعيّ، لأنّها تشكّل الوسيط بين الإنسان وبين الأشياء فاللغة، إذًا، خلق مستمر تبني الفكر، وتتبنى تجسيد حركته، ولما كان البناء القابل للاستمرار متسمًا بالجدة، فلا بد من أن تواكب أنماطه المتجددة انحرافات في دلالة المنطوق اللغويّ، وإضافات تفرضها طبيعة التراكيب المشحونة بحركات داخلية مضبوطة بقوانين صرفية ونحوية، تعمل على فرملة المكونات ضمن مساراتها الدلالية النحوية والصرفية والبلاغية، من دون أن تسلبها حريتها في اختيار مواقعها داخل التنظيم بما يتناسب والقيمة المعنوية للنتاج الفكريّ.
تمارس اللغة رقابة ذاتية مشحونة بفعل توليديّ، يسمح لها أن تنغلق على طاقات من الاستخدامات غير المحدودة، فتنتج عددًا لا حصر له من السياقات التي تنتظم ضمنها وحدات لغوية متشابكة في رباطها التكوينيّ، ومحرضة على توليد المعاني، وهذه الطاقات التوليدية تحّدد مساراتها عمليات لغوية ذهنية منطقية توازن بين الألفاظ المتعالقة ودلالاتها،  فتعقد المكونات النحوية والصرفية عقد توافق واتفاق يضمن سلامة السياق، من جهة، ويتعهد، من جهة ثانية، نقل تصورات الفكر وحركاته بأمانة تضمن" للنص معنى موضوعيًّا مقصودًا من كاتبه..."[38]، فتمارس اللغة نشاطها في سياقات تتبنى نتاج نشاطات الفكر، وتكوّن فضاء معرفيًّا لا حدود له، يحرّض على الحرية والإبداع، بقدر ما يحترم قوانين مكونات عناصره وخصائصها النحوية والصرفيّة.




الهوامش :


[1]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص3
[2]_دراسات في نقد الشعر، مؤسسة الأبحاث العربيّة، ط1، 1980،ص 64.
[3]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 314 – 315.
[4]_دلائل الإعجاز، ص316.
[5]_ دلائل الإعجاز،ص   153 .
[6] _meaning and style.p8.
[7] _semantic fields .p 174.
[8] _ oilman,  meaning and style.Oxford..p9.
[9] _nida.componential analysis of meaning. mouton 1975.p196.
[10] _ياقوت الحموي، معجم الأدباء،8/ 214.
[11] _ابن جني، سر صناعة الإعراب، ص 19
 -[12] الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 64_65.
[13] _ دلائل الإعجاز ، ص317.
[14] _ المتنبي، الديوان،
[15] _ سيبويه، ج1، ص 20_21_22.
[16] _ المزهر،ج1، ص41.
[17] _محمد محيي الدين عبد الحميد، شرح ابن عقيل،لا.ت، ج1، ص 318.
[18] _الكليات، ج1، 216.
[19] _theories du symbol, seuil,1977,p17.
[20] _الجرجاني، أسرار البلاغة،تح السيد محمد رشيد رضا،دار الفكر، ص56.
[21] _ السيوطي، الأشباه والنظائر،ج1، ص 89.
[22] G. Bouton, "La signification" éd. Klincksieck, 1979 p. 13.
[23] _ ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء،13/177
- [24] الايضاح في علل النحو،ص 93 سر صناعة الإعراب ج1،ص 30_31.
[25] _ هود 50.
[26] _ هود:7_8.
[27] _ فاطر:28.
[28] _ البقرة:119.
[29] _ الأخفش، معاني القرآن، ج1، ص 146.
[30] _ البقرة:128.
[31] _ السيوطي، الأشباه والنظائر، ج1، ص 76- 78.
[32] _ سيبويه، الكتاب، ج2، ص 315.
[33] _ البيت مأخوذ من شرح ابن عقيل، ج1، ص 402.
[34] _ امرؤ القيس ، الديوان، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، ط3، القاهرة، ص 39.
[35] _ج1، ص79.
[36] _ الزجاجي الإيضاح في علل النحو، ص 76.
37- السيوطي الأشباه والنظائر، ج1، ص 76.
[38]_M .Charles l,arbre et la source, p,152.