الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

البنية الفنية البرغماتية في شعر أبي الطيب

البنية الفنية البرغماتية في شعر أبي الطيب
أطاعن خيلاً "أنموذجًا"
أولاً: عتبة البحث
تشهد الساحات النقدية  العربيّة، اليوم،  حركة نشطة على مستوى التنظير والتطبيق، غير أنّ هذه الحركة تفتقر إلى تفعيل كمونية النقد العربيّ، لأنّ معظم هذه الدراسات تلتزم نظريات وآراء نقديّة  وافدة، قد تتعارض  بقدر ما تتطابق، من دون التركيز على خصوصية النص العربيّ المؤسس على لغة، لها قوانين تشكيل خاصة بها، علمًا أنّ معظم النظريات النقدية اللسانيّة، العربيّة وغير العربيّة، مادتها الأساس اللغة[1]، والاختلاف بين النظريات كامن في كيفية تلقي إشارات النص وفهم دلالاته، وفضّ أسراره، وذلك مهما تنوعّت المناهج النقديّة.
يحظى النقد البرغماتيّ ، كغيره من النظريات النقدية العالميّة، باهتمام الدارسين العرب[2]، فكثر الكلام على أصل الكلمة المعجميّ[3]، وعلى الأصل المقابل في اللغة العربيّة[4]،   وعلى اهتمام المناطقة والفلاسفة والسوسولوجيين والسيكولوجيين  وعلماء اللغة بتحديد مفاهيمها، وبكيفية مقاربتها وتوظيفها، ومن ثمّ تكريسها في نظريات نقدية على الرغم من التباين في الآراء وصعوبة ابتكار منهج نقدي برغماتيّ، له حدود وإجراءات واضحة يمكن تبنيها   في عمليات  التوظيف والتداول النقدية[5].
 تكشف الدراسات النقديّة عن تداخل المصطلحات والمفاهيم اللسانيّة ، وصار هذا التداخل سمة بارزة في خطاب النقد العربيّ الحديث، ولقد أوضحنا في بحث سابق مفهوم مصطلح البرغماتيّة، ولذلك نلتزم النأى، في هذه الدراسة،  عن الخوض في  أصل مصطلح البرغماتيّة، أو في معناه المعجمي والاصطلاحي والتداوليّ ، وستُختصر المحاولة النقديّة هذه، على توظيف مفهوم مصطلح البرغماتية على أنّه مفهوم فلسفيّ ألسنيّ ذو مكوّن منطقيّ، من دون أن نعيد ما تذكره الدراسات النقدية، و ما تتناوله الأبحاث اللغويّة العلميّة، التي أظهرت  دور  العلماء اللسانيين[6] ، الذين أسّسوا لنظريات النقدالألسنيّة القديمة والمعاصرة ، العربيّة وغير العربيّة.
ليس الهدف من هذه الدراسة التنظير للنقد البرغماتيّ، أو استنساخ آراء العلماء غير العرب[7] ، أو الإسقاط[8] والتنظير، بل استخدام أدوات النقد البرغماتيّ في دراسة تطبيقيّة، لا تطمح إلى تعظيم هذه النظرية اللغويّة الجديدة، ولا إلى النيل منها، أو من بعض العاملين في فضاءات النقد العالمي، لأنّ الغاية تنحصر  في الكشف عن البنية الفنية البرغماتية في شعر المتنبي، وبخاصة قصيدة " أطاعن خيلاً" .
تختزل لغة المتنبي الشعريّة  آراءه ونظرته إلى الكون والحياة ، ولذلك لا يمكن قراءة المتنبي معزولاً عن السياقات الاجتماعيّة والدينيّة والاقتصاديّة والنفسيّة والعلميّة والثقافيّة والسياسيّة، التي ساعدت على إنضاج مقاصده وترجمتها بنية لغوية تفصح وتضمر، في اللحظة عينها، حقيقة علاقة المتنبي بنفسه، أولاً، وبالحياة والمجتمع والكون، ثانيًا، لذلك كان كشف طبيعة هذه العلاقات يقتضي معرفة عميقة بلغة المتنبي التي ارتبط تشكّلها بثقافته وفلسفته الحياتية، وبسياقات متنوعة أثرت تجربته الشعريّة، وأفاضت في اتساع فضائه المعرفيّ المحرّض على الخلق، والحاضن إبداعاته.
ثانيًا: البنية الفنيّة البرغماتيّة  وتجلياتها في شعر المتنبي
لكلّ نص إبداعيّ بنيةٌ فنية متنامية متمايزة في تشكّلها و دلالاتها، فإذا كان تشكّل البنيات خاضعًا لثوابت ومتغيرات معجمية وصرفية وإعرابيّة وقدرات خلق ، فإنّ  التقاط إشارات هذه البنيات  وكشف أبعادها الدلاليّة والترميزيّة مرتبط ، حكمًا، بإدراك طبيعة التراكيب النحويّة، و بمعرفة أسرار التراكيب، ومن ثم القبض على كيفية النقل والتقليب والتداول بين الألفاظ، وفق ما تفرضه السياقات المؤثرة في خالق النص الإبداعيّ.
تنوّعت الدراسات الألسنية البرغماتية مذ وضع الفيلسوف الأميركي موريس أسس نظرية الدلالات، فكانت إشكالية جدلية فرضتها مبادئ نظريتين مختلفتين، تربط الأولى بحسب بلاغة بيرلمان Perelman   النظرية الحديثة بالمنهج البلاغي القديم، وتركّز الثانية وفق نظرية دوكروDucrot  على قوانين الحجة المنطقية التي لم ينكر وجودها بيرلمان بل قال بمنطق الحوار القائم على أسس الإقناع المنطقيّ؛ كون الخطاب الذي يتناول المستجدات ينبغي أن يتلاءم وقيم المتلقّين ومعتقداتهم.
يقتضي مبدأ الملاءمة وجود عناصر لغوية وغير لغوية تتعاضد في بنية نصّية متماسكة تفي بمقاصد المتكلم وتؤدي إلى نتائج ملموسة مقنعة، يتبناها   متلقٍ قادر على  توظيف مخزونه المعرفيّ غير المتناقض مع مخزون المرسل المعرفيّ،  فيكون التأثر والتأثير على قدر ما يكون الخطاب موسومًا بسياق لغويّ، أدواته أفعال كلاميّة ، قوامها قوة إنجازية فعّلتها مستويات الاستخدام اللغويّ؛ المعجميّة والصرفية والنحوية والتركيبية والدلاليّة والسياقيّة.
  إنّ  النص البرغماتي، شأن إيّ نص إبداعيّ، يقوم بشكل أساس وأوليّ على حدود الوضع الأصلي للملفوظات الخاضعة في تركيبها لمؤثرات معرفيّة وعلميّة ودينيّة ونفسيّة وثقافيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وغيرها من المؤثرات التي تملأ الخزّان المعرفيّ والإيديولوجيّ للمتكلم، وتحدّد قيمته، والتي بها عينها تتحقق القوة الإنجازية للفعل الكلاميّ؛ لأنّ الكلمة  يتغير مدلولها مع تبدل سياق التخاطب وثقافة كلٍّ من المرسل والمتلقي،  ومقاصدهما . لذلك يمكن القول إن النقد البرغماتي، بوصفه إبداعًا مؤسسًا على إبداع، يحتاج في إجراءاته إلى قارئ متعاون قادر على التقاط أشكال المعرفة التي يضمرها النص، وعلى الكشف عن  كفاءات لسانيّة  تفعّلها معرفة دقيقة بقوانين إنتاج الخطاب وظروف إنتاجه.
 إنّ النقد البرغماتيّ ثري في أدواته ، كونه يختزل مفاهيم  مدارس ألسنية وفلسفيّة متنوعة، ولا يمتلك منهجًا محددًا، بل ينفتح على معظم المناهج النقديّة الألسنيّة،  التي كرّست منهج النقد البرغماتيّ وسيلة معرفية قادرة على تحريض الكمون الفكريّ وعلى استثمار مرجعيات معرفيّة، تقوّي كيمائية  التواصل والتفاعل بين النص وقارئه،  وتنشّط عمليتي التفسير والتأويل، وبالتفسير والتأويل تتنوّع الدلالات، وتفيض المعاني، وتُفضّ المقاصد والغايات، و من ثمّ تتمايز النتائج  بتمايز طاقات الناقد وأدواته، هذه الأدوات التي تساعد على إنتاج دراسة معمّقة تتناول الأفكار والمعاني والألفاظ والمفاهيم والإشارات، وكلّ ما له علاقة بالتوظيف اللغويّ وغير اللغويّ.
  تأسيسًا على ما سبق يمكن القول إنّ  القراءة  النقديّة  لشعر المتنبي تستطيع أن تُكشف عن وظيفته تواصلية، قوامها لغة إبداعيّة،  تتمايز ببنية نحويّة وصرفيّة وبلاغيّة ودلاليّة، تنطق بأفعال مختلفة، و تخبر عن أفكار المتنبي وعن علاقته بالحياة وأبنائها، فأضمرت هذه اللغة  قوة إنجازية تمركزت في ما يحدثه الخطاب الشعريّ من قبول أو رفض أو تماهٍ بصاحب النص، أو شعور بالرضى والطمأنينة، وذلك من خلال المعاني والموسيقى والدلالات، التي يمكن استنباطها من عناصرّ لغويّة وغير لغويّة ،  تعكس مبدأ التعاون على ضوء الواقع المؤثر في أشكال خطاباته الشعريّة، التي تنُطق المتنبي وينطق بها، لذلك يمكن القول إنّ شعره  وسِم   ببنية فنيّة برغماتيّة، تتوافق والأسس العامة، التي تبنّاها النقّاد الألسنيون، ومن هذه الأسس البارزة قي شعره:  
أ‌- القيمة التواصليّة
 من أهم خصائص الشعر العربيّ القديم ، بشكل عام، تحقيق عملية التواصل مع المتلقين، وهذا ما عبّر عنه النقاد العرب ، فرأى  الجرجانيّ في كتابه دلائل الإعجاز أنّ للشعر العربيّ غرضًا تواصليًا، لأنّ الغرض من الكلام، بما في ذلك الخطاب الشعري، إنّما هو إيصال غرض المتكلم ومقصوده إلى السامع."[9]. ومن المتفق عليه أنّ شعر المتنبي حقّق فعلاً تواصليّا في فضاء فكريّ وثقافيّ، يزداد اتساعًا مع حركية الفعل الثقافيّ، الذي ضاعف من مروحة عملية الفهم عند المتلقين نتيجة غزارة المعاني وكثافتها التأويليّة، بالإضافة إلى  ثراء المعاني القابلة للإدراك من قبل متلقين،  امتلكوا طاقات تؤهلهم لاستنطاق مقاصد الشاعر، وهذه القابلية الاستنطاقية  تفصح عنها الكثرة في عدد الشُرّاح والمفسرين لشعره، قديمًا وحديثًا، حتى ظن الباحثون أنّ نتاج المتنبي قد أُشبِع دراسة، غير أنّ الفضاء النقديّ يؤكّد تنوّع القراءات الجديدة ، وتثبت قدرة هذا الخطاب الشعريّ على فاعلية التواصل بينه المرسل والأجيال المتعاقبة، وهذا ما أشار إليه الشاعر بقوله:
وما الدهر إلاّ من رواة قصائدي          إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا[10]
تؤكد حركية التراث العربيّ أنّ شعر المتنبي هو الأكثر اتساعًا من حيث التداول في المدارس والجامعات وبين المثقفين والعامة ، وبخاصة ما جاء منه حكمة، حتى ثبت القول إنّ المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس، ؛ لأنّ شعره جاء بوح روح إنسانيّة  تتكلّم بالكلّ وللكلّ، والأمثلة أكثر من أن تحصى في شعره، منها:
إنّي لأعلم واللبيب خبير                       أنّ الحياة، وإن حرصت، غرور
ب‌- الفعل الكلاميّ
تشير الدراسات البرغماتيّة إلى أن الفعل الكلاميّ هو فعل ينتجه قول ذو بنية لغويّة وصرفيّة ونحويّة ودلاليّة، وذلك  في وحدات لغويّة، غايتها  التأثير في مشاعر وأحاسيس المتلقي وفكره، بغية تحقيق أغراض إنجازيّة، قوامها قوة إنجازيّة موسومة بالمنطق.
 يحيل التأمل المعرفي لماهية شعر المتنبي على الفضاء الثقافي والمظاهر  اللغويّة والاتصاليّة المشحونة بأفعال كلامية، لها مقاصد وغايات مباشرة أو غير مباشرة، سواء تجلت المقاصد في القوة الانجازية الحرفية أم غير الحرفيّة؛لأنّها تترك  أثرها في نفس المتلقي، وتجّسد، في اللحظة عينها، قيمًا إنسانيّة و أفعالاً حركيّة نفسيّة و واجتماعيّة وخلقيّة، تولّد متعة فنية، وتحرّض على التحليل والاستنباط. وهذا بيّن في معظم القصائد التي نتناول منها هذا البيت قراءة وتحليلاً:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًا               وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
تظهر القراءة النقديّة أنّ القوة الإنجازيّة تحيل على مقاصد ودلالات، تستبطنها  أقوال مشحونة بأفعال  كلاميّة، تترك أثرها في نفس المتلقي، الذي يتواصل في لحظة ما مع الشاعر / المرسل.
ومن تجليات القوة الانجازيّة ومقاصدها ودلالاتها وغاياتها،  ما يمكن استنباطه  من  هذين النموذجين:
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا             ألاّ تفارقهم  فالراحلون هم
غنيٌّ عن الأوطان لا يستفزني            إلى بلد سافرت عنه إياب
فالبيت الأوّل والثاني يؤكّدان حالة المصالحة بين الإنسان العظيم وذاته، لأنّه أينما ارتحل سيجد من يقدّره ويحترمه، وتكون خسارة الارتحال قد وقعت على المقيمين، لأنّ  الارتباط بالمكان ، بالنسبة إلى الشاعر، مشروط  بكفاية الغنى النفسيّ.
 إنّ السبب الكامن وراء فاعلية هذه الأفعال الكلامية في شعر المتنبي يعود إلى أنّ لغته الشعريّة اتسمت بالفصاحة والبلاغة، فأضمرت قوة إنجازيّة ،غايتها الإقناع أو الإرشاد أو التضليل، وذلك من خلال استخدامه صيغًا متنوعة، ثرية بالتفسير و تأويل، وبأدوات الترميز وبأساليب الإخبار والإنشاء والشرط والأمر والنهي والاستفهام والتعجب.
ج- النفعية  
 لما كان الشعر في رأي ابن طباطبا " تُدفعُ به العظائم، وتُسَلّ به السخائم، وتُجلب به العقول، وتُسحر به الألباب، لما يشتمل عليه من دقيق اللفظ ولطيف المعنى."[11]، فإنّ للشعر منافع أخلاقيّة ونفسيّة و إمتاعيّة وفكريّة وجماليّة  وبيانيّة وموسيقيّة وإخباريّة وتعليميّة ، وشعرالمتنبي قد حقّق هذه الشروط النفعية الماديّة والروحيّة والبيانيّة والعروضيّة، واستطاع بشعره أن يحرّض المتلقي على التفكير والتحليل، والأمثلة أكثر من أن تحصر في بحث، وربما كان أقربها إلى نفسي هذه اللوحة الانسانيّة الرائعة، التي تصوّر الحوار الضمني بين ذاتي المتنبي؛ الذات العاطفيّة السعيدة في وفائها لمن غدر، والذات العاقلة المُدرِكة المتألمة المتوسلة الوفاء من تؤمها، فيدخل المتلقي في نفعية اجتماعيّة ونفسيّة وفكريّة وجماليّة وعاطفيّة وبيانيّة وبلاغيّة وموسيقيّة وتحليليّة وإخباريّة :
حببتك قلبي قبل حبك من نأى         وقد كان غدارًا فكن أنت وافيا
أقلّ اشتياقًا أيّها القلب ربما            رأيتك تصفي الود من ليس صافيا
جاءت الجمل في هذين البيتين مشحونة بجمالية التلقي، وتعدد المقاصد والغايات، وممهورة بطاقة تأويليّة تحرّض على  التحليل والتفسير والربط، وعلى استثمار مرجعيات معرفيّة وثقافيّة، تثري عمليتي التواصل و التفاعل مع بنية الخطاب الشعريّ الذي تضمّن أساليب تركيبيّة غلب على المُسند فيها صيغة الفعل الماضي، التي وصّفت  أحداثًا تمنّى الشاعر أن يتحرّر منها، واستخدم ، أيضًا، صيغة الطلب بالأمر، وصيغة النداء، فتكشفّت حالة الاضطراب والقلق وسلطة القلب على العقل، وكذلك الصراع الداخليّ بين عقل وقلب، عقل يرفض الوفاء، وقلب محبِّ يصفي الودّ لمن ليس صافيا .
د- ارتباط شعر المتنبي بالواقع
يرتبط شعر المتنبي  بواقع التجارب التي عاشها،  فصوّرت قصائده جوانب متنوعة من حياته، وتضمّنت إحالات كثيرة على الواقع العلميّ واللغويّ والثقافيّ والإنسانيّ والحضاريّ والاجتماعيّ، فإذا تناولنا مطلع  قصيدة " وا حرّ قلباه" ، نجد أنّ  السياق يكشف عن  إحالة المتلقيّ ، فكريًّا وحضاريّا، على معرفة كيمائيّة ومناخيّة، أثرت مخزون الشاعر العلميّ، ثمّ وظّف مخزونه في تشكيل الصور وتوليد الدلالات والمعاني :
واحرّ قلباه ممن قلبه شبم            ومن بجسمي وحالي عنده سقم
تتجلى، من خلال التراكيب، فرضية علميّة كيمائيّة/ نفسيّة، فالشعر يبدأ قصيدنه بواو الندبة، وكان المندوب حرارة حبّ لسيف الدولة الذي يقابل حرارة الحبّ بالبرودة والجفاء، فنتج من تصادم الحرارة والبرودة تساقط معنويّ، تبدّى في سقم جسديّ ونفسيّ تساقط شعرًا ما زال يروي النفوس الظمأى ، فجاء الشعر المتساقط، في لحظة فذوذية، أشبه بماء الحياة المتساقط مطرًا لحظة اصطدام البخار المناخيّ الحارّ بطبقات باردة، فعكس هذا البيت تأثر الشاعر بالبيئة العباسيّة العلميّة، وكشف عن قدرته في توظيف الدلالات العلميّة المستمدة من روح العصر وعلومه.
أما قوله:
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعًا        مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم
فإنه يحيل المتلقي على معرفة لغويّة ونحويّة، وظّفها الشاعر في إعطاء لوحة رائعة للرجل القائد الذي يكون قوله نافذًا لحظة النطق به، ويصير حدثًا ماضيًا، لأنّ "لم" الجازمة إذا سبقت الفعل المضارع قلبت الزمن من الحاضر إلى الماضي، ونوايا سيف الدولة ورغباته صارت فعلاً ماضيًا، من دون حاجة إلى أدوات قطع وجزم، لأنّ الحلم يصير حقيقة وقدرًا، إذا ما مرّ في فكر الأمير.  
أما قصيدة "عيد بأية حال عدت ياعيد"، فهي تحيل على واقع  نفسي واجتماعيّ  وسياسيّ وقيميّ، إذ يقول :
عيدٌ بأية حال عدت ياعيدُ             بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم            فليت دونك بيدًا دونها بيد
أكلما اغتال عبد السوء سيده       أو خانه فله في مصر تمهيد
العبد ليس لحر صالح بأخ             ولو أنه في ثياب الحر مولود
تتضمن هذه القصيدة توصيفًا دقيقًا للواقع الذي يعيشه الشاعر،  وكذلك ألمه النفسيّ في واقع لا يرتبط به عاطفيّا، لأنّ الأحبة الحقيقين بعيدون عنه جغرافيّا، وعلّل ذلك بعرض حقيقة وصول كافور إلى الحكم، وانتقل إلى حكمة تؤكّد رأيه في من يغدر بسيده ليتوصّل إلى الملك والسيطرة، ولذلك  لايمكن الوثوق بمن كان عبدًا، لأنّ النفس التي تشبع بعد جوع يبقى الشح فاعلاً فيها. وبناء على الرفضيات والمعطيات التي يعرفها الشاعر يدعو  إلى الابتعاد عن الغدار ، لأنّه يعجز عن أن يكون أخًا لإنسان حر، فبرّر الشاعر ارتحاله عن مصر بأسلوب برغماتيّ أدواته لغة ترسم الواقع الاجتماعيّ بكلّ تفاصيله التاريخيّة والاجتماعيّة والنفسيّة .
هـ- تجليات مبدأ التعاون
تكلم النقاد العرب على مبدأ التعاون في الشعر العربي، ورأى حازم القرطاجني أنّ نجاح تلقي الخطاب الشعري مشروط بأن يكون السامع على استعداد نفسيّ؛ لذلك إذا أحدثت الملفوظات تخييلاً في نفس المتلقي المتمايز بمستوى ثقافيّ وفكريّ موازٍ لمستوى المرسل لحظة حصول الإرسال والتلقي، وإذا تمايز المستوى كان الأثر  مغايرًا ،لأنّ للغة الشعر ، في رأي الفارابي، أثرًا  في فكر المتلقي، وهذا الأثر مرهونة قيمته ودلالاته بقدرات المتلقي  وطاقاته، فعبّر عن ذلك بقوله: "ويعرض لنا عند استماعنا الأقاويل الشعرية عند التخييل الذي يقع عنها في أنفسنا شبيه بما يعرض عند نظرنا إلى الشيء الذي يشبه ما نعاف: فإننا من ساعتنا يخيل لنا في ذلك الشيء أنه مما يُعاف منه فنتجنبه وإن تيقنا أنّه ليس في الحقيقة كما خيل لنا، فنفعل في ما تخيله لنا الأقاويل الشعريّة. وإن علمنا أن الأمر ليس كذلك، كفعلنا لو تيقنا أنّ الأمر كما تخيلّه لما كان ذلك القول. فإن الإنسان كثيرا ما تتبع أفكارُه تخيلاتِه"[12].
انطلاقًا من المعطى الذي يمكن استنباطه من كلام  القرطاجنيّ، يمكن القول إنّ  شعر المتنبي جاء تعبيرًا صادقًا عن مقاصده في سياق تخاطبي معين موجه إلى متلقٍ قادر على فهم القصد إيحاءً أو كشفًا، ومتسمًا بقاعدة بلاغية برغماتيّة، تقضي بأن يكون الكلام وفق مقتضى الحال، فألمح في شعره إلى خاصية التعاون بين المرسل والمتلقي في أكثر من موضع:
إنّما تنجح المقالة في المر        ء إذا صادفت هوى في الفؤاد[13]
كلُّ شعرٍ نظيرُ قائلِه فيك        وعقلُ المُجيزِ عقلُ المُجازِ[14]    
يحرّض شعر المتنبي على طرح الأسئلة، وعلى البحث عن أجوبة بثّها  صاحبها في كلية نصيّة تمنح الأجزاء وحدة منطقيّة  وحضورًا مستقلاً  من دون أن  تفقده انتماءه إلى الكلّ، لأنّ  نصوصه تتمتع ببنية فنيّة مشحونة بجماليات لغويّة وأدبيّة وفنيّة،  تغري بالتأويل المؤسس على بعدين؛ بعد لغويّ ألسنيّ ، وبعد معرفيّ سياقيّ، وبهذين البعدين تتكشّف مجالات الاستعمالات اللغويّة وطبيعة سياق الخطاب الشعريّ  وقيمة الأفعال الكلاميّة،  وخصوصية قوّتها الإنجازية، وذلك من خلال قراءة الملفوظات، في حالتي الاستقلال والإندماج ، فتعرب الأجساد النصيّة عن المعاني الحرفيّة عندما تكون كلاً متكاملاً في لحظات  التلقي الأولي، وعن المعاني الضمنيّة عندما تقبل النصوص إقامة علاقة مكاشفة وتحليل وانفتاح مع متلقٍ   يتقن معالجة شروط التبليغ والتواصل.
إذا  كانت الفرضية الأساس للدارسات الألسنية البرغماتية تقوم على ضرورة خلق جدلية بين ما يطمح الخطيب إلى تحقيقه وبين المعطيات الملموسة، فإن معظم نصوص أبي الطيب تضمر، بالقراءة المعمقة، وجود علاقة جدلية سنحاول الكشف عنها من خلال دراسة قصيدة " أطاعن خيلاً"  المشحونة بأفكار أولية مقبولة، وبمعطيات تحرّض على التحليل والاستنباط  وصولاً إلى حجج منطقيّة،  قوامها ثوابت وبدهيات فكريّة موروثة ومكتسبة، خلقت بنية فنيّة برغماتيّة، تمنح عملية النقد خصائص العلم الرياضيّ البرهانيّ.
ثالثًا: المكون البرغماتي في قصيدة " أطاعن خيلاً"
لما كانت الدراسة  البرغماتيّة متأثرة بالدراسات الألسنيّة و الفلسفيّة والمنطقيّة ، وتتبنى مقولة أنّ كل لفظ في السياق يحيل على معنى آخر في كل قراءة نقدية جديدة، فإن هذه الدراسة ستتبنى، قدر الإمكان، المسلمات الفلسفيّة والمنطقيّة في الوصول إلى المعاني الضمنيّة التي تمركزت حولها مقاصد المتنبي في هذه القصيدة.
تكشف الدراسة البرغماتية  لقصيدة " أطاعن خيلاً"عن وجود علاقة ثابتة بين فكرة رئيسة أراد المتنبي  تبليغها، وبين الأفكار الجزئية التي ترتبط بالفكرة الرئيسة  المتضمنة قصديته الأساس، علمًا أنّ هذه الأفكار المتعاضدة في بنية لغويّة  فنية أضمرت  ثوابت ومتغيرات ومعطيات، غايتها إثبات الفرضية والبرهان على صحتها وسلامة نتائجها.
إنّ دراسة البنية  اللغويّة /الفنيّة  لهذه القصيدة تكشف عن نشاط فكريّ جسّدته اللغة لحظة خروج جسد المولود النصيّ إلى الفضاء الخارجي، هذا الفضاء المؤثر  حكمًا، في طبيعة المخلوق، شكلاً ومضمونًا، فالمتنبي المتعاظم بذاته تطوّعه ظروفٌ اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة تفرض عليه اتخاذ المدح حرفة اعتياش، وهنا يبدأ الصراع الضمني بين ذات ترى نفسها فوق الجميع[15]  وأخرى ترى الواقع وتدرك ظروف الحياة  القاسيّة، فكان عقدٌ بينهما يقضي بأن يقبل المتنبي تعظيم الممدوح من دون أن يتخلى عن تعظيم نفسه وتمجيد خصاله، فجاءت هذه القصيدة لتضمر فكرة رئيسة هي الشعور بالتفرد والتمايز وأنّه فوق كلّ ممدوح.
يشير البرقوقي شارح ديوان أبي الطيب إلى أنّ هذه القصيدة  قيلت في مدح علي ابن أحمد بن عامر الإنطاكي، والقصيدة مؤلفة من واحد وأربعين بيتًا غلب عليها الفخر والحكمة والوجدانيات والمديح ، وكان نصيب الممدوح عشرة أبيات شاركه المتنبي في بعضها ، لأنّ القصيدة أشبه بملحمة تقوم على شخصيات وأحداث ووقائع، بطلها فرد لا يشبه سوى نفسه ، فإذا عظمت حال الممدوح، قارب بعضًا من صفات الشاعر التي أهلته ليستحقّ المدح.
تقتضي قراءة القصيدة والكشف عن بنيتها ومعانيها ودلالاتها ومقاصدها، أن نتبع خطوات محددة تساعد في معرفة حركيتها الفيزيائيّة، وفي اندماجها الكيميائيّ:
1-                         الأنساق الفيزيائية وقيمتها الدلالية
 يتحرك النص لغويّا في بنية ظاهرة تكشف عن الفضاء النفسيّ والفكريّ الذي رعى وحضن ولادة هذه القصيدة، والتي  يبدأها المتنبي بفعل يمهّد للكلام على قدر اختاره ليكون وحيدًا في مواجهة حدثان الدهر ومصائبه، غير أنّه لا يأبه لذلك كونه متسلحًا بصبر الإيمان الذي قوّى عزيمته وأثبت شجاعته في مواقع كثيرة جعلت  الآفات تنطق متعجبة ومتسائلة إن كان الموت قد مات، أو الخوف قد خاف منه، فنأى عنه، والسبب تكشفه قدرته على اقتحام الأهوال بشجاعة تشي بأنّ للرجل روحًا ثانية، أوأنّ  له مع روحه ثأرًا. غير أنّ السر الحقيقيّ كامن في إيمان المتنبي بالقضاء والقدر، فلا فراق بين الجسد والروح إلا في الساعة المقدرة، لذلك على المرء أن يسجل في زمن اتحاد الجسد والروح أعمالاً عظيمة ممهورة  بالقوة والإقدام، لأن المجد لا يكون إلا لمن كان مبتكرًا وسبّاقًا في استخدام السيف والطعن والفكر،  عند ذلك فقط يترك المرء بعد موته دوي أفعاله العظيمة التي لا يُسمع سواها، ولأنّ المتنبي يتمايز بهذه الخلال فهو يرفض أن يقبل  عطية ناقص، كي لا يكون له فضل المشكور على الشاكر ، ولأنّه يؤمن بأن من ينفق عمره في جمع المال مخافة الفقر فإن ما يفعله هو الفقر بعينه، فهو  يترفّع عن مثل هذه الهبات، ويرهن حياته للدفاع عن المظلومين، حيث يُسقي الظالمين كؤوس الموت في معارك لا تُشتهى فيها كؤوس الخمر، والدليل على ذلك أنّ عناصر الطبيعة المُجسِّدة الثبات والقوة والاتساع واللانهاية تشهد  أنّه القوة والعطاء والأسرار والعظمة واللانهاية، وكذلك تشهد له سعة المفازة التي يتوسّطها على ظهر إبل سريعة  من دون توقف  في فترة زمنية ربيعيّة  ذكّرته أمطارها بجود جد الممدوح، ونقلته إلى تصوير كرم الممدوح  ومهابته وشجاعته، وهو المنتسب إلى جدين كريمين، أصّلا فيه الجود والكرم، فكانت هذه الصفات سببًا في السير إليه، ليقطع الشك باليقين  بعد أن استعظم الأخبار المنقولة عنه، فوجده أعم نفعًا وأشهر ذكرًا، فلا عجب، إذًا، أن يقصده المتنبي؛ لأنّه صاحب علم وحلم وحجى وهو يستحق مدح أبي الطيّب، على الرغم من رفضه ومقته للسلاطين، الذين يتمنى موتهم، ويكره عطاياهم، لذلك  يفضل الموت على أن ينال عطية حقير صغير.
أسّست عملية السرد والتوصيف لتقوية حجة الشاعر، لأنّ مدحه للأنطاكيّ  مختلف، كون هذا الممدوح شخصية تجسّد قيم الشاعر، ويلتقي معها في الأخلاق والقيم، فرأى  فيه نفسه، ومنحه مدحًا غير منظوم، فجاء الشعر إبداعًا  نطق به وأنطقه نتيجة شعوره  الصادق لحظة لقاء الممدوح الذي يستحق المنازل العالية، والذي لم ينل ما يستحقه من المراتب، لذلك كان للقاء أثر كبير في نفس المتنبي إذ أنساه حدثان الدهر، وأزال عتبه، فغفر جود الممدوح  وجوده ذنوب أبناء ذاك الزمان.
تكشف حركية الدلالات الحرفية للمعاني الظاهرة عن وجود بنية فنيّة كليّة متنامية مترابطة متماسكة ، تقوم على أساس برغماتي يبدأ بمقدمة تختزل الفرضية الأساس التي يؤمن بها المتنبي لينتقل منها إلى البرهنة على صدق الفرضية ، ومن اللافت أنّ التركيز كان على القوة الجسديّة التي ساعدته ليصل إلى غايته/ الممدوح ، من دون أن يشير إلى تمايزه الفكريّ الذي نطق بالشعر ونطق الشعر به، لأنّ تمايزه الفكريّ، في رأيي، حجبه في ظلال تراكيب، أتقن بها أسلوب الربط المنطقي بين أجزاء القصيدة، فبرزت قدرته على المحاكمة العقليّة، وعلى إبراز الحجة والبرهان، وذلك من خلال تقديم معطيات تفسّر سبب  قدومه إلي الممدوح، وتمهّد للإعلان  عن النتيجة بلغة تواصلية تضمر أفعالاً كلامية وغايات ومقاصد.
بدأت القصيدة بإبراز صورة المتنبي عاتبًا ومعاتبًا حدثان الدهر أولاً، ونفسه ،ثانيًا، لأنّها انقادت إلى العتاب والشكوى، فكان العتاب منطلقًا لحركات تعكس بطولة الشاعر وشجاعته وفصاحته وحكمته وعزة نفسه ومحاكمته العقلية التي قادته إلى علي ابن أحمد الأنطاكيّ المنتسب إلى جدين كريمين، ليدعم  السماع بالرؤية المباشرة ، وتستقر نفسه، ويخف عتابه وعتبه على الأيام، لأنّه وجد في الممدوح ما يغفر ذنوب أبناء الحياة، فكما كان واحدًا يواجه فرسان الدهر، هكذا هو الممدوح الفرد الذي  ألغى ذنوب أبناء الأيام .
تؤسس حركية النص الفيزيائيّة لمركزية،  قوامها شعور المتنبي بالعظمة والتفرد، وهذه المركزيّة تشكّل نقطة التقاطع بين محوري البنية النصيّة، ويمثّل المحور العمودي منهما ذات المتنبي، ويمثل المحور الأفقي ذات الممدوح، فنتج من هذا التقاطع أربعة مستويات يمكن عنونتها بـ:
- مستوى الفخر
-مستوى الحكمة
-مستوى الوصف
- مستوى المدح   
تتسلل أنا المتنبي إلى المستويات جميعها ما جعلنا نفترض أنّ أناه المفردة والجماعيّة / الظاهرة والمضمرة شغلت ثلثي بنية القصيدة في بنيتها الهندسيّة، وربما يوضح هذا الشكل الهندسيّ ما ذهبنا إليه:
                                 المتنبي
Flowchart: Or: الفخر               الحكمة

           أنا المنتبي
أنا المتنبي   أنا المتنبي

المدح            الوصف
 




علي بن أحمد الأنطاكي




2- كيمائية الإندماج النصي وتجلياته المنطقيّة
     تقوم القصيدة على عناصر لغويّة وغير لغويّة تنصهر في كليّة مقصديّة، غايتها الأساس إنتاج الخطاب الشعريّ، وتضمينه أفكار منتج النص  ومعتقداته وآراءه في لحظة فذوذية  خارجة على الزمان والمكان، حيث يمتزج  وعي يدرك مظاهر الأشياء، ولا وعي يدرك الغيبي المستتر وراء الظواهر والمرئيات، ليتمخض عن هذا اللقاء  ولادة جسد نصيّ، نسيجه لغة تأثرت  جينات صياغتها بالمختبر الفكري لخالقها، الذي بث  بعضًا من روحه في كليّة النص.
لم تكن قصيدة " أطاعن"خيلاً "صناعة لغوية من موادّ تفتقر إلى  الروح، بل كانت انبثاقًا عن ذات تتلقّى وتُبدع في أسلوب مضلل يوحي للمتلقي أنّ كل بيت مستقل عن الآخر ، ولكنّ القراءة المعمّقة تظهر أنّ الأجزاء مشدودة إلى كل يتحكم في حركية العناصر ودلالاتها، بأسلوب علميّ منطقيّ قائم على وضع الفرضيات وتوظيف المعطيات والوصول إلى نتائج مقنعة ترضى المتنبي والمخاطب.
 وظّف  الشاعر، من أجل الوصول إلى أهدافه، معارف لغويّة ومعتقدات دينية ومظاهر اجتماعيّة وطبيعيّة وجغرافيّة وأفعالاً كلامية تفي بتجسيد حركية العناصر اللغويّة وتفاعلاتها في متحدِ لغويّ يضمر فرضيات، وينطق بمعطيات، ويوحي بقضايا إنسانيّة واجتماعية تشغل فكر المرسل.
أ- الفرضيات
انبنت قصيدة المدح هذه على فرضية رئيسة هي شعور المتنبي بالتفرد والعظمة، ليقنع نفسه أولاً بإنشاء الخطاب، فيعوّض بشجاعته عن نقص ذات اليد، ويرضي ذاته بالكلام على أصل الممدوح تعويضًا عن عدم التصريح بنسب فرض عليه غربة نفسية واجتماعيّة، تمظهرت في عتبة نصيّة شرّعت أبواب التأويل ، فالمتنبي بدأ الكلام بفعل مضارع دالٍ على المشاركة، وأضمر الخطاب لوحات فنية، يوحي تغييبها عن مسرح الرؤية المباشرة  بفرضيات تمهّد للوصول إلى آخر، يبادل أبا الطيب فعل الطعان ، غير أنّ الصورة تكشف عن وجود خيل يمتطيها مبارز واحد هو الدهر، لتكتمل الصورة الحوارية بين "أنا" أبي الطيب المتألمة من حدثان الدهر، و"أناه" المتعالية على الشكوى، والمستعصمة بنعمة الصبر" وما قولي كذا ومعي الصبر".
جسّد مطلع القصيدة، في رأيي، مقدمة أوليّة تقود إلى استنباط  فرضيات قابلة للبرهان أو النقض، وذلك  بالاستناد إلى معطيات متنوعة احتجبت وراء ظلال تراكيب البنية النصيّة المشحونة بالصور والشفرات والرموز والدلالات التي خضعت في تشكّلها إلى قوانين صرفيّة ونحويّة وبلاغيّة منحت الجسد النصيّ وجودًا بالقوة وبالفعل.
لقد انبثق عن الفرضية الأساس مجموعة من الفرضيات التي تختزل علاقة المتنبي بنفسه، ومن هذه الفرضيات اعتزازه ببطولته وشجاعته وحكمته وأصالته وكرم نفسه وفكره المنطقيّ.  ولقد برهن عن كل فرضية بمعطيات لغويّة، تتمايز أفعالها الكلامية بدقة التعبير عن مقتضى الحال، وتؤسس لمجموعة من الحجج والبراهين، التي وظّفها الشاعر للوصول إلى الأهداف والغايات والمقاصد، الذاتيّة والإجتماعيّة والإنسانيّة.
ب-المعطيات
بنى المتنبي فرضياته على معطيات ملموسة، لها أساس معرفيّ ودينيّ واجتماعيّ وبيئيّ وجغرافيّ، واستطاع توظيفها  في محاولة لإقناع المخاطب بالقضايا التي أراد إثارتها من دون تصريح. وهذه القضايا هي:
القضية الأولى:علاقة الشجاع  بالقضاء والقدر
 يكشف الموروث الدينيّ عن عقيدة تقول إنّ الشجاع المؤمن لا يخاف   الموت، لأنّه يؤمن بقوله تعالى:" وإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون"، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ المتنبي يؤمن، أيضًا، بأنّه جاء ليقول كلمته، و لم يتمّ رسالته بعد؛ لأنّ لكلّ إنسان رسالة يقوم بها، و رسالة الشاعر لم تكتمل، وفق رأيه، فكان إيمانه بالقدر مشجعًا على خوض المعرك بجرأة جعلت آفات الطعان تتساءل عن سر الشجاعة التي ربطها المتنبي بقضية الإيمان بالقضاء والقدر، فتجلّى الإيمان في تراكيب متنوعة  تكشف عن العلاقة بين القضية الأولى وأسبابها، والتي يمكن اختصارها على النحو التالي:
  المؤمن بالقضاء والقدر     لا يغدر= أطاعن                                           
                             يرفض الشكوى = وما قولي كذا
                            صبور=  معي الصبر( وبشر الصابرين)
                            شجاع=  وأشجع مني = دلالة مباشرة
                            مقدام وطموح= وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
                            مغامر=-تمرست بالآفات+ وأقدمت إقدام الآتي                   
       النتيجة = ذر النفس تأخذ وسعها
إذًا، قضية الإيمان بالقضاء والقدر هي قضية مُحقة في وجدان الشاعر، الذي حاول إقناع المخاطب بتمايزه أولاً ، وبالاقتداء به ، ثانيًا،  كونهما متشابهين في الكلام وبعد النظر والشجاعة (لساني وعيني والفؤاد وهمتي ...)؛ لأنّ التجاور بين الجسد والروح له زمن مكتوب، ولذلك أخذ على عاتقه مساندة الضعفاء والمظلومين( عليّ لأهل الجور ...) فشهدت له الجبال والبحار والصحراء على شجاعته( وكم من جبال جبت....).
القضية الثانية: حتمية العلاقة بين وجود الشجاعة وبلوغ المجد
  إذا كانت غاية المتنبيي والممدوح بلوغ قمم المجد، فإنّ الطريق الأساس إليه هو التسلح بالشجاعة و الإيمان بأنّ :                         
بلوغ المجد مشروط بـ             التخلي عن اللذات( الخمر والقيان)
                                      ابتكار أساليب في القتال والطعن
                                      ( والفتكة البكر)
                                         مقاتلة الملوك بشراسة وقوة
                                        يضمر تركيب " وتضريبُ أعناقِ
                                       الملوك دعوة إلى حماية الضعفاء
                                        وعدم منازلتهم، وهنا إشارة إلى
                                          سمو أخلاقه وعمق إيمانه.
                                          ترك دوي الأفعال العظيمة
                                          ( وتركك في الدنيا....)
                                        الترفع عن قبول هبة الناقص
                                        ( إذا الفضل لم يرفعك...)
                                    نبذ البخل و عدم جمع المال مخافة الفقر...    ( ومن ينفق الساعات ...)
هذه الشروط، قوامها أفعال تخبر عن عظمة المتنبي القادر على بلوغ المجد من دون أن يخسر كرامته، أو يتقرّب من الملوك والأمراء، لذلك كان تضريب أعناق الملوك  واجبًا عليه، وترك هدية الناقص فضل، لأنّه يمقت السلاطين ويتمنّى قتلهم وتقديم لحومهم للنسور المنتظرة .
القضية الثالثة: صفات ذوي الأصل والفكر المستحقين خطابه الشعريّ
لما كان واقع المتنبي الاقتصاديّ يفرض عليه امتهان الشعر ووضع حصاد فكره بين أيدي الملوك والأمراء، فلقد كان لكلام المتنبي ظاهر وباطن، إذا ما استُثني شعره لسيف الدولة، غير أنّه في هذه القصيدة صرّح من دون تلميح  بالمعايير والصفات التي تستحق المديح، وهي:
 صفات من يستحق المدح     الانتساب إلى أصل كريم معروف بجوده
                                      ( أنّ عامرًا علا لم يمت..)
                                   علو المنزلة وفيض العطاء
                                      ( وإنّ سحاب جوده ...)
                                    سعة الصدر والعلم والفهم
                                     ( فتى لا يضم...)
                                        غنى مادي ومعنوي يُجسد بالجود
                                      ( ولا ينفع الامكان لولا...)
                                      نقاء الأصل من  الأم والأب
                                      ( قران  تلاقى...)
                                    تمايز وتفرد ولو كثر المريدون
                                        ( فجاآ به...)
                                  محبة المحيطين به والتضحية من أجله
                                           ( مفدى...)
                                     ذكر طيّب يغري بلقائه
                                        ( وأستكبر...)
                                        النقاء والجود
                                        ( كأنك برد الماء...)
                                        صاحب علم وحلم وجحى
                                       ( دعاني  ....)
ولأنّ الممدوح يتمتع بهذه الخصال فلقد استحق شعر المتنبي الذي يحجبه عن السلاطين وصغار النفوس، فرأى فيه صفات تماثل صفاته، وهذا ما جعل الشعر يُنطق المتنبي ويتهلل للقائه ، من ثمّ حملت  المتنبي إلى الغفران، لأنّ عظمة علي بن أحمد الأنطاكيّ أزالت عتب المتنبي، لكأن الأيام" أتت به عذرأ عن ذنوب بنيها:" كما قال البرقوقيّ .
حققت الفرضيات والمعطيات المنبثة ضمن قضايا رئيسة في القصيدة تواصلاً فكريّا وأخلاقيّا وإنسانيًّا بين المتنبي والمتلقين، وانكشف تفكير الشاعر الاستدلالي البرهاني المنطقيّ ، وقدرته على توظيف المؤثرات الثقافيّة والعلميّة والحضاريّة والفكريّة في التعليل والوصول إلى نتائج تقنع المتلقّي فحقّق من خلال القضايا التي طرحها مقاصده المباشرة وغير المباشرة.
ج-  النواتج القصدية المعرفيّة الدلاليّة والفنيّة
تحرّض المقدمة والفرضيات والمعطيات والبراهين على الكشف عن جدلية بين ما يطمح المتنبي إلى تحقيقه وبين واقع يرفض الاستسلام إليه. فكرّس معتقداته وآراءه ثوابت إنسانيّة انبثقت من عملية التفاعل بين ذات مبدعة تخرج على المألوف والآني، وبين ما تتلقّاه من مؤثرات خارجيّة تخضع في إعادة إنتاجها لمخزون ثقافيّ ومعرفيّ، أنتج بنية لغويّة مشحونة بكفاءات لغويّة وغير لغويّة، وبمؤهلات إيديولوجيّة و ثقافيّة، وبمؤثرات اجتماعيّة ونفسيّة وقصديّة، فأنبأت هذه العوامل مجتمعة عن وجود حركية تبادل لمواقع وقضايا ورؤى يمكن الاستدلال عليها  بقراءة تأويلية لظاهر التراكيب وبواطنها.
يحيل التأمل المعرفي لقصدية المتنبي على وعي الشاعر لذاته وبيئته ومجتمعه،  وعلى طاقاته اللغويّة والفنيّة والجمالية ، وعلى براعته في إنتاج الخطاب وإثرائه بالترميز والتشفير والتصوير والتقليب والتداول، فاستخدم في طرح آرائه، وفي الكلام على شجاعته وتمايز الممدوح، أسلوبًا علميّا منطقيًّا، غايته إقناع  نفسه بالمدح، أولاً، وإقامة مصالحة  مع ذاته المتعالية، ثانيًا،  فلجأ إلى وضع الفرضية، وسعى إلى البرهنة على صحتها  من خلال معطيات بثّها في حركية السياق وفي أشكال اندماجه واتساقه، قظهر فكره المنطقيّ العلميّ البرهانيّ الحجاجي، هذا الفكر الذي يمكن إبرازه ّ من خلال  الكلام على بعض المعطيات والقضايا، والتي توجزها في الكشف عن:
أ- الفكر المنطقي الحجاجي
-يحاول المتنبي إن يقنع المتلقي بشجاعته وشهامته فيقدم أدلة وبراهين ، ويحاول في الوقت عينه أن يبرر لنفسه قبول مدح الإنطاكيّ، فهو  من أصل كريم ومتمايز بأخلاق كريمة.
- ليست غايته السلطة أو المال فهو يربط بلوغ المجد بقتل الملوك، وقربه من الممدوح جنبهّ لقاء السلاطين الذين يمقتهم ويتمنى أن تلقى لحومهم للنسور المنتظرة.
- لا يقبل المتنبي عطية ناقص ولذلك لم يكتفِ بما سمعه عن كرم الممدوح بل أسرع ليتأكد من ذلك بالرؤية والفعل " فلما التقينا أصغر الخبرَ الخبرُ). وهنا تبرز ثقافة دينية إسلامية ومسيحية، فتوما لم يكن يقتنع حتى يرى، وعلي بن أبي طالب( عليه السلام) يقول " الفرق بين الحق والباطل أربعة أصابع، فالباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت"
ب- القدرة على تفعيل مخيلة المتلقي
تؤكد الدراسات القديمة والحديثة أنّ للشعر تأثيرًا بارزًا في عاطفة وأفكار المتلقين، وهذا التأثير تصوغ عوامله ملفوظات ثابتة تقريريّة، وملفوظات إنجازيّة[16] تغري بدراسة الأفكار والمعاني والإشارات من خلال سياقاتها بغية الفهم والتأويل، هذه السياقات التي تمنح النص حياة تحرّض على السعي إلى تحقيق التواصل  الفعّال بين الشاعر والقارئ، وربما كان المتنبي أكثر الشعراء قدرة على إنتاج النص الشعري المتمايز تركيبًا ودلالة وتأويلاً  وتأثيرًا في نفس المتلقي.
 استطاع المتنبي أن يرسم  صورة للبطل الملحميّ الذي أنطق جغرافية المكان لتشهد له ( وكم من جبال جبت تشهد أنني الجبال وبحر شاهد أنني البحر) بعد أن  انتصر للمظلومين فاستطاع  بطاقاته اللغوية أن يقدح كمون التخييل عند المتلقي، فينتقل معه  إلى ساحات القتال ويتواصل معه، ويراه يسقي الظالمين كؤوس الموت بعد أن ملأ قلوبهم ذعرًا قتل شهوة الخمر ولذتها فنقل المتلقي إلى حيث هو في الزمان والمكان؛ الزمن الذي كانت فيه  أدوات القتال ( الخيل + الرماح) ووسائل النقل ( الإبل) والطبقات الاجتماعيّة( ملوك وعامة_ أسياد ذوو أصالة ظالمون ومظلومون)، أما المكان فلقد تعددت أنساقه بين حضارة وبداوة.
ج-تداول وتقليب المعاني المفهوميّة االضمنيّة
 ترسم حركية النص الفيزيائية مسارًا دائريًّا  تتعالق معاني أجزائه وتترابط لتشكّل المعنى الكليّ العام،  الذي يضمر مقاصد الشاعر وغاياته ونظرته إلى ذاته وإلى المجتمع والسلطات، غير أنّ هذه الحركة الفيزيائية المتكاملة في نقطة انطلاقٍ، سمتُها السخط والشكوى ، تنتهي في نقطة، سمتها الرضى والمسامحة، تركت في سياق مساراتها  أفعالاً كلاميّة  ودلالات نفعيّة، تحرّكت على مسارين   متناظرين وغير متساوين، سيطر على المسار الأول وجود الشاعر المُكثَّف، أما المسار الثاني فلقد تقاسمه الشاعر مع الممدوح وشخصيات، إشار إليها بالضمير من دون إفصاح، إذا استثنينا جدّي الممدوح.
ضمّن هذه الحركة يتشكل عدد من الأجزاء المتقابلة التي تضمر عددًا من النقاط المتقابلة مفهوميّا ودلاليًّا، نذكر منها:
1- أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر       وحيدًا وما قولي كذا ومعي الصبر
      أزالت بك الأيام عتبي كأنما                 بنوها لها ذنبٌ وأنت لها عُذر
يشكل هذان البيتان فضاء المسار النفسيّ الدائريّ، حيث بدأ الكمون العاصف السكوني  يفجّر أحاسيس المتنبي عتبًا، وإفصاحًا، وتفردًا،وغربة، و صراعًا بين ذاتي الشاعر، فكان القرار في طبيعة خط المسار لذات واعيّة مؤمنة، تدرك عظمة صاحبها، هذه الذات التي سكن غضبها بعد أن أفصحت عن طاقاتها الفكرية والانسانيّة والثقافية والأدبيّة والقيميّة، وعبّرت عن مشاعرها،  وفسّرت موقفها من المجتمع والسياسة، ليكون للمدوح الفضل في هدوء العاصفة، لأنّ الفضل في رأيه معنويّ، وليس ماديّا.
  2-وتضريب أعناق الملوك                لك الهبوات السود والعسكر المجر
  وجنبني قرب السلاطين مقتها               وما يقتضي من جماجمها النسرُ
تظهر  لغة هذين البيتين ثوابت المتنبي قي حالتي الفخر والمدح ، غير أنّ الدلالات أشارت في حالة الفخر إلى القتل والانتقام، أما في البيت المقابل فلقد حملت الدلالات طابعًا نفسيًّا، يصرخ بالمقت والكراهية،  وجانبًا انتقاميًّا، ولم يعد قتل هؤلاء من شروط بلوغ المجد، وإنما نتيجة حلم الممدوح وعلمه، فاكتفى بالتلميح من دون تصريح.
3-إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقص     على هبة فالفضل في من له الشكرُ
3-وإني رأيت الضر أحسن منظرًا               وأهون من مرأى صغير به كبرُ
.لم يتبدل موقف المتنبي من صغار النفوس سواء أكان في حالة تعظيم لنفسه أم للممدوح.
4- ومن ينفق الساعات في جمع ماله         مخافة فقر فالذي فعل الفقرُ
4-ولا ينفع الامكان لولا سخاؤه                 وهل نافعٌ لولا الأكُفُّ القنا السمرُ تؤكد  دلالات هذين البيتين موقف المتنبي من البخل والكرم، فهو إذ يقمع الذات المضللّة في مستوى الفخر، يعوّض بتعظيم كرم الممدوح.
إذا حاولنا استنطاق هذه الأجزاء المنتقاة من الكلّ العام، فإننا نلمس قدرتها على الاستقلال من دون أن تخسر دورها في تشكيل الحراك الفيزيائي، شأن أي جسد، لأنّ لكلّ عضو من أعضائه دورًا مستقلاً ودورًا مُكمّلاً، ولذلك يمكن القول إنّ  هذه الأجزاء المتقابلة تبدو أنّها المحرض الأساس على إنتاج هذا الخطاب ، ويمكن أن تُختزل دلالاتها بـ:
-           شعور المتنبي بظلم الحياة له
-           الحقد على الملوك والسلاطين
-           احتقاره لأصحاب النفوس الصغيرة
-           احتقاره للبخلاء
يُستنبط من هذه المحرضات السلبية نواتج إيجابيّة تشكل قناعات المتنبي، وهذه القضايا هي:
-           رغبة المتنبي في الحصول على سلام نفسيّ ظهر ما بين المطلع والخاتمة
-            رغبة المتنبي في إزالة الظلم عن المظلومين وهذا ما صرّح عنه بقوله:
عليّ لأهل الجور كل طمرة                  عليها غلام ملء حيزومه غمر
-رغبته في لقاء الممدوح لأنه ينتسب إلى أصل كريم وهذا ما ذكره صراحة في قوله:
وغيثٍ ظننا تحته أنّ عامرً ا            علا لم يمت أو في السحاب له قبر
قرانٌ تلاقى الصلت فيه وعامرٌ            كما يتلاقى الهندوانيّ والنصر
يشير تركيزه على أصل علي بن أحمد إلى عشق المتنبي إلى أصل لا يفصح عنه، فكان هو الفرد في مواجهة  حدثان الدهر وتسلط الملوك والسلاطين ونصرة المظلومين، وهو الشاعر المسكون في الشعر المؤمن بالقضاء والقدر، و العالم بفنون الحرب ، والملتزم مبادئ  الكرامة والإباء، وهو ،أيضّا، الفاضل المترفع  العقلانيّ المنطقيّ، أما الممدوح فله الفضاء الاجتماعيّ والعائلي وهو الكريم من سحاب ليس  هوصانعه، وهذا يقود إلى مركزية القصدية في شعر المتنبي.
إنّ الفكرة القصدية المركزية التي بنيت عليها القصيدة هي إبراز الأنا" بوصفها البطل الملحميّ المتمايز في واقع فيه أناس متمايزون، لأن شرط التمايز لا يكون على أناس عاديين بل على أبطال متمايزين ، ولذلك برزت أنا الشاعر المتعاظمة في واقع اجتماعي  فيه علي بن أحمد المنتسب إلى أصول كريمة، وذلك من خلال اللغة الشعرية وبروز الضمير العائد إلى الشاعر في موازاة بروز الممدوح صراحة وإضمارًا، ولقد برزت الأنا على النحو التالي:
- "الأنا" التي أفصح عنها من دون تمويه (أطاعنُ- قولي- معي- مني- سلامتي- تمرست-تركتها- أقدمت-لي-مهجتي-لي- علي-جبت-أنني- أنني-يدي- وما زلت- قادني-يسايرني- وأستكبر-دعاني-قلتُ-وجنبني-وإني- رأيت- لساني- وعيني- وهمتي-أودُّ- أنا- وحدي- -قلت_ لشعري_وإني- عتبي).35 مرة
- " الأنا" المضمرة في الحوار الضمني التي خاطبها حكمة:) ذرِ النفس-ولا تحسبنّ المجد_لك الهبوات- وتركك- يرفعك) 5 مرات.
- "الأنا " المغرية التي يطوّعها الشاعر حكمة بأسلوب الشرط " ومن ينفق... فعل) 2.
 والدليل على ذلك ما قدّمه المتنبي لهذه "الأنا" من تفسيرات وأسباب تدفع به إلى ترويضها وترك السعي وراء المال متخذًا من كلام الأمام علي" كرم الله وجهه" حجة منطقيّة: " والناس في خوفهم من الموت في موت".
 أي جمع المال(-) الخوف من الفقر(-)=  حصول ما يخاف منه(+) وللموجب هنا دلالة ملتبسة، فهي لا تحمل قيمة الحدث الايجابيّ، بل قيمته السالبة،  لأن  حدث الفقر غير مستحب.
-الأنا" الجمعية للتعظيم(مكاننا- بنا- كأننا_ معنا-وصلناه-وصلناه—ظننّا-التقينا-طعنا-فجئناك )10
لقد تكرر ضمير الأنا" تصريحًا وتلميحًا( 52) مرة، أما الممدوح فلقد ذكر اسمه، وحدّد انتماءه، ثمّ  خاطبه بصيغة ضمير المخاطب والغائب في الألفاظ التالية:("ابن ابته الباقي- علي بن أحمد-يجود_جَوده- جُوده-فتىً-قلبه-سخاؤه--به-حول-هو-نحوه- له-لقائه-إليك-جئناك-دونك-أحوالك- كأنك- كنتَ-إليك-خلائقك-منك- فيك- نحوك-تلتَ- أنك – مانلت-بك-أنت)30
وخاطبه بنا الجماعة في( التقينا)
يؤكد استخدام الضمائر أنّ المتنبي يطرح تفسه بطلاً ملحميًّ، خصمه الدهر والملوك والسلاطين ، فكانت قبلته إلى  ممدوح بعينه، سمع عنه الكثير، ولمّا التقيا، وجد فيه ما يخفف من ثورته وغضبه من دون أن يساويه بنفسه، فكانت أنا الشاعر هي المحرّض الأساس في إنتاج هذا النص الشعريّ.
 إنّ الإحاطة بكلّ جوانب الخطاب ودلالاته البرغماتيّة يحتاج إلى عدد من  الدراسات، ولكن يمكن القول إنّ هذه القصيدة حققت خصائص النقد البرغماتي  إذ أوجدت تواصلا روحيًّا ومعرفيًّا  بين المتنبي وبين المتلقين، وأضمرت بعض مقاصده وغاياته وكشفت عن جانب من ثقافته وانتماءاته الفكريّة والدينيّة ، فتبلورت إنسانيته في أكثر من نقطة على مسار الحركات الفيزيائية وفي نواتج التحولات الكيمائية بين عناصر اللغة وفي البنية الحجاجية المنطقيّة، فجسدت  قصيدة" أطاعن خيلاً"  نمطًا برهانيًّا / برغماتيًّا، قوامه الترابط الموضوعي المنطقيّ بين الفكر المبدع والمُنتَج اللغويّ، فتجلت فاعلية أنماط الإبدال التداوليّ في عملية التواصل وإنتاج الدلالة، حوارًا خفيَّا بين ظاهر وباطن، حاضر وغائب، وبين عدد لا حصر له من قيم معرفيّة وإنسانيّة آمن بها المتنبي وأحياها في نبض الحروف و ظلال الرؤيا.
رابعًا: بيان البحث
إنّ النص البرغماتي يحتاج في قراءته إلى  نقد برغماتي لا  يهمل  أصل الوضع اللغويّ وقوانين التشكل والتعالق النصيّة، وهو قادر، في الوقت عينه ،على أن  يتجاوز شكل الملفوظات إلى البحث عن السياقات و عن مقاصد المخاطب  المحتجبة في ظلال تراكيب تتمايز بخصوصية تشكيل، قوامه ألفاظ معجميّة وقوانين صرفيّة ونحوية وبلاغيّة، شكّلت الأدوات العلميّة في يد الناقد البرغماتي.
يشي النقد الحديث  بأنّ الناقد أشبه بجراح يعيد الحياة إلى أجساد نصوص تنبض بالإغراء، والجرّاح الذي يجهل قوانين تشكيل الجسد بيولوجيّا هو طبيب يسيء إلى الجسد وبقتل فيه نبض الحياة، لأنّ معرفته بطبيعة تشكيل النص الجيني والبيولوجي ناقصة، و عملية النقد  تقتضي تماثلاً وتوازيًا بين معارف المبدع خالق النص، والقارئ الناقد.
أظهرت القراءات أنّ شعر المتنبي يتسمّ ببث إشارات، لها بعدٌ دلاليّ وبعدٌ برغماتيّ، وهذا ما يحمل على الاعتقاد أنّ شعره بحاجة إلى  أدوات ناقد قادر على منح النص، مع كلّ قراءة إبداعيّة، دلالات جديدة تتجاوز الثوابت بقدر ما ترتبط بها من حيث العتبات النصيّة وأبواب عبورها وفرضياتها ومعطياتها وأهدافها، وربما كانت أدوات النقد البرغماتيّ قادرة على الكشف عن الشحنات الدلاليّة والترميزيّة ، وعن المقاصد والغايات للنصوص الشعريّة، قديمها وحديثها، فيكون استنطاق النصوص وفق ما تقتضية إجراءات لغويّة منطقيّة ، قوامها خصائص العلم البرهانيّ الحجاجيّ، والتي تقود إلى نتائج سليمة، فيتحرر النقد العربيّ من صنمية التقديس، ومن سلبيات التبعية، وتكون له أدوات تتوافق وطبيعة النص العربيّ، وخصائصه البنيويّة والأسلوبيّة والسيمائيّة.
أ.د. مها خيربك ناصر
أستاذة الدراسات العليا- الجامعة اللبنانيّة
أمينة الشؤون الإداريّة- اتحاد الكتاب اللبنانيين





 [1]- تظهر الدراسات النقديةّ القديمة والحديثة، العربيّة وغير العربيّة، أنّ اللغة هي المنطلق الأساس في تأسسي النظريات النقدية البلاغية منها وغير البلاغيّة. وتشير الدراسات اللسانيّة إلى حتمية العلاقة بين اللغة والأفكار ، بوصف اللغة الترجمان الحقيقي للأفكاروحاملة المعاني والإشارات ، وبها يتم الإفصاح  عن مكنومات النفس البشرية وعن  المقاصد والغايات وفق ما تفرضه شروط إنتاج النص ، ولذلك يرى  أوستين" Austin   أنّ وظيفة اللغة لا تقتصر على نقل وإيصال المعلومات وإرسالها ، أو التعبير عمّا يجول في أذهاننا من أفكار ومشاعر وإظهارها ؛ وإنما يجب أن تضطلع اللغة  بتحويل ما يبدر عنها من أقوال، في إطار ظروف سياقية معينة إلى أفعال ذات سمات اجتماعية  
[2] -  اغتنت المكتبات العربيّة بدرسات نقدية براغماتية منها، التداولية عند العرب، للدكتور مسعود صحراوي " ، والوظائف التداولية في اللغة العربيّة للدكتور أحمد المتوكل،.
[3] - اشتقت لفظة pragmatique     من األأصل اليونانيّ pragma     وتعني العمل ا والتطبيق .
[4] - استخدمت لفظة براغماتية في النصوص العربيّة مترجمة إلى التخاطبيّة- التداولية- النفعية- الذرائعية، غير أنّ هذه المصطلحات لا تفيد الترادف في اللغة العربيّة، ولذلك نفضل استخدام مصطلح البرغماتيّة.
[5] البرغماتيّة هي  دراسة اللغة في أثناء ممارستها إحدى وظائفها الإنجازية أي الحوارية والتواصلية . وهي في رأي الباحثين جزءٌ من السيميائيات  و تتحققها مشروط  عند "غرين " 1989 Green و"بليكومور Blakemore "1990 في فهم اللغة الطبيعية. ولدى "فارسشيرن 1987 " Werschueeren في أن يمعن الفكر أكثر في استعمالات اللغة من كل جوانبها. ويرى 
"رودوف كارناب " أن التداولية هي قاعدة اللسانيات . أما  " فرانسواز ريكانتي " فيرى أنها فرع من دراسة استعمال اللغة في الخطاب ويرى كلّ من "ديلر" و ريكانتي"  أنّ البرغماتية تهتم بدراسة اللغة في الخطاب ، وتنظر في السمات الخاصة به لتأكيد طابعه التخاطبي.

[6] - تدين ادراسة البرغماتيّة ، في رأيي، إلى معظم الفلاسفة والألسنين الذين اشتغلوا على البنيات النصيّة أمثال - Austin أوستن (1962)، Grice جرايس (1975)، Searle سيرل  (1975)، Lakoff ليكوف (1973)، Leech ليتش (1983)، Halliday هاليداي (1985)، و دي بوجراند De Beaugrande، وفان دايك van Dijk و تشير الدراسات إلى أنّ بيرس أول من استخدم مصطلح البرغماتية في اللسانيات في مقالته " كيف نجعل أفكارنا واضحة.
[7] تناولت الدراسات أسماء ألسنيين تأثروا بنشأة التداولية أو أسسوا لها ، نحو:   Saussureسوسور   Austin أوستن (1962)، Grice جرايس (1975)، Searle سيرل  (1975)، Lakoff ليكوف (1973)، Leech ليتش (1983)، Halliday هاليداي (1985)، و دي بوجراند De Beaugrande، وفان دايك van Dijk،سبربرSperber ، ويلسون Wilson.
[8] - تقدم بعض الدراسات العربيّة قراءة معمقة في التراث تظهر من خلالها أنّ  البرغماتية استخدمت في الدراسات الأصوليّة، وترى بعض هذه الدراسات أنّ ابن طباطبا العلويّ والرازي والآمدي اشتغلوا على البرغماتيّة، وهذا ما ينعته بعض القراء  بالاسقاط ،علمًا أنني أميل إلى أنّ مفهوم البرغماتية له أسس في الدراسات النقديّة العربيّة ، فكان المسمى من دون اسمه، والمسمى في  رأيي أسبق وأكثر أصالة من الاسم.
[9] - عبد القاهر  الجرجاني، دلائل الاعجاز،ص55

[10] _ عبد الرحمن البرقوقي، شرح ديوان المتنبي، دار الكتاب اللبنانيّ ، بيروت، لبنان، 1980، ج1-2،ص14.
[11] _ابن طباطبا العلويّ، عيار الشعر، ص121.
[12] - الفارابي، إحصاء العلوم، ص81
[13] _ شرح الديوان، مرجع سابق، ص 131.
[14] -  الديوان، ص 293.
الشعر مطابق لارضه، فإذا كان الشاعر ذا قريحة كان شعره وفق قيمة قريحته، ولذلك شبّه عقل  الممدوح  بعقل من يأخذ جائزته( الشعر محك المادح والممدوح)
[15] - يرى المتنبي نفسه فوق الجميع وهذا ما صرّح به قائلاً:
أي مكان أرتقي أي عدو أتق  _ وكل ما خلق الله ولم يخلق_ محتقر في همتي كشعرة في مفرقي_
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود

[16] - الملفوظات الثابتة التقريريةCONSTATIFS    والتي تمثل حالات أشياء وهي قابلة لأنّ تكون حقيقية أو خاطئة
- الملفوظات الانجازية PERFORNATIFS   وترتبط بشرط تحقيقها التي يحملها حال النطق بها وبمساعدة بعض الشروط الظرفية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق