الأحد، 25 أكتوبر 2015


السياق اللغويّ وفعل المكوّنات
 الصرفيّة والنحويّة

                                                    أ.د. مها خيربك ناصر
                                                                         جامعة البلمند  (لبنان)
أولاً: عتبة البحث
تتمظهر حركة الفكر بلغة تنقل الكمون العقليّ من التخفي إلى التشخصن، ومن المجهول إلى المعلوم، لأنّ الفكر لا يكون بذاته، بل بما يتأثر به من الأحداث والأحوال والمعطيات، فيتجلى الأثر فعلاً حركيًّا، مستقره لغةٌ قادرة على استقبال هيولى الحركة، وتأطير ماهيتها،  وتبني كينونتها، وهذا يفرض على اللغة حركة داخلية تُحرّض على تنمية ذاتها بذاتها ولذاتها، لتبقى قادرة على تبني التصورات الذهنية، وذلك في أنماط تعبيرية تجسّد حركية العقل المدرك ذاته بذاته.
تمتلك اللغة، إذًا، في اللحظة عينها، خاصيتين؛ خاصية سكونية تتبدى في وظيفة استقبالية تجعل منها مستقرًا للأفكار المجردة، وخاصية حركية تتبنى إعادة تشكيل وتنظيم الأفكار في أنساق لغوية قابلة للإرسال والتلقي. وبعمليتي الاستقبال والإرسال تتقاطع وتتمركز خصائص وأسرار النتاج اللغويّ في سياقات تُضمر فعل اللغة الحركيّ الذي يمارس مهماته، غير المحدودة، داخل اللغة.
بهذا المعطى يمكن اعتبار اللغة زمرة مقفلة تنغلق على أسرارها وحيويتها، وتتمتع، في الوقت عينه، بفعل تحريضي يساعدها على التجديد بقدر ما يسمح لها أن تتفرد بحق الإلغاء والتوليد، والتحويل والترميز والإفصاح والإبانة والكشف، في معادلات كلامية تضمن النسبية المنطقية بين نشاط الفكر ونشاط اللغة، وهذه النسبية تؤمنها قوانين تشكيل داخلي ينتجها العقل الإنسانيّ، وتلتزم بها الأنساق اللغويّة، وذلك وفق أسس منطقية توازن بين صورة المُدرَك وحقيقته، وبين الدال والمدلول عليه، وبين اللفظ ومعناه، وبين التصورات الذهنية وأشكالها اللغويّة، وذلك مهما تنوّعت التراكيب، وتعدّدت السياقات وتمايزت تأويلاتها.
يمنح السياق الكلمات معاني جديدة من دون أن تتخلى عن معناها الوضعي أو تنفصل عنه، فتضمر اللغة مجموعة من الدلالات والفاعليات والارتياضات التي لا تنتهي، ويصير السياق طاقة تحويل وتوليد تتحصن داخله قيمة التراكيب اللغويّة المرتبطة بالكلّ السياقيّ في كينونة أوجدتها علاقات تعالقية، منحت العنصر اللغوي دلالات تجاوزت بها المعنى الوضعيّ، من دون أن تفخخه، فأسست عمليتا الارتباط بالجذر والتحرر من سلطته المعجمية لدراسات غايتها الكشف عن طبيعة علاقات النظم السياقي، وعن قوانين تشكّله الداخليّ، التي تضبط حركية عناصر اللغة في متحد لغويّ، له خصائصه ومقوماته الذاتية، بوصفها قوانين مُحرِّضة غير مقيدة، تضمن حصانة تركيب العناصر اللغويّة، وتمنحها، في الوقت عينه، حرية التطور والتطوير الدلاليين ضمن فضاءات التداولات اللغويّة.

ثانيًا: نظرية النظم السياقي

النظم لغة هو الجمع والهضم والتأليف والاتساق، وهو، في رأي الجرجاني، ليس" سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض"[1]، واصطلاحًا هو مجموع وحدات لغويّة متماسكة في نظام كليّ يضمن فرادة المتحد اللغويّ، ويحفظ سلامة تعالق وحداته المستقلة بخصائص ذاتية غير خارجة على طبيعة السياق، وغير معزولة عن كليّة النظم، فتحتفظ العناصر اللغويّة بهويتها وتكتسب من أي متحد لغوي جديد سمات ودلالات تتمايز بقدر ما تتنوع الأنساق، وتتباين القراءات والتأويلات والمقاربات.
بهذا المفهوم العام، يمكن القول إنّ فاعلية عملية الجمع والضم والتأليف والاتساق مرتبطة حكمًا بجودة الصياغة المنظمة، بمعنى آخر بدقة ترتيب عملية التعالق، وبمهارة تنسيق إجراءات التآزر بين الوحدات اللغويّة، لأنها مهارة عقلية ومعرفية تمنح النظم سلامته، وتحفظه من التشظي والتشويه، وتثبّت حضوره، وتغني دلالاته المنطقية المستمدة من تماسك البنية اللغويّة في الأجساد النصيّة الخاضعة في تراكيب بنياتها لقوانين تشكيل داخليّ عاصمة وضامنة؛ أي عاصمة سلامة عملية التنظيم، وضامنة مصداقية وجودة إنتاج الدلالة.
تضمن دقة عملية التنظيم، وحرفية استخدام عناصر اللغة، ومهارة توظيف قوانين تعالقها، ولادة مرسلة لغوية موسومة بجودة النظم وحسن التناسق والتوازن والتماسك، ومشحونة بإغراءات دلاليّة تضفي على عناصر التركيب ووحداته قيمًا جمالية، وإشارات جديدة ومتنوعة تحقّق الغرض والهدف والإفادة، فتقوى العناصر اللغوية بالسياق ويقوى بها، فيتسع فضاء التأويل، ويتم القبض على بعض من بوح تستمد الروح الكلية المحتجبة وراء سياقات الأجساد النصية.
تستمد الكلمات من التركيب السياقيّ فاعليتها، وتكتسب منه معاني مجازية، غايتها، غير المعلنة، تضليل مباشرة الرقابة وتشظية سلطتها، لأنّ السياق اللغويّ المنظم يعزز الكلمات بقدرة على تلقي البوح المكبوت، ومن ثم تجسيده في نشاط لغوي مشحون بالترميز والتشفير، تضمنه إجراءات صرفية ونحوية وبلاغية منظمة، تشكّل جزرًا بنيوية تتحد في بنية كليّة خاضعة لقوانين النظم السياقيّ.
 تظهر الدراسات الألسنية أهمية التنظيم السياقي في تحرير الألفاظ من ثباتها المعجميّ، وإكسابها طاقة تحويليّة تضاعف من وظيفتها الدلالية، وتمنحها معنىً خاصًا جديدًا ومغايرًا، وذلك بفضل نظام كليّ يتحكم في إنتاج السياق وحمايته من الاضطراب والضعف والخلل التركيبيّ، فهو، في رأي الياس خوري، يحرّر الكلمة من ثباتها " لتصير" جزءًا من السياق... فالكلمة هي، بمعنى آخر، تشكيل لمعان محتملة، والسياق وحده هو الذي يؤكد على العناصر التي يجب تغليبها في هذا الاحتمال"[2].
اهتم علماء اللغة العربية بجمالية السياق اللغويّ الذي جاء عن العرب نسيجًا بلاغيًّا محكم التركيب والصياغة، ووضعوا دراسات وأبحاثًا تشرح وتؤول وتفسّر نظريات النظم، وما تقوم عليه من أسس صرفية وقوانين نحويّة، ورأوا أنّ السياق ليس حركة مباشرة نحو مدلول موجه، وإنّما هو حركة فيزيائية، مسارها متعدد الانحناءات يوحي بدلالات ينتجها نشاط العنصر اللغويّ الذي يحدّد، بحركته الجمعية مع بقية العناصر، سمات فضائية المسار الدلالي، وحركية النص اللامتناهية وغير المستقرة، فكانت العلاقة بين عناصر اللغة والسياق علاقة تعانق وتكامل وتداخل وتناظر وتكافؤ، فلا وجود لسياق من دون عنصر لغويّ، ولا قيمة دلالية للعنصر اللغويّ خارج السياق.
أكّد الجرجاني في دراساته اللغوية على حتمية العلاقة بين السياق مكوناته اللغويّة؛ الصرفيّة والنحويّة، ورأى أنّ العقل لا يمكن أن يتصور معنى فعل أو اسم من دون تعالق مُنظَّم ضمن السياق؛ فقال" لا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعماله فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً، أو يريد منه حكمًا سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرًا أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك... لم يكن الفعل وحده من دون الاسم ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل، كلامًا"[3] .
شبّه الجرجاني صاحب الكلام الجيد بالصائغ الذي يحسن خلط الذهب والفضة بنسب تتناسب وقيمة المنتج، فقال: إنّ " واضع الكلام مثل من يأخذ قطعًا من الذهب والفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة"[4] ، وبهذا المزج الفني الإبداعيّ الدقيق  تكتسب الأدوات والظروف والضمائر واللواحق، التي لا قيمة لها في ذاتها، نشاطًا لغويًا متجددًا، وبناءً إيقاعيًا عميقًا، وتصير من أهم الوحدات اللغوية الفاعلة في بنية التركيب المتكامل والمتجانس.
تظهر القراءة التحليلية لبيتين من الشعر استدلّ بهما الجرجانيّ على دور السياق في تأدية المعنى، أنّ الحروف الداخلة في بنية التركيب( إنّ_ لا_ على_أن_ الباء_حتى_ الووا_ كأنّ_ لم) لا قيمة دلالية لها خارج التركيب، وكذلك لا قيمة فنية وترميزية وأدائية للتركيب من دون هذه الحروف، فإذا وردت الكلمات من دون هذه الروابط، فقد التركيب متانته ووحدته وقيمته الجمالية.
وإنك لا تجـــــود على جــــــواد    هبــــاتك أن يُلقب بالجـــــواد
أعطيت حتى تركت الريح حاسرة        وجُدت حتى كأن الغيث لم يجدِ[5]
حظيت نظرية السياق باهتمام اللغويين العالميين، وتناولت دراساتهم معنى الكلمة في المنهج السياقي contextual approach، وكيفية" استعمالها في اللغة"[6]، فأظهروا الدور الذي تؤديه من خلال استخدامها في سياقات مختلفة[7]، وهذا "ما ركّز عليه فيرث Firthوأنصاره"[8] ، فربطوا طرق النظم collocations بضرورة الالتزام بصرامة قوانين الصرف والنحو؛ لأنّها  تضمن سلامة العلاقات مهما تباينت أشكالها وجواهرها، والجملة،في رأيهم،لا تؤدي معنى تامًاmeaningful  متكاملاً، إلاّ إذا امتثلت كينونتها  إلى قوانين النحو وتحصّنت  ضمن شروطه.
تأسيسًا على دور النحو في إنتاج السياق ذي النسيج المتماسك، ميّز فيرثFirth   بين نوعين من النظم؛ النظم العادي المتداول بكثرة، والنظم غير العادي ّ المقصور على كتّاب لهم أساليبهم الخاصة، لأنّ اللغة كما يراها لاكانLacan ، وحدة لا تتجزأ، وبالتالي لا يمكن الفصل بين اللفظ والمعنى ولا يمكن عزل فاعلية التركيب عن فاعلية المكون الصرفيّ، أو المكون النحويّ، أو  المكون البلاغيّ، فهذه المكونات جميعها وحدات دلالية" تقع في مجاورة وحدات أخرى. وإن معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفها أو تحديدها إلا بملاحظة الوحدات الأخرى التي تقع مجاورة لها""[9].
تكشف الدراسات اللغوية، العربية منها وغير العربيّة، عن تشابك العلاقة النفعية الدلالية بين الوحدات اللغويّة وطرق نظمها، لأنّ اللغة، أية لغة، لها نظام تشفيريّ مُرمَّز، ولا قيمة لإشاراتها ورموزها خارج تشكيلات عناصرها السياقية، الخاضعة لرقابة غير قمعية( يمكن وصفها بالديموقراطية) تمارسها اللغة على ذاتها، وفق قوانين(صارمة /مرنة) تضمن تبادل المواقع وتوليد الدلالة، وتحقيق القصدية، فالسياق يثري العناصر بالدلالات. والعناصر تمنح السياق كينونته ووجوده، فيكتسب من المكون الصرفيّ والنحويّ جماله البلاغيّ وقيمه الدلالية، وبالتالي لا يمكن عزل فاعلية السياق عن فاعلية العناصر،   فإذا أخذنا كلمات هذا البيت لبشار بن برد:
كأن مُثارَ النقع فوق رؤوسنا          وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
نجد كلمة ليل نكرة مرفوعة، ولم تكن منصوبة على أنّها ظرف، بل جاءت خبرًا ل"كأنّ"، فكان مثار النقع الكثيف أشبه بالليل، ولو كانت الكلمة منصوبة لتغيرت الدلالة واضطرب المعنى إذ لا يجوز أن تسند جملة " تهاوى كواكبه" إلى مُثار النقع، ولذلك يجد المتلقي استحالة في تبديل مواقع الكلمات، لأنّ أي تغيير في الترتيب أو الحركات يفسد المعنى والدلالة، ويسيء إلى غاية المرسلة اللغويّة.
رأى الجرجاني، في وحدة هذه البيت، دلالة على ارتباط المعاني بطبيعة التعالق ووظيفة العنصر النحويّة في السياق، هذه الوظيفة التي تحدّد موقعه وحركته، وتفرض على المتلقي احترام النظم وعدم المساس بالوحدة السياقية، فتمظهر هذا البيت لبشار بحلقة دائرية متماسكة لا تقبل التقسيم ولا يمكن قطع لفظ منه أو تغييره، فكان ترتيب الألفاظ وسيلة إلى تقمص المعاني،  ومن ثمّ كشفها، فالكلمة، كما وصفها برتراند راسل، تحمل معنى غامضًا لدرجة ما، ولا تفصح عن معناها الحقيقيّ إلاّ بالسياق، وهذا المعنى، في رأيي، يُخضع العنصر اللغوي/ الدال لطبيعة البنية اللغوية وما تتقيد به من قوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة بالإضافة إلى ما يفرضه السياق النفسيّ والعاطفي والاجتماعي، ففي مسرحية "Bajazet"، لراسين Racine  خرجت كلمة sortez التي وجهتها  روكسان Roxane إلى باجازيت Bajazet، عن معناها المعجمي وعن مباشريتها، وصار لها معنى مغاير فرضه سياق الموقف وما أحاط به من سياقات عاطفيّة ونفسيّة، فالكلمة معجميًّا تفيد معنى " اخرج" وفي السياق المسرحيّ أفادت معنى mourez "مت"لأنّ روكسان وضعت على الباب المغلق الذي سيخرج منه باجازيت عبيدًا وأمرتهم أن يلقوا به في البوسفور، فحملت الكلمة دلالة الحكم بالموت، وهذا ما حدث .

ثالثًا : النظم السياقي وقوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة

أثبتت الدراسات أنّ قيمة السياق الكليّة ودقة هندسته مشروطة بجماليات التشكيل الصرفيّ المتولد من نشاط العناصر الصرفية وعلاقاتها التبادلية، ولكن هذه المكونات الصرفية، تبقى أجزاءً متقطعة لا لحمة بينها من دون مكونات نحوية ترتّب الأجزاء، منطقيّا، في عمليات تعاقبية أو تبادلية تحت ظروف رقابية تضمن سلامة التركيب، مهما تبدلت مواقع العناصر اللغويّة.
يمتاز السياق،إذًا، بديناميكية تحويلية مضبوطة  بنظام تعاليقي يتحكّم بآلية إنتاج المعاني ودلالاتها، لأنّه  لا يمكن عزل معاني الكلم مجردة عن نظامها السياقي وقوانينها النحويّة، ولقد تنبّه السيرافي إلى أهمية النحو في السياق، فقال:" معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ"  [10].
إنّ هذه العمليات الهندسيّة التبادلية الجبرية من تقديم وتأخير وحذف واختزال، تعطي الألفاظ وظائف نحوية ودلالية وقوة إغراء تحرّض على كشف أسرارها وخصائصها، فالحروف، مثلاً،  لا تتسم بأيّة دلالة من دون نشاطها اللغويّ ضمن التركيب، فتمخض الاستقراء اللغويّ عن دراسات غايتها البحث في خصائص الحروف، وقدرتها على تغيير دلالات الأفعال والأسماء في السياق، لتكشف عن نظامها الوظيفي،وبنائها الصوتي وارتباطه ببناء الكلمات ومعانيها[11]، فالفعل" أحال"، على سبيل المثال، تتغير دلالاته وفق حرف الجر المتعلق به، فإذا قلنا:" أحال بالمكان" أفاد الفعل مع حرف الجر معنى" أقام حولاً" وإذا قلنا: "أحال إلى" فالفعل يستخدم لمن أنهى مهماته وأُحيل إلى التقاعد، وإذا قلنا: "أحال على"، كان الاستخدام محصورًا بإحالة موضوع ما على شخص آخر.
يزخر الموروث الثقافيّ بأمثلة توضّح وتفسّر الأغراض الدلالية والوظائف النحويّة للحروف والأسماء والأفعال، فالحروف تتبدل دلالتها بتبدل طبيعة التعالق، وفاعلية الوظيفة النحوية، فمثلاً كلمة" أو"تفيد في هذا التركيب:
إذا ما غضبنــا غضبة مضـــرية            هتكنا حجاب الشمس أو تمطرَ الدما
معنى " إلى إن" وكانت أداة نصب، وفي هذا التركيب،
عش عزيزًا أو مت وأنت كريم              بين طعن القنا وخفق البنود
أفادت كلمة" أو" معنى التخيير، وكانت حرف عطف.وفي ذلك قال الجرجاني:" واعلم أنّ ليس النظم إلاّ أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها .وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه..وينظر في الجمل التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل...وموضع" أو" من موضع" أم" وموضع"لكن" من موضع"بل". ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيضع كلاً من ذلك بمكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له"[12].
 أظهر الجرجاني أن فكرة العلاقات تنطوي على حركة خلق مستمرة في اللغة ترجع إلى موقع الكلمة في السياق وعلاقتها به، فالكلمة لا يتصور معناها من دون معاني النحو السياقي، وبهذه المعاني تكتسب العناصر الصرفية فاعلية وحيوية، ويكتسب التنظيم، أيضًا، قوة وفاعلية وحسن اتساق ودقة في الأداء والتبليغ،  فقال:" يكون النظم في معاني الكلم دون ألفاظها، وإن نظمها هو توخي معاني النحو فيها، وذلك إنّه إذا ثبت الاتحاد وثبت أنّه في المعاني فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتحدت المعاني "[13]، وحسن الاتحاد مشروط بحسن العلاقة بين المكونات الصرفيّة والنحويّة التي تحرر الكلمة من ثباتها، وتحصّن دلالاتها من خلال تمايز في تشكيلاتها الصوتيّة والنحويّة،فإذا أخذنا هذا البيت للمتنبي:
بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنٌ            ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن[14]
تتبين أنّ التركيب متشكلٌ من حروف وأسماء، فإذا حاولنا عزل هذه المفردات ،كانت مقاطع صوتية لها إمكانياتها الذاتية، ولكنها تفتقر إلى طاقة التكتل القادرة على تقمص الفكرة وبث الإشارات الدلالية، وهي بالتالي عاجزة عن تجسيد حالة المتنبي النفسيّة التي ارتسمت في الكل التركيبيّ غربةً نفسيّة واجتماعية ووطنيّة، وهي حالة شعورية متأصلة في نفسه وليست حالة طارئة، وإنّما التعلل هو الطارئ، وهذه الدلالات نستشفها من تكرار الأسماء النكرة، فالاسم أسبق على الفعل وأكثر استخدامًا، والنكرة أشد تمكنًا من المعرفة وهي أصل المعرفة[15]،  فأضفى التنوين على  السياق تمكينًا وثباتًا وتأصلاً،فكان السبق للاغتراب النفسيّ على التعلل الذي تقدّم في الترتيب وتضاءل  فعله في كلية الرسالة.
أدت قواعد الصرف والنحو دورًا رئيسًا تجلى في متانة السياق وبث الإشارات وتعميق دلالات الحدث، فالأسماء جاءت علاماتها الإعرابية ضمة ظاهرة، والضمة علامة الرفع والإسناد، وهذا دليلٌ على أنّ غربتُه النفسيّة حالة متمكنة وأساس يُسنَدُ إليه كيانه الوجدانيّ، فكانت الجمل جميعها اسمية، والمبتدأ فيها نكرة جوازًا مسبوقًا بنفي، وخبره محذوف جوازًا، أيضًا، فأفاد تكرار كلمة " لا" تأكيد النفي، وأفاد تعدد الجمل الاسمية الثبات، وأفادت النكرة تمكن غربته النفسية، وأفاد حذف الخبر العلم به وانتشاره، فكان للتركيب النحويّ الدور الأساس في توطيد العلاقات السياقيّة وتماسك نظمها وتبني المعاني والدلالات.
تنبّه علماء اللغة الأوائل إلى دور التراكيب في إنتاج المعاني وبث الإشارات، وتعدد الدلالات، ومما قاله السيوطي نقلاً عن الرازي:" ليس الغرض من الوضع إفادة المعاني المفردة، بل الغرض إفادة المركبات والنسب بين المفردات كالفاعلية والمفعولية وغيرهما، "[16]، أي إنّ المعاني التي تنتجها الألفاظ لا تتوقف عند قيمتها المعجمية بل تكتسب من مواقعها السياقية قيمًا مغايرة ومتناقضة ومتباينة، لأنّ العناصر اللغوية  تكتسب قيمتها الترميزية، وطاقتها الإيحائية من وحدة السياق وتماسكه، فكلمة" نديم" ، مثلاً،  عكست في سياق بيت المتنبي، السابق ذكره، تمكن  حالة الاغتراب النفسيّ والاجتماعيّ في وجدان الشاعر، أمّا في كلام الأخطل: 
إذا ما نديمــــــي علّني ثمّ علّــني          ثلاث زجـاجـــات لهنّ هدير
خرجت أجرُّ الطرف حتى كأنني         عليك أمير المؤمنيــــن أميـــر
فلقد عكست كلمة " نديم" المشاركة الوجدانية والاجتماعية، وكشفت عن واقع حركيّ، قوامه فعل وجزاء، منطلقهما ماضٍ نحو مستقبل مؤسس على الارتواء ونشوة الخمر، وهاتين القيمتين المجسدتين فاعلية العنصر اللغويّ"نديم" أظهرتهما دقة النظم ووظيفة مكوناته الصرفيّة والنحويّة، التي وحدها لها الفضل في توليد الصور البلاغيّة وتكثيفها.
يفرض ترتيب عناصر اللغة علامات توحي بوظيفتها ودلالاتها، فتنقل رسالة رغب المرسِل في تبليغها بوضوح ودقة، وأيُّ تغيير في ترتيب العناصر يؤدي إلى تشويه فحوى الرسالة ويسيء إلى مضمونها وجوهرها، فإذا أُخضعت كلمات هذا البيت الشعريّ:
إن المرءُ ميتا بانقضاءِ حياته              ولكن بأن يُبغى عليه فيخذلا[17]
 لتبديل المواقع تتشوّه القيمة المعنويّة الحقيقيّة للمُرسَلة، وتتحوّل عن أهدافها، ويفرّغ التركيب الشعريّ من معانيه ودلالاته، فالمعنى العام يشير إلى حكمة مجتمعية وأخلاقية وإنسانية؛ فالمرء لا يّعد ميتًا إذا انقضت أيامه في الحياة، لأنّ الموت الحقيقيّ موت اجتماعيّ يفرضه الغي والظلم وما يولدانه من خذلان، فصار الخذلان موتًا، والبغي لا حياة، ولذلك كانت علامة الرفع في كلمة" المرء" دليلاً على أنّ " إن" نافية" وليست حرفًا مشبهًا بالفعل، فانتفت فرضية التأكيد والتشبيه، وصارت الحياة الحقيقة موازية للعدل والحق، ويمكن توضيح الفرضية ونتيجتها على النحو التالي:
(إن) = نفي=(-) 
 المرءُ ميت= لا وجود له=(-) نفي
انقضاء الحياة= لا وجود لها= (-) نفي
لكن= الاستدراك، وهنا أفادت إسناد النفي إلى ما بعدها=(-)
بأن يبغى=دلالة الفعل المنصوب مستقبلية سالبة
فيخذلا= دلالة الفعل المنصوب المستقبلية سالبة.
الشطرالأول:                         الشطر الثاني:
حرف نفي (إن)                    حرف استدراك أفاد النفي(لكن)
المرء ميت                             أن يبغى عليه  
انقضاء الحياة                         فيخذلا
قراءة عناصر التركيب المتكاملة والمتقابلة تؤدي إلى التصور التالي:
المرء ميت= البغي
انقضاء الحياة=الخذلان
وبتبديل المواقع في تقديم أو تأخير في صياغة النتائج يصير البغي مساويًا الموت، ويصير الخذلان مرادفًا لانعدام الحياة أي الموت المعنوي، لأنّ الحياة ليست عيشًا إن لم يكن العيش مصحوبًا بالكرامة.
النتيجة:
سالب(إن). سالب(المرء ميتًا) =موجب #(سالب)انقضاء الحياة
 (لكن)= سالب. ( أن يُبغى)= سالب.( فيخذلا)= سالب
أي، ليس الموت انقضاء الحياة،( إن المرء ميتًا)؛ لأن الموت الحقيقي كامن في البغي والخذلان؛( أن يبغى عليه فيخذلا)؛ إذًا: انقضاء الحياة(_) // البغي والخذلان(_)
أي أنّ البغي والخذلان هما السبب الرئيس في انقضاء فاعلية الحياة، فالموت الجسدي خلاص، والخذلان موت روح المكارم.
يظهر تحليل علاقات العناصر الرياضية والمنطقية بعضها ببعض أنّ أيّ تبديل أو تحريف في الكلمات أو مواقعها، أو علاماتها، يحدث تغييرًا في النتيجة، ولا يوصل إلى حقيقة الفكرة التي رمى إليها الشاعر.
إنّ العلاقة بين السياق وبين عناصره اللغويّة علاقة متداخلة متكاملة متوازنة مضبوطة بقوانين الصرف والنحو التي تحدّد طبيعة عناصر التراكيب وشروط اتساقها وتعالقها، فالعلاقة، إذًا، "بين العلامة الإعرابية ودلالة الكلمة في السياق حتمية، وبالتالي فالحركات علامات بارزة في تعيين المعنى الدلاليّ للكلمة، لأنّ الكلمة تفتقر في بنائها المستقل إلى مثل هذه الدلالات، ولا يعرف معناها إلا بعد اتساقها في الجملة.

رابعًا: العلامة الإعرابيّة والقيمة الدلالية

حظيت العلامات الإعرابية بعناية النحويين واهتمامهم، فاستقروا دورها في السياق، وكشفوا عن دلالاتها، ووضعوا تعريفاً علميًّاً منطقيًّا يفصح عن وظيفة الحركات في ترابط التركيب، كما بحثوا في أصل الحركات وقوتها، وبيّنوا إفادة كل حركة، وأصلها ودورها، ورأوا أنّ: "الحركة الإعرابية مع كونها طارئة أقوى من العلامة البنائية الدائمة، لأنّ الإعراب علم لمعان مقصودة، تميز بعضها عن بعض "[18].
شغل دور العلامة وتحديد ماهيتها علماء اللغة سواء أكانوا عربًا أم غير عرب، ورأى تودوروف Todorov أنّ العلامةَ " تتكون من ثلاثة أطراف متعاضدة هي الدال والمدلول والشيء المسمى، فالدال هو الصوت المنطوق والمدلول هو الشيء المستحضر المدرك باعتباره مرتبطا بتفكيرنا"[19]،فالعلامة رمز دالٌ على شيء آخر، وبالتالي العلامة اللغوية  لا تقوم إلا على مسمى، ولا دلالة لها إلا به،  ولا قيمة لها بذاتها، بل بما يفرضه السياق على المسمى، وبما تقدمه للسياق من كشف وتوضيح لوحداته اللغويّة، فهي، أيضًا، تكمن في المعنى المجرد/ المدلول والصورة الصوتية/الدال المرتبطة به، كما قال دي سوسير.
رأى علماء اللغة العربيّة أنّ مواقع العناصر اللغوية المتماثلة، لا تتمايز إلاّ بالعلامات التي تكشف عن المرتبة الوظيفيةّ والدلالية لكلّ عنصر من عناصر التركيبّ، فكان الإعراب، في رأي علماء العرب،  إفصاحًا وإبانة وكشفًا[20]، وكانت علاماته إشارات تُسهم في استنباط المعاني والتقاط إشارات السياق ودلالاته، وطاقة كمونية تتحكم في إنتاج المعاني، لأنّ " الكلمات والجمل لا تتمايز إلا به"[21]، وبخاصة عندما تجتاح النظم السياقيّ تراكيب تمردت على ثوابت المفاهيم التعاليقية، وانساقت إلى النُظم البلاغية التي تفرض تقديمًا وتأخيرًا وحذفًا وتقديرًا،فيأتي التفاعل الدلاليّ أكثر ترميزًا وإيحاء،لأنّ اللغة والكلمات المكونة لها،في رأي بوتون،"  تمثل صورة من العالم، وفي الوقت ذاته تمثل صورة لتفكير المتكلم ولحالته الشعورية"[22]، وهذا التمثيل تعويض لحقائق لا تتبدى إلا بفهم الكلام وكشف دلالاته، فالشوق في كلام المتنبي:
أغالب فيك الشوقَ، والشوقُ أغلبُ         وأعجب من ذا الهجرِ، والهجرُ أعجبُ
 بعد أن كان مفعولاً به خاضعًا لفعل العقل، صار في السياق عينه المسند إليه المتحكم في إبراز الحدث وإعلان الغلبة، وهذا التحوّل حددته العلامة الإعرابية، فكشفت عن الصراع في ذات الشاعر بين أن يكون غالبًا أو مغلوبًا، وكذلك كانت الحال مع الهجر الذي بدأ الكلام عليه مقرونًا بخفض الهجر والتقليل من شأنه، ليتحول في التركيب عينه إلى مسند إليه أساس متمظهر بعلامات القوة والرفع والإسناد.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ العلامة الإعرابية تتحكم بالهندسة الدلاليّة للتراكيب، وهذا يفرض على المتلقي أن يُلم بوظائف العلامات الإعرابية والدلالية، وأن يُحسن دقة استخدامها، ويستوعب آلياتها الإنتاج، وإجراءاتها المنطقيّة، وغاياتها القصديّة، ولقد نبّه علماء اللغة العربيّة إلى ربط دقة المعاني بفهم عميق لعلامات الإعراب، وظهر ذلك  في كلام الكسائي على وظيفة النحو الدلاليّة في حواره مع الفقيه أبي يوسف القاضي الذي ذم النحو، فقال" ماذا تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك، وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامَك، أيٌّهما كنت تأخذ به؟ قال: آخذهما جميعًا، فقال له أخطأت"؛ لأنّ القول الذي يحاسب عليه الرجل في قتل الغلام هو:" أنا قاتلُ غلامِك" لأنّ الاسم المشتق بإضافته أفاد الحدث الماضي، وأما القول: " أنا قاتلُ غلامَك" لأنّه مستقبل ولم يقع ولا تكون المحاسبة على أمر لم يقع[23].
إنّ للعلامة الإعرابيّة دورًا أساسًا في رصف الكلمات وإنتاج الدلالة، وكانت هذه العلامات، في رأي علماء العرب، نتاج الفكر المنطقي، فانصبت اهتماماتهم على معنى العلامة، وعلى فهم دلالاتها ووظائفها، وحاولوا ربط أسماء الحركات بشكل النطق، فالضمة جاءت من ضم الشفتين عند النطق بها، والفتحة من فتح الفم، وكأنه ينتصب في نطقها، والكسرة من جر الفك إلى أسفل، فكأنّه يتكسّر، ويسقط ويهوى إلى أسفل؛ وحاولوا تعليل الحركات في السياق، فرأوا أنّ الرفع يدل على العلو، فيقال ارتفع الشيء ارتفاعًا، إذا علا [24]، ولم يهملوا دور العلامات المُقدرة على الحرف الأخير، فقسّموا الإعراب إلى ظاهر ومُقدّر، وعللوا  سبب ظهور الحركة أو تقديرها على الحرف الأخير تعليلاً علمياً منطقياً يفسّر ويؤول قيمة النشاط اللغويّ ودور الحركة في كشف الدلالة، وبخاصة عندما يتعرض السياق للتقديم والتأخير والحذف،  فبحثوا عن شروط التقديم والتأخير والحذف، وفي قوانين وخصائص التعجب والنداء والقسم والاختصاص والتنازع والاشتغال والاستثناء، والمدح والذم ، وفي وظيفة التوكيد والعطف والبدل والنعت والنفي والنهي، وغيرها من أساليب الأنساق الصرفية والنحوية المؤسسة ضوابط تشكيل سياقات صحيحة،لا حصر لها،فأكدوا على أنّ أي تغيير يفرضه التركيب على موقع العنصر يؤثر على رمزية العلامة وقيمة العنصر الدلالية.
يزخر الخطاب القرآني بنماذج لغوية تظهر دور العلامة وقيمتها الدلالية في فهم النص القرآني وتأويل آياته، وذلك مهما حدث على التركيب من تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار؛ ونبّه الفقهاء واللغويون إلى التركيز على علامات الإعراب، وبخاصة في قراءة القرآن الكريم، لأنّ تبديل الحركات يسيء إلى جواهر المعاني، ويعكس دلالاتها ويشوه صورها،  ففي قوله تعالى:
_"وإلى عادٍ أخاهم هودًا" [25]
 جاءت كلمة "أخاهم" في حالة النصب، فلو جاءت بعلامة الجر"أخيهم " لتبدلت الدلالة وتغيّر المعنى، لأنّ النصب أشار إلى فعل محذوف تقديره "وأرسلنا إلى عاد أخاهم "فكانت علامة النصب المكتسبة من خلال السياق القرآني دليلاً إلى فعل محذوف جوازًا، لأسباب بلاغية وجمالية ومنطقية، فاكتسبت الكلمة بعلامة النصب وظيفة نحوية ومعنى بلاغيًا ودينيًّا أكثر عمقًا وإفادة.
_ وفي قوله تعالى :" وهو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام وكان عرشُه على الماء ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً ولئن قلتم إنّكم مبعوثون من بعد الموت ليقولَنّ الذين كفروا إن هذا إلاّ سحرٌ مبين"7" ولئن أخّرنا عنهم العذابَ إلى أمة معدودة ليقولُنّ ما يحبسه ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفًا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون"8[26] ، ورد فعل" يقول" متصلاً بنون التوكيد، وذلك في آيتين متعاقبتين، ولكنّ قوانين تشكيل المكوّن الصرفيّ وما يرتبط به من شروط الإسناد التركيبيّ جعلت من الفعل الأوّل مبنيًا على الفتح لاتصاله بنون التوكيد،و لأنّ المسند إليه اسم ظاهر، وبالتالي بقى الفعل في صيغة المفرد، أمّا الفعل الثاني فكان مرفوعًا وعلامة رفعه نون محذوفة لأنّه من الأفعال الخمسة، وكان الحذف فرارًا من توالي الأمثال، أمّا  الضمة فهي إشارة إلى الفاعل المحذوف منعًا لالتقاء الساكنين، وهي في الأصل " واو" الجماعة المتصلة بالأفعال الخمسة؛ فكيف يستطيع القارئ أن يفهم بلاغة القرآن وعظمة دلالات آياته من دون معرفة علميّة بقوانين النحو؟
_وفي قوله تعالى" إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ "[27]  رفع بعض القرّاء لفظ الجلالة، وجرَّ كلمتي( عباده_ العلماء)، وصار الله فاعلاً أسندت إليه الخشية، فكان الرفع في اسم الجلالة وعلامة الجر في كلمتي " عباده" و" العلماء"حجة لدى المشككين في جعل الله فاعلاً خائفا من عباده العلماء، أما القراءة الصحيحة فتؤكد على اقتران خشية الله بالمعرفة، فالعلماء يزدادون تعلقا بالخالق، كلما ازدادوا معرفة، ؛ فكان الإعراب توضيحا للمعنى، وتكريمًا للعلماء، وتعظيمًا للخالق، ودعوة إلى العلم والمعرفة.
_ وفي قوله تعالى:" إنّا أرسلناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" [28]، قرئت كلمة" تسأل" بالجزم، ووردت في القرآن  مرفوعة، والدلالة تتغيّر بين الرفع والجزم،  فقال الأخفش: إذا استخدمت كلمة تسأل بالجزم تغيرت دلالة الكلمة في السياق، وصار الكلام دالاً على النهي عن السؤال، وفي ذلك تعظيم لما فيه من العذاب، أما الرفع فهو على النفي، وتكون الجملة استئنافية فكان المعنى:" أرسلناك بشيرًا ونذيرًا وغير سائل ، أو غير مسؤول  وهذا المعنى أفصح من دلالة الجزم.."[29] .
_" وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات"[30]
الابتلاء والاختبار يكون أفصح دلالة وأعظم قدرًا إذا كان من الله لعبده ولا يجوز أن يمتحن العبدُ ربَه ويختبره، والتمييز هنا ما كان ليحصل لولا الإفصاح، عن مواقع الكلم والتمييز بين الفاعل والمفعول به، من دون علامات الإعراب، فالحركات رموز للأصوات، والصوت اللغوي جزء رئيس من تشكيل الكلمة، وهذه الحركات هي المرشدة إلى المعاني، ولقد عبّر الزجاجي عن ذلك بقوله: "إن الأسماء لما كانت تعتو رها المعاني وتكون فاعلة ومفعولة ومضافة، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، جعلت حركات الإعراب تبين عن هذه المعاني، وتدل عليها ليتسع لهم في اللغة ما يريدون من تقديم وتأخير عند الحاجة"[31].
تضمر علامات الإعراب فعلاً تحريضيًّا يحرّر الكلمات من ثباتها، ويحفّزها على التلاقي والتواصل والإسرار ومن ثم المكاشفة؛ لأنّ الحركة، في رأي ابن جني، تقلق الحرف وتزيله عن سكونه وتُحركه للالتقاء بغيره، وبهذا التلاقي والتآلف ضمن السياق تتحدد قيمة الكلمات الدلاليّة، يكتسب التركيب معنى عامًا/ خاصًا، يدين في تشكُّله إلى حركة الحروف، بوصفها وسيلة ربط، وكمون إسرار وإفصاح، ولكنّ هذه العلامات بقدر ما تتمتع به من طاقة ترميز، وفاعلية خلق، فهي تحرص على أصالتها وثباتها، فاختصت الحركات بمدلولاتها في السياق، واختصت الضمة بعلامة المسند إليه، والفتحة بعلامة المفعولية، والكسرة بعلامة الخفض والجر، ولكنّ هذه العلامات لا تستقل بدلالاتها من دون مرموز إليه تكتسب منه وجودَها، وتكسبه، في الوقت عينه، موقعه السياقي وقيمته المعنويّة.
حظيت العلامات الإعرابيّة باهتمام علماء اللغة، ورأوا أنّها، على الرغم من استقلاليتها، فهي تُكتسب اكتساباً في السياق، وليست من أصل البناء التركيبي للكلمة، أمّا ما كان منها ثابتًا في سكونية حرفه الأخير فلقد أطلقوا عليه صفة البناء اللفظيّ، وبحثوا عن محله الإعرابيّ  وعن موقعه في الكلام، وذلك من خلال علاقته ببقية العناصر التركيبية للجملة النحويّة، وعبر الخليل بن أحمد عن ذلك بقوله: "إن الفتحة والكسرة والضمة زوائد وهنّ يلحقن الحروف ليوصل إلى التكلم به، والبناء هو الساكن لا زيادة فيه"[32]، فكان للبناء دلالات مغايرة للإعراب، ولذلك حرص الفصحاء من العرب على استخدام البناء والإعراب، وفق ما تفرضه المعاني المحتجبة في ظلال التراكيب، ففي قول أمية بن الصلت نلمس اختلاف دلالة الأسماء الواقعة بعد" لا" باختلاف طبيعة "لا" وظيفتها في الاسم الواقع بعدها:
ولا لغوٌ ولا تأثيمَ فيها               ولا حينٌ ولا فيها مُليم[33]
 جاءت "لا"الأولى والثالثة، والرابعة، تنفي الخبر عن الاسم الواقع بعدها فقط، لأنّ "لا" أفادت النفي، وكانت بمعنى " ليس"، فجاءت الكلمات معربة، أمّا"لا" الثانية" فلقد نفت الخبر عن جميع أفراد جنس المبتدأ لأنّها نافية للجنس ، وجاءت الكلمة بعدها مبنية على الفتح، لأسباب نحوية وبلاغية تفضي إلى دلالات منطقية.
 نجد القضية عينها في بيت لأبي الطيب يقول فيه:
لا خيلَ عندك تهديها ولا مالٌ               فليسعدِ النطقُ إن لم تُسعدِ الحالُ.

كان تركيز المتنبي على نفي وجود القوة المعنوية نفيًا قاطعًا؛ فالخيل التي يُكنى بعددها عن الشجاعة والإقدام والبطولة، لا وجود لها، ويمكن أن تُرى بالعين المجردة، فتأكيد النفي لا يحمل التصديق أو الكذب،  ولم تكن الدلالة عينها في نفي القوة المادية، لأنّ مال الشخص مخبوء والكلام عليه يجوز أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فكان النفي حصرًا على واقع آني يجمع بين المرسل والمتلقي، علمًا أن تبادل المواقع بين كلمتي" خيل" و"مال" لا يحدث تغييرًا في الوزن والموسيقى، لذلك يمكن القول إنّ ترتيب الكلمات وعلاماتها الإعرابية اقتضته غايات بلاغيّة ودلالات معنويّة، اجتماعيّة ونفسية وقيمية إنسانيّة.


يحرّض التشكيل اللغويّ نشاط السياق ويوجهه في عملية ترتيب الألفاظ الخاضعة، في تأدية المعاني، لعلامات تفرضها العلاقات السياقية الصرفية والنحوية، فيتم تحديد قيمة العنصر اللغوي ورتبته التنظيمية، ووظيفته وطبيعة ترابطه مع بقية العناصر، لأنّ العلامة الإعرابية وحدها القادرة على التمييز بين علاقات الإسناد أو التعدية أو غيرها من العلاقات، فإذا قرأنا هذا البيت لامرئ القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة      كفاني، ولم أطلب، قليلٌ من المالِ[34]
وجدنا أنه يتضمن فعلين" كفاني" و" أطلب" قبل كلمة"قليل" الاسم المعرب، والفعل الأول متعدٍ إلى مفعول به واحد وهو محتاج إلى فاعل، وفاعله يجوز أن يكون مستترًا، والفعل "أطلب" يحتاج إلى مفعول به وفاعله مستتر وجوبًا تقديره "أنا"، ولذلك يجوز أن تكون كلمة " قليل" فاعلاً للفعل "كفاني" أو مفعولاً به للفعل "أطلب" فجاءت علامة الرفع لتحدد موقع الكلمة في السياق على أنّها مسند إليه " فاعل للفعل" كفاني" وليست مفعولاً به للفعل أطلب" وبتحديد مواقع الكلم في السياق من خلال علامة الإعراب تتغير الدلالة فالشاعر، وفق ما فسّر ابن يعيش في كتابه شرح المفصل، أراد أنّ يقول " إنني لو سعيت لمنزلة دنية كفاني قليل من المال ولم أطلب الكثير"[35]
أثبت علماء اللغة العربيّة دور العلامة الإعرابية في السياق، وعلّلوا سبب ورودها في آخر الكلمة من دون أوائلها وأوساطها بفكر فيزيائيّ علميّ منطقي، فقال الزجاجي: "لم يُجعل الإعراب أولاً، لأنّ الأول تليه الحركة ضرورة الابتداء، لأنه لا يبتدأ إلا بمتحرك، ولا يوقف إلا على ساكن، فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب، لأنّ الحركتين لا تجتمعان في حرف واحد، ولما فات وقوعه أولاً لم يكن أن يُجعل وسطاً، لأنّ أوساط الأسماء مختلفة، لأنّها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسباعية، فأوساطها مختلفة..."[36]، وبالمنطق عينه برّر قطرب عدم توالي ساكنين في السياق، فقال: "إنّما أعربت العرب كلامها، لأنّ الاسم في حال يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون، وأمكنهم التحريك، جعلوا التحريك معاقباً للإسكان ليتبدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين في حشو الكلمة ولا في حشو بيت، ولا بين أحرف متحركة، لأن في اجتماع الساكنين يبطئون، وفي كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب الصلة في كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الاسكان"[37]. 
إنّ حركة السياق شبيهة بحركة الوسط الفيزيائي، فلا ساكن يعقب سكونًا من دون حركة، وكذلك لا يلتقي ساكنان في سياق لغويّ، فإذا تتابعت السواكن في السياق تخلت بعض الحروف عن سكونيتها لمصلحة الحرف غير القادر على الحركة، وإذا تعذّر النطق بالساكن تمت الاستعانة بحرف وصل يوصل إلى النطق به، فأضفى العرب على السياق جمالية في الصورة والصوت والمعنى والدلالة، وحافظت التراكيب على نسبية تعالقية بين المكونات اللغوية وعلاماتها ودلالاتها ورموزها وإيحاءاته، وفق عمليات تناسبية تعطي للسياق قيمًا دلالية مغايرة ومتمايزة. 
خامسًا: كلمة أخيرة
لما كانت الكلمات المنطوقة أو المكتوبة تختزل الوجود والغياب للشيء المستحضر، فيمكن اعتبار اللغة شرطًا أساسًا للوعي الذاتي والجمعيّ، لأنّها تشكّل الوسيط بين الإنسان وبين الأشياء فاللغة، إذًا، خلق مستمر تبني الفكر، وتتبنى تجسيد حركته، ولما كان البناء القابل للاستمرار متسمًا بالجدة، فلا بد من أن تواكب أنماطه المتجددة انحرافات في دلالة المنطوق اللغويّ، وإضافات تفرضها طبيعة التراكيب المشحونة بحركات داخلية مضبوطة بقوانين صرفية ونحوية، تعمل على فرملة المكونات ضمن مساراتها الدلالية النحوية والصرفية والبلاغية، من دون أن تسلبها حريتها في اختيار مواقعها داخل التنظيم بما يتناسب والقيمة المعنوية للنتاج الفكريّ.
تمارس اللغة رقابة ذاتية مشحونة بفعل توليديّ، يسمح لها أن تنغلق على طاقات من الاستخدامات غير المحدودة، فتنتج عددًا لا حصر له من السياقات التي تنتظم ضمنها وحدات لغوية متشابكة في رباطها التكوينيّ، ومحرضة على توليد المعاني، وهذه الطاقات التوليدية تحّدد مساراتها عمليات لغوية ذهنية منطقية توازن بين الألفاظ المتعالقة ودلالاتها،  فتعقد المكونات النحوية والصرفية عقد توافق واتفاق يضمن سلامة السياق، من جهة، ويتعهد، من جهة ثانية، نقل تصورات الفكر وحركاته بأمانة تضمن" للنص معنى موضوعيًّا مقصودًا من كاتبه..."[38]، فتمارس اللغة نشاطها في سياقات تتبنى نتاج نشاطات الفكر، وتكوّن فضاء معرفيًّا لا حدود له، يحرّض على الحرية والإبداع، بقدر ما يحترم قوانين مكونات عناصره وخصائصها النحوية والصرفيّة.




الهوامش :



[1]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص3
[2]_دراسات في نقد الشعر، مؤسسة الأبحاث العربيّة، ط1، 1980،ص 64.
[3]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 314 – 315.
[4]_دلائل الإعجاز، ص316.
[5]_ دلائل الإعجاز،ص   153 .
[6] _meaning and style.p8.
[7] _semantic fields .p 174.
[8] _ oilman,  meaning and style.Oxford..p9.
[9] _nida.componential analysis of meaning. mouton 1975.p196.
[10] _ياقوت الحموي، معجم الأدباء،8/ 214.
[11] _ابن جني، سر صناعة الإعراب، ص 19
 -[12] الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 64_65.
[13] _ دلائل الإعجاز ، ص317.
[14] _ المتنبي، الديوان،
[15] _ سيبويه، ج1، ص 20_21_22.
[16] _ المزهر،ج1، ص41.
[17] _محمد محيي الدين عبد الحميد، شرح ابن عقيل،لا.ت، ج1، ص 318.
[18] _الكليات، ج1، 216.
[19] _theories du symbol, seuil,1977,p17.
[20] _الجرجاني، أسرار البلاغة،تح السيد محمد رشيد رضا،دار الفكر، ص56.
[21] _ السيوطي، الأشباه والنظائر،ج1، ص 89.
[22] G. Bouton, "La signification" éd. Klincksieck, 1979 p. 13.
[23] _ ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء،13/177
- [24] الايضاح في علل النحو،ص 93 سر صناعة الإعراب ج1،ص 30_31.
[25] _ هود 50.
[26] _ هود:7_8.
[27] _ فاطر:28.
[28] _ البقرة:119.
[29] _ الأخفش، معاني القرآن، ج1، ص 146.
[30] _ البقرة:128.
[31] _ السيوطي، الأشباه والنظائر، ج1، ص 76- 78.
[32] _ سيبويه، الكتاب، ج2، ص 315.
[33] _ البيت مأخوذ من شرح ابن عقيل، ج1، ص 402.
[34] _ امرؤ القيس ، الديوان، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، ط3، القاهرة، ص 39.
[35] _ج1، ص79.
[36] _ الزجاجي الإيضاح في علل النحو، ص 76.
37- السيوطي الأشباه والنظائر، ج1، ص 76.
[38]_M .Charles l,arbre et la source, p,152.





  
السياق اللغويّ وفعل المكوّنات
 الصرفيّة والنحويّة

                                                    أ.د. مها خيربك ناصر
                                                                         جامعة البلمند  (لبنان)
أولاً: عتبة البحث
تتمظهر حركة الفكر بلغة تنقل الكمون العقليّ من التخفي إلى التشخصن، ومن المجهول إلى المعلوم، لأنّ الفكر لا يكون بذاته، بل بما يتأثر به من الأحداث والأحوال والمعطيات، فيتجلى الأثر فعلاً حركيًّا، مستقره لغةٌ قادرة على استقبال هيولى الحركة، وتأطير ماهيتها،  وتبني كينونتها، وهذا يفرض على اللغة حركة داخلية تُحرّض على تنمية ذاتها بذاتها ولذاتها، لتبقى قادرة على تبني التصورات الذهنية، وذلك في أنماط تعبيرية تجسّد حركية العقل المدرك ذاته بذاته.
تمتلك اللغة، إذًا، في اللحظة عينها، خاصيتين؛ خاصية سكونية تتبدى في وظيفة استقبالية تجعل منها مستقرًا للأفكار المجردة، وخاصية حركية تتبنى إعادة تشكيل وتنظيم الأفكار في أنساق لغوية قابلة للإرسال والتلقي. وبعمليتي الاستقبال والإرسال تتقاطع وتتمركز خصائص وأسرار النتاج اللغويّ في سياقات تُضمر فعل اللغة الحركيّ الذي يمارس مهماته، غير المحدودة، داخل اللغة.
بهذا المعطى يمكن اعتبار اللغة زمرة مقفلة تنغلق على أسرارها وحيويتها، وتتمتع، في الوقت عينه، بفعل تحريضي يساعدها على التجديد بقدر ما يسمح لها أن تتفرد بحق الإلغاء والتوليد، والتحويل والترميز والإفصاح والإبانة والكشف، في معادلات كلامية تضمن النسبية المنطقية بين نشاط الفكر ونشاط اللغة، وهذه النسبية تؤمنها قوانين تشكيل داخلي ينتجها العقل الإنسانيّ، وتلتزم بها الأنساق اللغويّة، وذلك وفق أسس منطقية توازن بين صورة المُدرَك وحقيقته، وبين الدال والمدلول عليه، وبين اللفظ ومعناه، وبين التصورات الذهنية وأشكالها اللغويّة، وذلك مهما تنوّعت التراكيب، وتعدّدت السياقات وتمايزت تأويلاتها.
يمنح السياق الكلمات معاني جديدة من دون أن تتخلى عن معناها الوضعي أو تنفصل عنه، فتضمر اللغة مجموعة من الدلالات والفاعليات والارتياضات التي لا تنتهي، ويصير السياق طاقة تحويل وتوليد تتحصن داخله قيمة التراكيب اللغويّة المرتبطة بالكلّ السياقيّ في كينونة أوجدتها علاقات تعالقية، منحت العنصر اللغوي دلالات تجاوزت بها المعنى الوضعيّ، من دون أن تفخخه، فأسست عمليتا الارتباط بالجذر والتحرر من سلطته المعجمية لدراسات غايتها الكشف عن طبيعة علاقات النظم السياقي، وعن قوانين تشكّله الداخليّ، التي تضبط حركية عناصر اللغة في متحد لغويّ، له خصائصه ومقوماته الذاتية، بوصفها قوانين مُحرِّضة غير مقيدة، تضمن حصانة تركيب العناصر اللغويّة، وتمنحها، في الوقت عينه، حرية التطور والتطوير الدلاليين ضمن فضاءات التداولات اللغويّة.

ثانيًا: نظرية النظم السياقي

النظم لغة هو الجمع والهضم والتأليف والاتساق، وهو، في رأي الجرجاني، ليس" سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض"[1]، واصطلاحًا هو مجموع وحدات لغويّة متماسكة في نظام كليّ يضمن فرادة المتحد اللغويّ، ويحفظ سلامة تعالق وحداته المستقلة بخصائص ذاتية غير خارجة على طبيعة السياق، وغير معزولة عن كليّة النظم، فتحتفظ العناصر اللغويّة بهويتها وتكتسب من أي متحد لغوي جديد سمات ودلالات تتمايز بقدر ما تتنوع الأنساق، وتتباين القراءات والتأويلات والمقاربات.
بهذا المفهوم العام، يمكن القول إنّ فاعلية عملية الجمع والضم والتأليف والاتساق مرتبطة حكمًا بجودة الصياغة المنظمة، بمعنى آخر بدقة ترتيب عملية التعالق، وبمهارة تنسيق إجراءات التآزر بين الوحدات اللغويّة، لأنها مهارة عقلية ومعرفية تمنح النظم سلامته، وتحفظه من التشظي والتشويه، وتثبّت حضوره، وتغني دلالاته المنطقية المستمدة من تماسك البنية اللغويّة في الأجساد النصيّة الخاضعة في تراكيب بنياتها لقوانين تشكيل داخليّ عاصمة وضامنة؛ أي عاصمة سلامة عملية التنظيم، وضامنة مصداقية وجودة إنتاج الدلالة.
تضمن دقة عملية التنظيم، وحرفية استخدام عناصر اللغة، ومهارة توظيف قوانين تعالقها، ولادة مرسلة لغوية موسومة بجودة النظم وحسن التناسق والتوازن والتماسك، ومشحونة بإغراءات دلاليّة تضفي على عناصر التركيب ووحداته قيمًا جمالية، وإشارات جديدة ومتنوعة تحقّق الغرض والهدف والإفادة، فتقوى العناصر اللغوية بالسياق ويقوى بها، فيتسع فضاء التأويل، ويتم القبض على بعض من بوح تستمد الروح الكلية المحتجبة وراء سياقات الأجساد النصية.
تستمد الكلمات من التركيب السياقيّ فاعليتها، وتكتسب منه معاني مجازية، غايتها، غير المعلنة، تضليل مباشرة الرقابة وتشظية سلطتها، لأنّ السياق اللغويّ المنظم يعزز الكلمات بقدرة على تلقي البوح المكبوت، ومن ثم تجسيده في نشاط لغوي مشحون بالترميز والتشفير، تضمنه إجراءات صرفية ونحوية وبلاغية منظمة، تشكّل جزرًا بنيوية تتحد في بنية كليّة خاضعة لقوانين النظم السياقيّ.
 تظهر الدراسات الألسنية أهمية التنظيم السياقي في تحرير الألفاظ من ثباتها المعجميّ، وإكسابها طاقة تحويليّة تضاعف من وظيفتها الدلالية، وتمنحها معنىً خاصًا جديدًا ومغايرًا، وذلك بفضل نظام كليّ يتحكم في إنتاج السياق وحمايته من الاضطراب والضعف والخلل التركيبيّ، فهو، في رأي الياس خوري، يحرّر الكلمة من ثباتها " لتصير" جزءًا من السياق... فالكلمة هي، بمعنى آخر، تشكيل لمعان محتملة، والسياق وحده هو الذي يؤكد على العناصر التي يجب تغليبها في هذا الاحتمال"[2].
اهتم علماء اللغة العربية بجمالية السياق اللغويّ الذي جاء عن العرب نسيجًا بلاغيًّا محكم التركيب والصياغة، ووضعوا دراسات وأبحاثًا تشرح وتؤول وتفسّر نظريات النظم، وما تقوم عليه من أسس صرفية وقوانين نحويّة، ورأوا أنّ السياق ليس حركة مباشرة نحو مدلول موجه، وإنّما هو حركة فيزيائية، مسارها متعدد الانحناءات يوحي بدلالات ينتجها نشاط العنصر اللغويّ الذي يحدّد، بحركته الجمعية مع بقية العناصر، سمات فضائية المسار الدلالي، وحركية النص اللامتناهية وغير المستقرة، فكانت العلاقة بين عناصر اللغة والسياق علاقة تعانق وتكامل وتداخل وتناظر وتكافؤ، فلا وجود لسياق من دون عنصر لغويّ، ولا قيمة دلالية للعنصر اللغويّ خارج السياق.
أكّد الجرجاني في دراساته اللغوية على حتمية العلاقة بين السياق مكوناته اللغويّة؛ الصرفيّة والنحويّة، ورأى أنّ العقل لا يمكن أن يتصور معنى فعل أو اسم من دون تعالق مُنظَّم ضمن السياق؛ فقال" لا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعماله فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً، أو يريد منه حكمًا سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرًا أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك... لم يكن الفعل وحده من دون الاسم ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل، كلامًا"[3] .
شبّه الجرجاني صاحب الكلام الجيد بالصائغ الذي يحسن خلط الذهب والفضة بنسب تتناسب وقيمة المنتج، فقال: إنّ " واضع الكلام مثل من يأخذ قطعًا من الذهب والفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة"[4] ، وبهذا المزج الفني الإبداعيّ الدقيق  تكتسب الأدوات والظروف والضمائر واللواحق، التي لا قيمة لها في ذاتها، نشاطًا لغويًا متجددًا، وبناءً إيقاعيًا عميقًا، وتصير من أهم الوحدات اللغوية الفاعلة في بنية التركيب المتكامل والمتجانس.
تظهر القراءة التحليلية لبيتين من الشعر استدلّ بهما الجرجانيّ على دور السياق في تأدية المعنى، أنّ الحروف الداخلة في بنية التركيب( إنّ_ لا_ على_أن_ الباء_حتى_ الووا_ كأنّ_ لم) لا قيمة دلالية لها خارج التركيب، وكذلك لا قيمة فنية وترميزية وأدائية للتركيب من دون هذه الحروف، فإذا وردت الكلمات من دون هذه الروابط، فقد التركيب متانته ووحدته وقيمته الجمالية.
وإنك لا تجـــــود على جــــــواد    هبــــاتك أن يُلقب بالجـــــواد
أعطيت حتى تركت الريح حاسرة        وجُدت حتى كأن الغيث لم يجدِ[5]
حظيت نظرية السياق باهتمام اللغويين العالميين، وتناولت دراساتهم معنى الكلمة في المنهج السياقي contextual approach، وكيفية" استعمالها في اللغة"[6]، فأظهروا الدور الذي تؤديه من خلال استخدامها في سياقات مختلفة[7]، وهذا "ما ركّز عليه فيرث Firthوأنصاره"[8] ، فربطوا طرق النظم collocations بضرورة الالتزام بصرامة قوانين الصرف والنحو؛ لأنّها  تضمن سلامة العلاقات مهما تباينت أشكالها وجواهرها، والجملة،في رأيهم،لا تؤدي معنى تامًاmeaningful  متكاملاً، إلاّ إذا امتثلت كينونتها  إلى قوانين النحو وتحصّنت  ضمن شروطه.
تأسيسًا على دور النحو في إنتاج السياق ذي النسيج المتماسك، ميّز فيرثFirth   بين نوعين من النظم؛ النظم العادي المتداول بكثرة، والنظم غير العادي ّ المقصور على كتّاب لهم أساليبهم الخاصة، لأنّ اللغة كما يراها لاكانLacan ، وحدة لا تتجزأ، وبالتالي لا يمكن الفصل بين اللفظ والمعنى ولا يمكن عزل فاعلية التركيب عن فاعلية المكون الصرفيّ، أو المكون النحويّ، أو  المكون البلاغيّ، فهذه المكونات جميعها وحدات دلالية" تقع في مجاورة وحدات أخرى. وإن معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفها أو تحديدها إلا بملاحظة الوحدات الأخرى التي تقع مجاورة لها""[9].
تكشف الدراسات اللغوية، العربية منها وغير العربيّة، عن تشابك العلاقة النفعية الدلالية بين الوحدات اللغويّة وطرق نظمها، لأنّ اللغة، أية لغة، لها نظام تشفيريّ مُرمَّز، ولا قيمة لإشاراتها ورموزها خارج تشكيلات عناصرها السياقية، الخاضعة لرقابة غير قمعية( يمكن وصفها بالديموقراطية) تمارسها اللغة على ذاتها، وفق قوانين(صارمة /مرنة) تضمن تبادل المواقع وتوليد الدلالة، وتحقيق القصدية، فالسياق يثري العناصر بالدلالات. والعناصر تمنح السياق كينونته ووجوده، فيكتسب من المكون الصرفيّ والنحويّ جماله البلاغيّ وقيمه الدلالية، وبالتالي لا يمكن عزل فاعلية السياق عن فاعلية العناصر،   فإذا أخذنا كلمات هذا البيت لبشار بن برد:
كأن مُثارَ النقع فوق رؤوسنا          وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
نجد كلمة ليل نكرة مرفوعة، ولم تكن منصوبة على أنّها ظرف، بل جاءت خبرًا ل"كأنّ"، فكان مثار النقع الكثيف أشبه بالليل، ولو كانت الكلمة منصوبة لتغيرت الدلالة واضطرب المعنى إذ لا يجوز أن تسند جملة " تهاوى كواكبه" إلى مُثار النقع، ولذلك يجد المتلقي استحالة في تبديل مواقع الكلمات، لأنّ أي تغيير في الترتيب أو الحركات يفسد المعنى والدلالة، ويسيء إلى غاية المرسلة اللغويّة.
رأى الجرجاني، في وحدة هذه البيت، دلالة على ارتباط المعاني بطبيعة التعالق ووظيفة العنصر النحويّة في السياق، هذه الوظيفة التي تحدّد موقعه وحركته، وتفرض على المتلقي احترام النظم وعدم المساس بالوحدة السياقية، فتمظهر هذا البيت لبشار بحلقة دائرية متماسكة لا تقبل التقسيم ولا يمكن قطع لفظ منه أو تغييره، فكان ترتيب الألفاظ وسيلة إلى تقمص المعاني،  ومن ثمّ كشفها، فالكلمة، كما وصفها برتراند راسل، تحمل معنى غامضًا لدرجة ما، ولا تفصح عن معناها الحقيقيّ إلاّ بالسياق، وهذا المعنى، في رأيي، يُخضع العنصر اللغوي/ الدال لطبيعة البنية اللغوية وما تتقيد به من قوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة بالإضافة إلى ما يفرضه السياق النفسيّ والعاطفي والاجتماعي، ففي مسرحية "Bajazet"، لراسين Racine  خرجت كلمة sortez التي وجهتها  روكسان Roxane إلى باجازيت Bajazet، عن معناها المعجمي وعن مباشريتها، وصار لها معنى مغاير فرضه سياق الموقف وما أحاط به من سياقات عاطفيّة ونفسيّة، فالكلمة معجميًّا تفيد معنى " اخرج" وفي السياق المسرحيّ أفادت معنى mourez "مت"لأنّ روكسان وضعت على الباب المغلق الذي سيخرج منه باجازيت عبيدًا وأمرتهم أن يلقوا به في البوسفور، فحملت الكلمة دلالة الحكم بالموت، وهذا ما حدث .

ثالثًا : النظم السياقي وقوانين التشكيل الصرفيّة والنحويّة

أثبتت الدراسات أنّ قيمة السياق الكليّة ودقة هندسته مشروطة بجماليات التشكيل الصرفيّ المتولد من نشاط العناصر الصرفية وعلاقاتها التبادلية، ولكن هذه المكونات الصرفية، تبقى أجزاءً متقطعة لا لحمة بينها من دون مكونات نحوية ترتّب الأجزاء، منطقيّا، في عمليات تعاقبية أو تبادلية تحت ظروف رقابية تضمن سلامة التركيب، مهما تبدلت مواقع العناصر اللغويّة.
يمتاز السياق،إذًا، بديناميكية تحويلية مضبوطة  بنظام تعاليقي يتحكّم بآلية إنتاج المعاني ودلالاتها، لأنّه  لا يمكن عزل معاني الكلم مجردة عن نظامها السياقي وقوانينها النحويّة، ولقد تنبّه السيرافي إلى أهمية النحو في السياق، فقال:" معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطأ"  [10].
إنّ هذه العمليات الهندسيّة التبادلية الجبرية من تقديم وتأخير وحذف واختزال، تعطي الألفاظ وظائف نحوية ودلالية وقوة إغراء تحرّض على كشف أسرارها وخصائصها، فالحروف، مثلاً،  لا تتسم بأيّة دلالة من دون نشاطها اللغويّ ضمن التركيب، فتمخض الاستقراء اللغويّ عن دراسات غايتها البحث في خصائص الحروف، وقدرتها على تغيير دلالات الأفعال والأسماء في السياق، لتكشف عن نظامها الوظيفي،وبنائها الصوتي وارتباطه ببناء الكلمات ومعانيها[11]، فالفعل" أحال"، على سبيل المثال، تتغير دلالاته وفق حرف الجر المتعلق به، فإذا قلنا:" أحال بالمكان" أفاد الفعل مع حرف الجر معنى" أقام حولاً" وإذا قلنا: "أحال إلى" فالفعل يستخدم لمن أنهى مهماته وأُحيل إلى التقاعد، وإذا قلنا: "أحال على"، كان الاستخدام محصورًا بإحالة موضوع ما على شخص آخر.
يزخر الموروث الثقافيّ بأمثلة توضّح وتفسّر الأغراض الدلالية والوظائف النحويّة للحروف والأسماء والأفعال، فالحروف تتبدل دلالتها بتبدل طبيعة التعالق، وفاعلية الوظيفة النحوية، فمثلاً كلمة" أو"تفيد في هذا التركيب:
إذا ما غضبنــا غضبة مضـــرية            هتكنا حجاب الشمس أو تمطرَ الدما
معنى " إلى إن" وكانت أداة نصب، وفي هذا التركيب،
عش عزيزًا أو مت وأنت كريم              بين طعن القنا وخفق البنود
أفادت كلمة" أو" معنى التخيير، وكانت حرف عطف.وفي ذلك قال الجرجاني:" واعلم أنّ ليس النظم إلاّ أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها .وذلك أنّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه..وينظر في الجمل التي تسرد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل...وموضع" أو" من موضع" أم" وموضع"لكن" من موضع"بل". ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيضع كلاً من ذلك بمكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له"[12].
 أظهر الجرجاني أن فكرة العلاقات تنطوي على حركة خلق مستمرة في اللغة ترجع إلى موقع الكلمة في السياق وعلاقتها به، فالكلمة لا يتصور معناها من دون معاني النحو السياقي، وبهذه المعاني تكتسب العناصر الصرفية فاعلية وحيوية، ويكتسب التنظيم، أيضًا، قوة وفاعلية وحسن اتساق ودقة في الأداء والتبليغ،  فقال:" يكون النظم في معاني الكلم دون ألفاظها، وإن نظمها هو توخي معاني النحو فيها، وذلك إنّه إذا ثبت الاتحاد وثبت أنّه في المعاني فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتحدت المعاني "[13]، وحسن الاتحاد مشروط بحسن العلاقة بين المكونات الصرفيّة والنحويّة التي تحرر الكلمة من ثباتها، وتحصّن دلالاتها من خلال تمايز في تشكيلاتها الصوتيّة والنحويّة،فإذا أخذنا هذا البيت للمتنبي:
بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنٌ            ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن[14]
تتبين أنّ التركيب متشكلٌ من حروف وأسماء، فإذا حاولنا عزل هذه المفردات ،كانت مقاطع صوتية لها إمكانياتها الذاتية، ولكنها تفتقر إلى طاقة التكتل القادرة على تقمص الفكرة وبث الإشارات الدلالية، وهي بالتالي عاجزة عن تجسيد حالة المتنبي النفسيّة التي ارتسمت في الكل التركيبيّ غربةً نفسيّة واجتماعية ووطنيّة، وهي حالة شعورية متأصلة في نفسه وليست حالة طارئة، وإنّما التعلل هو الطارئ، وهذه الدلالات نستشفها من تكرار الأسماء النكرة، فالاسم أسبق على الفعل وأكثر استخدامًا، والنكرة أشد تمكنًا من المعرفة وهي أصل المعرفة[15]،  فأضفى التنوين على  السياق تمكينًا وثباتًا وتأصلاً،فكان السبق للاغتراب النفسيّ على التعلل الذي تقدّم في الترتيب وتضاءل  فعله في كلية الرسالة.
أدت قواعد الصرف والنحو دورًا رئيسًا تجلى في متانة السياق وبث الإشارات وتعميق دلالات الحدث، فالأسماء جاءت علاماتها الإعرابية ضمة ظاهرة، والضمة علامة الرفع والإسناد، وهذا دليلٌ على أنّ غربتُه النفسيّة حالة متمكنة وأساس يُسنَدُ إليه كيانه الوجدانيّ، فكانت الجمل جميعها اسمية، والمبتدأ فيها نكرة جوازًا مسبوقًا بنفي، وخبره محذوف جوازًا، أيضًا، فأفاد تكرار كلمة " لا" تأكيد النفي، وأفاد تعدد الجمل الاسمية الثبات، وأفادت النكرة تمكن غربته النفسية، وأفاد حذف الخبر العلم به وانتشاره، فكان للتركيب النحويّ الدور الأساس في توطيد العلاقات السياقيّة وتماسك نظمها وتبني المعاني والدلالات.
تنبّه علماء اللغة الأوائل إلى دور التراكيب في إنتاج المعاني وبث الإشارات، وتعدد الدلالات، ومما قاله السيوطي نقلاً عن الرازي:" ليس الغرض من الوضع إفادة المعاني المفردة، بل الغرض إفادة المركبات والنسب بين المفردات كالفاعلية والمفعولية وغيرهما، "[16]، أي إنّ المعاني التي تنتجها الألفاظ لا تتوقف عند قيمتها المعجمية بل تكتسب من مواقعها السياقية قيمًا مغايرة ومتناقضة ومتباينة، لأنّ العناصر اللغوية  تكتسب قيمتها الترميزية، وطاقتها الإيحائية من وحدة السياق وتماسكه، فكلمة" نديم" ، مثلاً،  عكست في سياق بيت المتنبي، السابق ذكره، تمكن  حالة الاغتراب النفسيّ والاجتماعيّ في وجدان الشاعر، أمّا في كلام الأخطل: 
إذا ما نديمــــــي علّني ثمّ علّــني          ثلاث زجـاجـــات لهنّ هدير
خرجت أجرُّ الطرف حتى كأنني         عليك أمير المؤمنيــــن أميـــر
فلقد عكست كلمة " نديم" المشاركة الوجدانية والاجتماعية، وكشفت عن واقع حركيّ، قوامه فعل وجزاء، منطلقهما ماضٍ نحو مستقبل مؤسس على الارتواء ونشوة الخمر، وهاتين القيمتين المجسدتين فاعلية العنصر اللغويّ"نديم" أظهرتهما دقة النظم ووظيفة مكوناته الصرفيّة والنحويّة، التي وحدها لها الفضل في توليد الصور البلاغيّة وتكثيفها.
يفرض ترتيب عناصر اللغة علامات توحي بوظيفتها ودلالاتها، فتنقل رسالة رغب المرسِل في تبليغها بوضوح ودقة، وأيُّ تغيير في ترتيب العناصر يؤدي إلى تشويه فحوى الرسالة ويسيء إلى مضمونها وجوهرها، فإذا أُخضعت كلمات هذا البيت الشعريّ:
إن المرءُ ميتا بانقضاءِ حياته              ولكن بأن يُبغى عليه فيخذلا[17]
 لتبديل المواقع تتشوّه القيمة المعنويّة الحقيقيّة للمُرسَلة، وتتحوّل عن أهدافها، ويفرّغ التركيب الشعريّ من معانيه ودلالاته، فالمعنى العام يشير إلى حكمة مجتمعية وأخلاقية وإنسانية؛ فالمرء لا يّعد ميتًا إذا انقضت أيامه في الحياة، لأنّ الموت الحقيقيّ موت اجتماعيّ يفرضه الغي والظلم وما يولدانه من خذلان، فصار الخذلان موتًا، والبغي لا حياة، ولذلك كانت علامة الرفع في كلمة" المرء" دليلاً على أنّ " إن" نافية" وليست حرفًا مشبهًا بالفعل، فانتفت فرضية التأكيد والتشبيه، وصارت الحياة الحقيقة موازية للعدل والحق، ويمكن توضيح الفرضية ونتيجتها على النحو التالي:
(إن) = نفي=(-) 
 المرءُ ميت= لا وجود له=(-) نفي
انقضاء الحياة= لا وجود لها= (-) نفي
لكن= الاستدراك، وهنا أفادت إسناد النفي إلى ما بعدها=(-)
بأن يبغى=دلالة الفعل المنصوب مستقبلية سالبة
فيخذلا= دلالة الفعل المنصوب المستقبلية سالبة.
الشطرالأول:                         الشطر الثاني:
حرف نفي (إن)                    حرف استدراك أفاد النفي(لكن)
المرء ميت                             أن يبغى عليه  
انقضاء الحياة                         فيخذلا
قراءة عناصر التركيب المتكاملة والمتقابلة تؤدي إلى التصور التالي:
المرء ميت= البغي
انقضاء الحياة=الخذلان
وبتبديل المواقع في تقديم أو تأخير في صياغة النتائج يصير البغي مساويًا الموت، ويصير الخذلان مرادفًا لانعدام الحياة أي الموت المعنوي، لأنّ الحياة ليست عيشًا إن لم يكن العيش مصحوبًا بالكرامة.
النتيجة:
سالب(إن). سالب(المرء ميتًا) =موجب #(سالب)انقضاء الحياة
 (لكن)= سالب. ( أن يُبغى)= سالب.( فيخذلا)= سالب
أي، ليس الموت انقضاء الحياة،( إن المرء ميتًا)؛ لأن الموت الحقيقي كامن في البغي والخذلان؛( أن يبغى عليه فيخذلا)؛ إذًا: انقضاء الحياة(_) // البغي والخذلان(_)
أي أنّ البغي والخذلان هما السبب الرئيس في انقضاء فاعلية الحياة، فالموت الجسدي خلاص، والخذلان موت روح المكارم.
يظهر تحليل علاقات العناصر الرياضية والمنطقية بعضها ببعض أنّ أيّ تبديل أو تحريف في الكلمات أو مواقعها، أو علاماتها، يحدث تغييرًا في النتيجة، ولا يوصل إلى حقيقة الفكرة التي رمى إليها الشاعر.
إنّ العلاقة بين السياق وبين عناصره اللغويّة علاقة متداخلة متكاملة متوازنة مضبوطة بقوانين الصرف والنحو التي تحدّد طبيعة عناصر التراكيب وشروط اتساقها وتعالقها، فالعلاقة، إذًا، "بين العلامة الإعرابية ودلالة الكلمة في السياق حتمية، وبالتالي فالحركات علامات بارزة في تعيين المعنى الدلاليّ للكلمة، لأنّ الكلمة تفتقر في بنائها المستقل إلى مثل هذه الدلالات، ولا يعرف معناها إلا بعد اتساقها في الجملة.

رابعًا: العلامة الإعرابيّة والقيمة الدلالية

حظيت العلامات الإعرابية بعناية النحويين واهتمامهم، فاستقروا دورها في السياق، وكشفوا عن دلالاتها، ووضعوا تعريفاً علميًّاً منطقيًّا يفصح عن وظيفة الحركات في ترابط التركيب، كما بحثوا في أصل الحركات وقوتها، وبيّنوا إفادة كل حركة، وأصلها ودورها، ورأوا أنّ: "الحركة الإعرابية مع كونها طارئة أقوى من العلامة البنائية الدائمة، لأنّ الإعراب علم لمعان مقصودة، تميز بعضها عن بعض "[18].
شغل دور العلامة وتحديد ماهيتها علماء اللغة سواء أكانوا عربًا أم غير عرب، ورأى تودوروف Todorov أنّ العلامةَ " تتكون من ثلاثة أطراف متعاضدة هي الدال والمدلول والشيء المسمى، فالدال هو الصوت المنطوق والمدلول هو الشيء المستحضر المدرك باعتباره مرتبطا بتفكيرنا"[19]،فالعلامة رمز دالٌ على شيء آخر، وبالتالي العلامة اللغوية  لا تقوم إلا على مسمى، ولا دلالة لها إلا به،  ولا قيمة لها بذاتها، بل بما يفرضه السياق على المسمى، وبما تقدمه للسياق من كشف وتوضيح لوحداته اللغويّة، فهي، أيضًا، تكمن في المعنى المجرد/ المدلول والصورة الصوتية/الدال المرتبطة به، كما قال دي سوسير.
رأى علماء اللغة العربيّة أنّ مواقع العناصر اللغوية المتماثلة، لا تتمايز إلاّ بالعلامات التي تكشف عن المرتبة الوظيفيةّ والدلالية لكلّ عنصر من عناصر التركيبّ، فكان الإعراب، في رأي علماء العرب،  إفصاحًا وإبانة وكشفًا[20]، وكانت علاماته إشارات تُسهم في استنباط المعاني والتقاط إشارات السياق ودلالاته، وطاقة كمونية تتحكم في إنتاج المعاني، لأنّ " الكلمات والجمل لا تتمايز إلا به"[21]، وبخاصة عندما تجتاح النظم السياقيّ تراكيب تمردت على ثوابت المفاهيم التعاليقية، وانساقت إلى النُظم البلاغية التي تفرض تقديمًا وتأخيرًا وحذفًا وتقديرًا،فيأتي التفاعل الدلاليّ أكثر ترميزًا وإيحاء،لأنّ اللغة والكلمات المكونة لها،في رأي بوتون،"  تمثل صورة من العالم، وفي الوقت ذاته تمثل صورة لتفكير المتكلم ولحالته الشعورية"[22]، وهذا التمثيل تعويض لحقائق لا تتبدى إلا بفهم الكلام وكشف دلالاته، فالشوق في كلام المتنبي:
أغالب فيك الشوقَ، والشوقُ أغلبُ         وأعجب من ذا الهجرِ، والهجرُ أعجبُ
 بعد أن كان مفعولاً به خاضعًا لفعل العقل، صار في السياق عينه المسند إليه المتحكم في إبراز الحدث وإعلان الغلبة، وهذا التحوّل حددته العلامة الإعرابية، فكشفت عن الصراع في ذات الشاعر بين أن يكون غالبًا أو مغلوبًا، وكذلك كانت الحال مع الهجر الذي بدأ الكلام عليه مقرونًا بخفض الهجر والتقليل من شأنه، ليتحول في التركيب عينه إلى مسند إليه أساس متمظهر بعلامات القوة والرفع والإسناد.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ العلامة الإعرابية تتحكم بالهندسة الدلاليّة للتراكيب، وهذا يفرض على المتلقي أن يُلم بوظائف العلامات الإعرابية والدلالية، وأن يُحسن دقة استخدامها، ويستوعب آلياتها الإنتاج، وإجراءاتها المنطقيّة، وغاياتها القصديّة، ولقد نبّه علماء اللغة العربيّة إلى ربط دقة المعاني بفهم عميق لعلامات الإعراب، وظهر ذلك  في كلام الكسائي على وظيفة النحو الدلاليّة في حواره مع الفقيه أبي يوسف القاضي الذي ذم النحو، فقال" ماذا تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِك، وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامَك، أيٌّهما كنت تأخذ به؟ قال: آخذهما جميعًا، فقال له أخطأت"؛ لأنّ القول الذي يحاسب عليه الرجل في قتل الغلام هو:" أنا قاتلُ غلامِك" لأنّ الاسم المشتق بإضافته أفاد الحدث الماضي، وأما القول: " أنا قاتلُ غلامَك" لأنّه مستقبل ولم يقع ولا تكون المحاسبة على أمر لم يقع[23].
إنّ للعلامة الإعرابيّة دورًا أساسًا في رصف الكلمات وإنتاج الدلالة، وكانت هذه العلامات، في رأي علماء العرب، نتاج الفكر المنطقي، فانصبت اهتماماتهم على معنى العلامة، وعلى فهم دلالاتها ووظائفها، وحاولوا ربط أسماء الحركات بشكل النطق، فالضمة جاءت من ضم الشفتين عند النطق بها، والفتحة من فتح الفم، وكأنه ينتصب في نطقها، والكسرة من جر الفك إلى أسفل، فكأنّه يتكسّر، ويسقط ويهوى إلى أسفل؛ وحاولوا تعليل الحركات في السياق، فرأوا أنّ الرفع يدل على العلو، فيقال ارتفع الشيء ارتفاعًا، إذا علا [24]، ولم يهملوا دور العلامات المُقدرة على الحرف الأخير، فقسّموا الإعراب إلى ظاهر ومُقدّر، وعللوا  سبب ظهور الحركة أو تقديرها على الحرف الأخير تعليلاً علمياً منطقياً يفسّر ويؤول قيمة النشاط اللغويّ ودور الحركة في كشف الدلالة، وبخاصة عندما يتعرض السياق للتقديم والتأخير والحذف،  فبحثوا عن شروط التقديم والتأخير والحذف، وفي قوانين وخصائص التعجب والنداء والقسم والاختصاص والتنازع والاشتغال والاستثناء، والمدح والذم ، وفي وظيفة التوكيد والعطف والبدل والنعت والنفي والنهي، وغيرها من أساليب الأنساق الصرفية والنحوية المؤسسة ضوابط تشكيل سياقات صحيحة،لا حصر لها،فأكدوا على أنّ أي تغيير يفرضه التركيب على موقع العنصر يؤثر على رمزية العلامة وقيمة العنصر الدلالية.
يزخر الخطاب القرآني بنماذج لغوية تظهر دور العلامة وقيمتها الدلالية في فهم النص القرآني وتأويل آياته، وذلك مهما حدث على التركيب من تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار؛ ونبّه الفقهاء واللغويون إلى التركيز على علامات الإعراب، وبخاصة في قراءة القرآن الكريم، لأنّ تبديل الحركات يسيء إلى جواهر المعاني، ويعكس دلالاتها ويشوه صورها،  ففي قوله تعالى:
_"وإلى عادٍ أخاهم هودًا" [25]
 جاءت كلمة "أخاهم" في حالة النصب، فلو جاءت بعلامة الجر"أخيهم " لتبدلت الدلالة وتغيّر المعنى، لأنّ النصب أشار إلى فعل محذوف تقديره "وأرسلنا إلى عاد أخاهم "فكانت علامة النصب المكتسبة من خلال السياق القرآني دليلاً إلى فعل محذوف جوازًا، لأسباب بلاغية وجمالية ومنطقية، فاكتسبت الكلمة بعلامة النصب وظيفة نحوية ومعنى بلاغيًا ودينيًّا أكثر عمقًا وإفادة.
_ وفي قوله تعالى :" وهو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام وكان عرشُه على الماء ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً ولئن قلتم إنّكم مبعوثون من بعد الموت ليقولَنّ الذين كفروا إن هذا إلاّ سحرٌ مبين"7" ولئن أخّرنا عنهم العذابَ إلى أمة معدودة ليقولُنّ ما يحبسه ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفًا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون"8[26] ، ورد فعل" يقول" متصلاً بنون التوكيد، وذلك في آيتين متعاقبتين، ولكنّ قوانين تشكيل المكوّن الصرفيّ وما يرتبط به من شروط الإسناد التركيبيّ جعلت من الفعل الأوّل مبنيًا على الفتح لاتصاله بنون التوكيد،و لأنّ المسند إليه اسم ظاهر، وبالتالي بقى الفعل في صيغة المفرد، أمّا الفعل الثاني فكان مرفوعًا وعلامة رفعه نون محذوفة لأنّه من الأفعال الخمسة، وكان الحذف فرارًا من توالي الأمثال، أمّا  الضمة فهي إشارة إلى الفاعل المحذوف منعًا لالتقاء الساكنين، وهي في الأصل " واو" الجماعة المتصلة بالأفعال الخمسة؛ فكيف يستطيع القارئ أن يفهم بلاغة القرآن وعظمة دلالات آياته من دون معرفة علميّة بقوانين النحو؟
_وفي قوله تعالى" إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ "[27]  رفع بعض القرّاء لفظ الجلالة، وجرَّ كلمتي( عباده_ العلماء)، وصار الله فاعلاً أسندت إليه الخشية، فكان الرفع في اسم الجلالة وعلامة الجر في كلمتي " عباده" و" العلماء"حجة لدى المشككين في جعل الله فاعلاً خائفا من عباده العلماء، أما القراءة الصحيحة فتؤكد على اقتران خشية الله بالمعرفة، فالعلماء يزدادون تعلقا بالخالق، كلما ازدادوا معرفة، ؛ فكان الإعراب توضيحا للمعنى، وتكريمًا للعلماء، وتعظيمًا للخالق، ودعوة إلى العلم والمعرفة.
_ وفي قوله تعالى:" إنّا أرسلناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" [28]، قرئت كلمة" تسأل" بالجزم، ووردت في القرآن  مرفوعة، والدلالة تتغيّر بين الرفع والجزم،  فقال الأخفش: إذا استخدمت كلمة تسأل بالجزم تغيرت دلالة الكلمة في السياق، وصار الكلام دالاً على النهي عن السؤال، وفي ذلك تعظيم لما فيه من العذاب، أما الرفع فهو على النفي، وتكون الجملة استئنافية فكان المعنى:" أرسلناك بشيرًا ونذيرًا وغير سائل ، أو غير مسؤول  وهذا المعنى أفصح من دلالة الجزم.."[29] .
_" وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات"[30]
الابتلاء والاختبار يكون أفصح دلالة وأعظم قدرًا إذا كان من الله لعبده ولا يجوز أن يمتحن العبدُ ربَه ويختبره، والتمييز هنا ما كان ليحصل لولا الإفصاح، عن مواقع الكلم والتمييز بين الفاعل والمفعول به، من دون علامات الإعراب، فالحركات رموز للأصوات، والصوت اللغوي جزء رئيس من تشكيل الكلمة، وهذه الحركات هي المرشدة إلى المعاني، ولقد عبّر الزجاجي عن ذلك بقوله: "إن الأسماء لما كانت تعتو رها المعاني وتكون فاعلة ومفعولة ومضافة، ولم يكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، جعلت حركات الإعراب تبين عن هذه المعاني، وتدل عليها ليتسع لهم في اللغة ما يريدون من تقديم وتأخير عند الحاجة"[31].
تضمر علامات الإعراب فعلاً تحريضيًّا يحرّر الكلمات من ثباتها، ويحفّزها على التلاقي والتواصل والإسرار ومن ثم المكاشفة؛ لأنّ الحركة، في رأي ابن جني، تقلق الحرف وتزيله عن سكونه وتُحركه للالتقاء بغيره، وبهذا التلاقي والتآلف ضمن السياق تتحدد قيمة الكلمات الدلاليّة، يكتسب التركيب معنى عامًا/ خاصًا، يدين في تشكُّله إلى حركة الحروف، بوصفها وسيلة ربط، وكمون إسرار وإفصاح، ولكنّ هذه العلامات بقدر ما تتمتع به من طاقة ترميز، وفاعلية خلق، فهي تحرص على أصالتها وثباتها، فاختصت الحركات بمدلولاتها في السياق، واختصت الضمة بعلامة المسند إليه، والفتحة بعلامة المفعولية، والكسرة بعلامة الخفض والجر، ولكنّ هذه العلامات لا تستقل بدلالاتها من دون مرموز إليه تكتسب منه وجودَها، وتكسبه، في الوقت عينه، موقعه السياقي وقيمته المعنويّة.
حظيت العلامات الإعرابيّة باهتمام علماء اللغة، ورأوا أنّها، على الرغم من استقلاليتها، فهي تُكتسب اكتساباً في السياق، وليست من أصل البناء التركيبي للكلمة، أمّا ما كان منها ثابتًا في سكونية حرفه الأخير فلقد أطلقوا عليه صفة البناء اللفظيّ، وبحثوا عن محله الإعرابيّ  وعن موقعه في الكلام، وذلك من خلال علاقته ببقية العناصر التركيبية للجملة النحويّة، وعبر الخليل بن أحمد عن ذلك بقوله: "إن الفتحة والكسرة والضمة زوائد وهنّ يلحقن الحروف ليوصل إلى التكلم به، والبناء هو الساكن لا زيادة فيه"[32]، فكان للبناء دلالات مغايرة للإعراب، ولذلك حرص الفصحاء من العرب على استخدام البناء والإعراب، وفق ما تفرضه المعاني المحتجبة في ظلال التراكيب، ففي قول أمية بن الصلت نلمس اختلاف دلالة الأسماء الواقعة بعد" لا" باختلاف طبيعة "لا" وظيفتها في الاسم الواقع بعدها:
ولا لغوٌ ولا تأثيمَ فيها               ولا حينٌ ولا فيها مُليم[33]
 جاءت "لا"الأولى والثالثة، والرابعة، تنفي الخبر عن الاسم الواقع بعدها فقط، لأنّ "لا" أفادت النفي، وكانت بمعنى " ليس"، فجاءت الكلمات معربة، أمّا"لا" الثانية" فلقد نفت الخبر عن جميع أفراد جنس المبتدأ لأنّها نافية للجنس ، وجاءت الكلمة بعدها مبنية على الفتح، لأسباب نحوية وبلاغية تفضي إلى دلالات منطقية.
 نجد القضية عينها في بيت لأبي الطيب يقول فيه:
لا خيلَ عندك تهديها ولا مالٌ               فليسعدِ النطقُ إن لم تُسعدِ الحالُ.

كان تركيز المتنبي على نفي وجود القوة المعنوية نفيًا قاطعًا؛ فالخيل التي يُكنى بعددها عن الشجاعة والإقدام والبطولة، لا وجود لها، ويمكن أن تُرى بالعين المجردة، فتأكيد النفي لا يحمل التصديق أو الكذب،  ولم تكن الدلالة عينها في نفي القوة المادية، لأنّ مال الشخص مخبوء والكلام عليه يجوز أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فكان النفي حصرًا على واقع آني يجمع بين المرسل والمتلقي، علمًا أن تبادل المواقع بين كلمتي" خيل" و"مال" لا يحدث تغييرًا في الوزن والموسيقى، لذلك يمكن القول إنّ ترتيب الكلمات وعلاماتها الإعرابية اقتضته غايات بلاغيّة ودلالات معنويّة، اجتماعيّة ونفسية وقيمية إنسانيّة.


يحرّض التشكيل اللغويّ نشاط السياق ويوجهه في عملية ترتيب الألفاظ الخاضعة، في تأدية المعاني، لعلامات تفرضها العلاقات السياقية الصرفية والنحوية، فيتم تحديد قيمة العنصر اللغوي ورتبته التنظيمية، ووظيفته وطبيعة ترابطه مع بقية العناصر، لأنّ العلامة الإعرابية وحدها القادرة على التمييز بين علاقات الإسناد أو التعدية أو غيرها من العلاقات، فإذا قرأنا هذا البيت لامرئ القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة      كفاني، ولم أطلب، قليلٌ من المالِ[34]
وجدنا أنه يتضمن فعلين" كفاني" و" أطلب" قبل كلمة"قليل" الاسم المعرب، والفعل الأول متعدٍ إلى مفعول به واحد وهو محتاج إلى فاعل، وفاعله يجوز أن يكون مستترًا، والفعل "أطلب" يحتاج إلى مفعول به وفاعله مستتر وجوبًا تقديره "أنا"، ولذلك يجوز أن تكون كلمة " قليل" فاعلاً للفعل "كفاني" أو مفعولاً به للفعل "أطلب" فجاءت علامة الرفع لتحدد موقع الكلمة في السياق على أنّها مسند إليه " فاعل للفعل" كفاني" وليست مفعولاً به للفعل أطلب" وبتحديد مواقع الكلم في السياق من خلال علامة الإعراب تتغير الدلالة فالشاعر، وفق ما فسّر ابن يعيش في كتابه شرح المفصل، أراد أنّ يقول " إنني لو سعيت لمنزلة دنية كفاني قليل من المال ولم أطلب الكثير"[35]
أثبت علماء اللغة العربيّة دور العلامة الإعرابية في السياق، وعلّلوا سبب ورودها في آخر الكلمة من دون أوائلها وأوساطها بفكر فيزيائيّ علميّ منطقي، فقال الزجاجي: "لم يُجعل الإعراب أولاً، لأنّ الأول تليه الحركة ضرورة الابتداء، لأنه لا يبتدأ إلا بمتحرك، ولا يوقف إلا على ساكن، فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب، لأنّ الحركتين لا تجتمعان في حرف واحد، ولما فات وقوعه أولاً لم يكن أن يُجعل وسطاً، لأنّ أوساط الأسماء مختلفة، لأنّها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسباعية، فأوساطها مختلفة..."[36]، وبالمنطق عينه برّر قطرب عدم توالي ساكنين في السياق، فقال: "إنّما أعربت العرب كلامها، لأنّ الاسم في حال يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون، وأمكنهم التحريك، جعلوا التحريك معاقباً للإسكان ليتبدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين في حشو الكلمة ولا في حشو بيت، ولا بين أحرف متحركة، لأن في اجتماع الساكنين يبطئون، وفي كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب الصلة في كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الاسكان"[37]. 
إنّ حركة السياق شبيهة بحركة الوسط الفيزيائي، فلا ساكن يعقب سكونًا من دون حركة، وكذلك لا يلتقي ساكنان في سياق لغويّ، فإذا تتابعت السواكن في السياق تخلت بعض الحروف عن سكونيتها لمصلحة الحرف غير القادر على الحركة، وإذا تعذّر النطق بالساكن تمت الاستعانة بحرف وصل يوصل إلى النطق به، فأضفى العرب على السياق جمالية في الصورة والصوت والمعنى والدلالة، وحافظت التراكيب على نسبية تعالقية بين المكونات اللغوية وعلاماتها ودلالاتها ورموزها وإيحاءاته، وفق عمليات تناسبية تعطي للسياق قيمًا دلالية مغايرة ومتمايزة. 
خامسًا: كلمة أخيرة
لما كانت الكلمات المنطوقة أو المكتوبة تختزل الوجود والغياب للشيء المستحضر، فيمكن اعتبار اللغة شرطًا أساسًا للوعي الذاتي والجمعيّ، لأنّها تشكّل الوسيط بين الإنسان وبين الأشياء فاللغة، إذًا، خلق مستمر تبني الفكر، وتتبنى تجسيد حركته، ولما كان البناء القابل للاستمرار متسمًا بالجدة، فلا بد من أن تواكب أنماطه المتجددة انحرافات في دلالة المنطوق اللغويّ، وإضافات تفرضها طبيعة التراكيب المشحونة بحركات داخلية مضبوطة بقوانين صرفية ونحوية، تعمل على فرملة المكونات ضمن مساراتها الدلالية النحوية والصرفية والبلاغية، من دون أن تسلبها حريتها في اختيار مواقعها داخل التنظيم بما يتناسب والقيمة المعنوية للنتاج الفكريّ.
تمارس اللغة رقابة ذاتية مشحونة بفعل توليديّ، يسمح لها أن تنغلق على طاقات من الاستخدامات غير المحدودة، فتنتج عددًا لا حصر له من السياقات التي تنتظم ضمنها وحدات لغوية متشابكة في رباطها التكوينيّ، ومحرضة على توليد المعاني، وهذه الطاقات التوليدية تحّدد مساراتها عمليات لغوية ذهنية منطقية توازن بين الألفاظ المتعالقة ودلالاتها،  فتعقد المكونات النحوية والصرفية عقد توافق واتفاق يضمن سلامة السياق، من جهة، ويتعهد، من جهة ثانية، نقل تصورات الفكر وحركاته بأمانة تضمن" للنص معنى موضوعيًّا مقصودًا من كاتبه..."[38]، فتمارس اللغة نشاطها في سياقات تتبنى نتاج نشاطات الفكر، وتكوّن فضاء معرفيًّا لا حدود له، يحرّض على الحرية والإبداع، بقدر ما يحترم قوانين مكونات عناصره وخصائصها النحوية والصرفيّة.




الهوامش :


[1]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص3
[2]_دراسات في نقد الشعر، مؤسسة الأبحاث العربيّة، ط1، 1980،ص 64.
[3]_ الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 314 – 315.
[4]_دلائل الإعجاز، ص316.
[5]_ دلائل الإعجاز،ص   153 .
[6] _meaning and style.p8.
[7] _semantic fields .p 174.
[8] _ oilman,  meaning and style.Oxford..p9.
[9] _nida.componential analysis of meaning. mouton 1975.p196.
[10] _ياقوت الحموي، معجم الأدباء،8/ 214.
[11] _ابن جني، سر صناعة الإعراب، ص 19
 -[12] الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 64_65.
[13] _ دلائل الإعجاز ، ص317.
[14] _ المتنبي، الديوان،
[15] _ سيبويه، ج1، ص 20_21_22.
[16] _ المزهر،ج1، ص41.
[17] _محمد محيي الدين عبد الحميد، شرح ابن عقيل،لا.ت، ج1، ص 318.
[18] _الكليات، ج1، 216.
[19] _theories du symbol, seuil,1977,p17.
[20] _الجرجاني، أسرار البلاغة،تح السيد محمد رشيد رضا،دار الفكر، ص56.
[21] _ السيوطي، الأشباه والنظائر،ج1، ص 89.
[22] G. Bouton, "La signification" éd. Klincksieck, 1979 p. 13.
[23] _ ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء،13/177
- [24] الايضاح في علل النحو،ص 93 سر صناعة الإعراب ج1،ص 30_31.
[25] _ هود 50.
[26] _ هود:7_8.
[27] _ فاطر:28.
[28] _ البقرة:119.
[29] _ الأخفش، معاني القرآن، ج1، ص 146.
[30] _ البقرة:128.
[31] _ السيوطي، الأشباه والنظائر، ج1، ص 76- 78.
[32] _ سيبويه، الكتاب، ج2، ص 315.
[33] _ البيت مأخوذ من شرح ابن عقيل، ج1، ص 402.
[34] _ امرؤ القيس ، الديوان، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، ط3، القاهرة، ص 39.
[35] _ج1، ص79.
[36] _ الزجاجي الإيضاح في علل النحو، ص 76.
37- السيوطي الأشباه والنظائر، ج1، ص 76.
[38]_M .Charles l,arbre et la source, p,152.






























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق